(الصفحة 125)
طليحة لهم : «والحمام واليمام ، والصرد الصوّام ، قد صمُن قبلكم بأعوام ، ليبلغنّ ملكُنا العراق والشام»(1) واليمام الحمام البرّي .
5 ـ النضر بن الحارث بن كلدة
هو ، وعقبة بن أبي معيط ، وعاص بن وائل السهمي ; هم الذين بعثتهم قريش إلى نجران ; ليتعلّموا مسائل يسألونها رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وعن المناقب ، عن الكلبي: كان النضر بن الحارث يتّجر فيخرج إلى فارس ، ويشتري أخبار الأعاجم ، فيرويها ويحدِّث بها قريشاً ، ويقول لهم: «إنّ محمّداً عليه الصلاة والسلام يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا اُحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة» فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فنزلت فيه هذه الآية (وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَ يَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَـئـِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (2) .
ونقل أ نّ في أيّام الشعب كان من دخل من العرب مكّة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن ابتاع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان النضر ورفيقاه وأبو جهل يخرجون من مكّة إلى الطرقات التي تدخل مكّة ، فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذِّروه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله(3) .
هذا ، ولكنّ الرجل لم يكن له داعية النبوّة ، ولكنّه يزعم إمكان معارضته للقرآن ، وبسبب حماقته لم يعتن به المؤرِّخون والاُدباء ، ولم يقع شيء ممّا أتى به بهذا العنوان مورداً لتوجّه من له أدنى خبرة بالبلاغة والفصاحة ، فضلاً عن غيرهما
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 260 ، حوادث سنة 11 هـ ، الكامل في التاريخ: 2 / 205 ـ 206 .
(2) أسباب النزول: 200 ، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب : 1 / 52 . والآية في سورة لقمان 31: 6 .
(3) إعلام الورى: 1 / 125 .
(الصفحة 126)
من الشؤون المختلفة الموجودة في القرآن المثبتة لإعجازه ، كما عرفت شطراً منها فيما تقدّم (1).
6 ـ أبو الحسن عبدالله بن المقفّع الفارسي
الفاضل المشهور الماهر في صنعة الإنشاء والأدب ، كان مجوسيّاً أسلم على يد عيسى بن عليّ عمّ المنصور بحسب الظاهر ، وكان كابن أبي العوجاء ، وابن طالوت ، وابن الأعمى على طريق الزندقة ، وهو الذي عرّب كتاب «كليلة ودمنة» وصنّف الدرّة اليتيمة ، وكان كاتباً لعيسى المذكور(2) .
وقد زعم بعض أ نّه عارض القرآن مدّة ، ثمّ ندم على ذلك ومزّق ما كتبه في هذه الجهة ، ونقل أ نّ السبب في ندامته ، ورجوعه عن عزيمته أ نّه حينما كان يعارض القرآن وصل إلى هذه الآية الشريفة: (وَ قِيلَ يَـأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَ يَـسَمَآءُ أَقْلِعِى) (3) إلخ فقال: إنّ المعارضة مع هذه الآية خارجة عن الاستطاعة البشريّة ، فرفع اليد عنها ومزّق ما كتبه في ذلك(4) .
قال الرافعي صاحب كتاب «إعجاز القرآن» في تعريف الرجل: «زعموا أ نّه اشتغل بمعارضة القرآن مدّة ، ثمّ مزّق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره» ثمّ قال: «وهذا عندنا إنّما هو تصحيح من بعض العلماء ، ولما تزعمه الملحدة من أنّ كتاب «الدرّة اليتيمة»(5) لابن المقفّع ، هو في معارضة القرآن ، فكأنّ الكذب لا يدفع إلاّ
- (1) فى ص 27 ـ 86 .
(2) الأعلام للزركلي: 4 / 140 .
(3) سورة هود 11 : 44 .
(4) راجع البرهان في علوم القرآن: 2 / 95 ، وإعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 124 والاحتجاج: 2 / 307 .
