(الصفحة 129)
لو ادّعى مدّع لمن تقدّم من الفلاسفة . . . مثل دعواكم في القرآن ، فقال : الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس ، إ نّ إقليدس ادّعى أنّ الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه ، أكانت نبوّته تثبت؟»(1) .
ثمّ أجاب الرافعي عنه بما ليس بجواب ، بل الجواب عنه ما ذكرناه في ردّ بعض الأوهام السابقة (2). ثمّ قال : «وقد قيل : إنّ هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سمـّاه «التاج» ولم نقف على شيء منه في كتاب من الكتب ، مع أنّ أبا الفداء نقل في تاريخه أ نّ العلماء قد أجابوا عن كلّ ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من كفرياته ، وبيّنوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة ، والذي نظنّه أنّ كتاب «ابن الراوندي» إنّما هو في الاعتراض على القرآن ، ومعارضته على هذا الوجه من المناقضة ، كما صنع في سائر كتبه كـ «الفريد» ، و«الزمرّدة» ، و«قضيب الذهب» ، و«المرجان»(3); فإنّها فيما وصفت به ظلمات بعضها فوق بعض ، وكلّها اعتراض على الشريعة والنبوّة بمثل تلك السخافة التي لا يبعث عليها عقل صحيح ، ولا يقيم وزنها علم راجح(4) .
- (1) إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة : 125 ـ 126 .
(2) فى ص 99 ـ 101 .
(3) في هامش الإعجاز : «يخيّل إلينا أنّ ابن الراوندي كان ذا خيال ، وكان فاسد التخيّل ، وإلاّ فما هذه الأسماء ؟ وأين هي ممّا وضعت له؟ والخيال الفاسد أشدّ خطراً على صاحبه من الجنون ; لأ نّه فساد في الدماغ ، ولأنّه حديث متوثّب ، فما يملك معه الدين ولا العقل شيئاً ، وأظهر الصفات في صاحبه الغرور» .
(4) فيه أيضاً : «كتبنا هذا للطبعة الاُولى ، ثمّ وقفنا بعد ذلك على أنّ كتاب «التاج» يحتجّ فيه صاحبه لقدم العالم ، وأ نّه ليس للعالم صانع ولا مدبِّر ولا محدث ولا خالق . أمّا كتابه الذي يطعن فيه على القرآن فاسمه «الدامغ» ، قالوا : إنّه وضعه لابن لاوي اليهودي ، وطعن فيه على نظم القرآن ، وقد نقضه عليه أبو الحسين الخيّاط وأبو علي الجبائي ، قالوا : ونقضه على نفسه ، والسبب في ذلك أ نّه كان يؤلّف لليهود والنصارى الثنوية وأهل التعطيل ، بأثمان يعيش منها ، فيضع لهم الكتاب بثمن يتهدّدهم بنقضه وإفساده إذا لم يدفعوا له ثمن سكوته . قال أبو عبّاس الطبري : إنّه صنّف لليهود كتاب «البصيرة» ردّاً على الإسلام ، لأربعمائة درهم أخذها من يهود سامراء ، فلمّا قبض المال رام نقضه حتّى اُعطوه مائة درهم اُخرى ، فأمسك عن النقض ! أ مّا ما قيل من معارضته للقرآن فلم يعلم منها إلاّ ما نقله صاحب «معاهد التخصيص» قال : اجتمع ابن الراوندي هو ، وأبو علي الجبائي يوماً على جسر بغداد ، فقال له : يا أبا علي ، ألا تسمع شيئاً من معارضتي للقرآن ونقضي له؟ قال الجبائي : أنا أعلم بمخازي علومك ، وعلوم أهل دهرك ، ولكن اُحاكمك إلى نفسك ، فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة ، وتشاكلاً وتلاؤماً ، ونظماً كنظمه ، وحلاوة كحلاوته؟ قال : لا والله . قال : قد كفيتني ، فانصرف حيث شئت . ويقال : إنّ ابن الراوندي كان أبوه يهوديّاً وأسلم ، والخلاف في أمره كثير ، وبلغت مصنّفاته مائة كتاب وأربعة عشر كتاباً» .
(الصفحة 130)
وقد ذكر المعرّي هذه الكتب في رسالة الغفران ، ووفى الرجل حسابه عليها ، وبصق على كتبه مقدار دلو من السجع ! وناهيك من سجع المعرّي الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنى !
وممّا قاله في «التاج» : «وأ مّا تاجه فلا يصلح أن يكون نعلاً . . وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة : «أفٍّ وتفّ (1) ، وجورب وخفّ ؟ قيل : وما جورب وخفّ؟ قالت : واديان بجهنّم»(2) .
وهذا يشير إلى أنّ الكتاب كذب واختلاق ، وصرف لحقائق الكلام كما فعلت الكاهنة ، وإلاّ فلو كانت معارضته لنقض التحدّي ـ وقد زعم أ نّه جاء بمثله ـ لما خلت كتب التاريخ والأدب والكلام من الإشارة إلى بعض كلامه في المعارضة ، كما أصبنا من ذلك لغيره(3) (انتهى ما في كتاب الإعجاز)(4) .
ونقل أ نّ الكتب التي صنّفها هي :
- (1) الأفّ: وسخ الاُذن ، والتفّ: وسخ الأنف . هامش إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 127 .
(2) رسالة الغفران ، لأبي العلاء المعرّي: 324 ـ 325 .
(3) في هامش إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة : في ص111 ج2 من هامش الكامل: أسماء الذين كانوا يطعنون على القرآن ، ويصنعون الأخبار ويبثّونها في الأمصار ، ويضعون الكتب على أهله .
(4) إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 126 ـ 127 .
(الصفحة 131)
1 ـ التاج في قدم العالم .
2 ـ الزمرّدة في إبطال الرسالة .
3 ـ نعت الحكمة في الاعتراض بالبارئ ـ تبارك وتعالى ـ من جهة تكليفه للعباد .
4 ـ الدامغ في الطعن على نظم القرآن .
5 ـ قضيب الذهب في حدوث علم البارئ .
6 ـ الفريد في الطعن على النبيّ .
7 ـ المرجان في اختلاف أهل الإسلام(1) .
وحكي أنّه قد نقض على أكثر كتبه ، وردّه أبو الحسين الخيّاط وأبو علي الجبائي ، هذا حال الرجل في محيط العامّة (2) .
وأمّا أصحابنا ، فقد ذكر المحدِّث القمّي(قدس سره) في كتاب «الكنى والألقاب» الرجل ، ووصفه بالعالم المقدّم المشهور ، له مقالة في علم الكلام ، وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وله من الكتب المصنّفة نحو من مائة وأربعة عشر كتاباً . قال : «وكان عند الجمهور يرمى بالزندقة والإلحاد» ، وحكى عن الروضات أ نّه قال : وعن ابن شهرآشوب في كتابه «المعالم» : أنّ ابن الراوندي هذا مطعون عليه جدّاً ، ولكنّه ذكر السيِّد الأجلّ المرتضى في كتابه «الشافي في الإمامة» أ نّه إنّما عمل الكتب التي قد شنع بها عليه مغالطة للمعتزلة ; ليبيّن لهم عن استقصاء نقصانها ، وكان يتبرّأ منها تبرّأ ظاهراً ، وينتحي من علمها وتصنيفها إلى غيره ، وله كتب سداد ، مثل كتاب الإمامة ، والعروس ، ثمّ قال : ساق صاحب الروضات الكلام في ترجمته ، وفي آخره أ نّ صاحب رياض العلماء قال : ظنّي أنّ السيّد المرتضى نصّ
- (1 ، 2) رسالة الغفران : 232 ، المنتظم: 13 / 108 ، الوافي بالوفيات: 8 / 233ـ 234 .
(الصفحة 132)
على تشيّعه وحسن عقيدته في مطاوي الشافي أو غيره»(1) انتهى .
ومن ذلك يظهر أنّ رمي الجمهور له بالزندقة والإلحاد إنّما كان لأجل استبصاره واتّباعه لمذهب الحقّ ، واختياره التشيّع والعقيدة الصحيحة ; ولذا طعنوا عليه بأنّ اختياره لذلك إنّما هو لأجل أ نّه لم يجد فرقة من فرق الاُمّة تقبله ، تلويحاً بأنّه ليست الشيعة من فرق الاُمّة الإسلاميّة ، والحكم هو العقل والوجدان ، والحاكم هو الدليل والبرهان .
8 ـ كاتب رسالة «حسن الإيجاز»(2)
وهو كُتيِّب صدر من المطبعة الانجليزيّة الأمريكيّة ببولاق مصر سنة 1912 الميلاديّة ; فإنّه ذكر في رسالته أ نّه يمكن معارضة القرآن بمثله ، وأتى بهذا العنوان جملاً اقتبسها من القرآن ، مع تغيير بعض ألفاظه ، وحذف بعض آخر ، مثل ما ذكر في معارضة سورة الكوثر من قوله : «إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلِّ لربِّك وجاهر ، ولا تعتمد قول ساحر»، وما ذكر في معارضة سورة الفاتحة من قوله : «الحمد للرحمن ، ربّ الأكوان ، الملك الديّان ، لك العبادة وبك المستعان ، إهدنا صراط الإيمان» وزعم أنّ هذا القول واف لجميع مقاصد سورة الفاتحة ، ويمتاز عنها بكونه أخصر منها .
أقول : لابدّ قبل المقايسة بين جمله ـ التي أتعب بها نفسه ، مع كونها مقتبسة من الكتاب ـ وبين السورتين من بيان معنى المعارضة ، وتعليم هذا الكاتب الجاهل وهدايته إلى حقيقة هذه اللفظة ، وتوضيح مفهومها ، وأ نّ المألوف في معارضة كلام
- (1) الكنى والألقاب : 1 / 287 ـ 288 ، روضات الجنات: 1 / 193 ـ 195 ، معالم العلماء : 144 ، الرقم 1007 ، الشافي: 1 / 87 .
(2) لم نعثر عليها. نعم، ذكر بعض ما جاء فيها في البيان في تفسير القران: 95 ـ 101 وأجاب عنه.
(الصفحة 133)
من نثر أو نظم ماذا؟ أفيصدق معنى معارضة الشعر مثلاً ، بأن يأتي المعارض بذلك الشعر ، مع تغيير في بعض ألفاظه بوضع لفظ آخر يتّحد معناه معه مكانه ، فإذا كانت حقيقة المعارضة متحقّقة بذلك ، فلا يكون من له أدنى اطّلاع من لغة ذلك الشعر عاجزاً عن الشعر والإتيان بالمعارض ، وإن لم يكن له القريحة الخاصّة الشعريّة الباعثة له على ذلك بوجه أصلاً ، بحيث لا يكاد يقدر على الإتيان ببيت من عند نفسه .
وهل تكون المعارضة مع الكاتب بتبديل بعض الألفاظ ، وحذف البعض الآخر ؟! فإذن تكون معارضة كلّ كلام بهذه المثابة ممكنة جدّاً ، أكانت المعارضة بهذا النحو غير مقدورة لمعاصري نزول الكتاب من الفصحاء البارعين ، والبلغاء المتبحِّرين ؟!
وكان مضيّ أكثر من ثلاثة عشر قرناً من حين النزول لازماً لأن يعلو مستوى العلم ويدرج البشر مراتب الكمال ; ليظهر كاتب هذه الرسالة ، ويقدر على الإتيان بالمعارض بمثل ما ذكر ، بعدما لم يكن في تلك القرون من كان قادراً على الإتيان بمثله ، وإذا كان الأمر كذلك فكان ينبغي له ادّعاء النبوّة والتحدّي بما أتى به من الكلمات ; لأ نّ المفروض عدم قدرة غيره على الإتيان بمثله ، وإلاّ لأتى به .
فمتى ينزل البشر عن مركب الهوى والعصبيّة المهلكة ؟! ومتى يُلقي زمام اُمور عقائده وأفعاله على العقل السليم ؟! ومتى ينكشف له أ نّ إضلال الناس بما لا يعتقد به من أشدّ المعاصي وأعظم الجرائم ؟! وممّا لا يعفى عنه ، ويغضّ منه ، ولكنّ الأسف ـ كماله ـ من جهل الناس ، وبعدهم عن الحقائق ، وتخيّلهم أنّ مثل كاتب الرسالة ممّن له حظّ وافر من العلم ، ولا يقصد من نشر رسالته إلاّ نشر العلم ، وكشف الحقيقة ، مع أنّه من الواضح كون مثله أجيراً لعمّال الاستعمار ، ناشراً لأفكارهم السخيفة ، ونواياهم السيّئة التي لا تنتهي إلاّ إلى خذلان المسلمين ،