(5) كتب في هامش إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 124 في شأن الكتاب: «طبع هذا الكتاب مراراً، وهو من الرسائل الممتعة ، يعدّ طبقة من طبقات البلاغة العربيّة ، ولكنّه في المعارضة ليس هناك لا قصداً ولا مقاربة ، ونحن لا نرى فيه شيئاً لا يمكن أن يؤتى بأحسن منه ، وما كلّ ممتع ممتنع . وقال الباقلاني: إنّه منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة ، وهذا هو الرأي ; فإنّ ابن المقفّع لم يكن إلاّ مترجماً ، وكان ينحط إذا كتب ، ويعلو إذا ترجم ; لأنّ له في الاُولى عقله ، وفي الثانية كلّ العقول ، وفي «اليتيمة» عبارات وأساليب مسروقة من كلام الإمام علي(عليه السلام) .
(الصفحة 127)
بالكذب ، وإذا قال هؤلاء : إنّ الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوّته وفصاحته ، وإنّه في ذلك من وزن القرآن وطبقته ، وابن المقفّع هو من هو في هذا الأمر ، قال أولئك: بل عارض ومزّق واستحيا لنفسه . . .!
أ مّا نحن فنقول: إنّ الروايتين مكذوبتان جميعاً ، وإنّ ابن المقفّع من أبصر الناس باستحالة المعارضة ; لا لشيء من الأشياء ، إلاّ لأنّه من أبلغ الناس ، وإذا قيل لك: إنّ فلاناً يزعم إمكان المعارضة ، ويحتجّ لذلك ، وينازع فيه ، فاعلم أنّ فلاناً هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين : إمّا جاهل يصدق في نفسه ، وإمّا عالم يكذب على الناس ، ولن يكون (فلان) ثالث ثلاثة !
وإنّما نسبت المعارضة لابن المقفّع دون غيره من بلغاء الناس ; لأنّ فتنة الفرق الملحدة إنّما كانت بعده ، وكان البلغاء كافّة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه ، ثمّ كان ابن المقفّع متّهماً عند الناس في دينه ، فدفع بعض ذلك إلى بعض ، وتهيّأت النسبة من الجملة .
ولو كانت الزندقة فاشية أيّام عبد الحميد الكاتب (1) ، وكان متّهماً بها ، أو كان له عرق في المجوسيّة ، لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة ، لا لأ نّه زنديق ، ولكن لأنّه بليغ يصلح دليلاً للزنادقة .
- (1) عبد الحميد بن يحيى بن سعد العامري ، المعروف بالكاتب ، توفّي سنة 132 هـ عالم كاتب أديب بليغ ، له رسائل تقع في نحو ألف ورقة ، فهو أوّل من أطال الرسائل ، واستعمل التحميدات في فصول الكتب ، كان كاتباً في ديوان مروان بن محمد آخر ملوك بني اُميّة في المشرق ، وأبى مفارقته حتى قتل معه بمصر من قبل العباسيّين (الأعلام للزركلي 3: 289 ـ 290 ) .
(الصفحة 128)
وزعم هؤلاء الملحدة أيضاً أ نّ حكم قابوس بن وشمكير(1) وقصصه هي من بعض المعارضة للقرآن ، فكأنّهم يحسبون أنّ كلّ ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار ، فتلك سبيله ، وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا ؟ ومثل قولهم : إنّ القصائد السبع المسمّـاة بالمعلّقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها ؟»(2) . انتهى كلامه، وحديث قتله معروف مذكور في التواريخ والسير (3).
7 ـ أبو الحسين أحمد بن يحيى، المعروف بابن الراوندي
وقد وقع الخلاف في ترجمة الرجل بين العامّة والخاصّة ، بحيث إذا قصرنا النظر على خصوص الطائفة الاُولى وما ترجموا به الرجل ، لكان اللاّزم الحكم عليه بأنّه من الملاحدة ، والطاعنين على الإسلام ، بل على جميع الأديان ، وإذا لاحظنا ما قاله الخاصّة في شأنه ـ ولا سيّما بعض الأعلام الأقدمين ـ لكان اللاّزم الرجوع عن ذلك ، والحكم بخلافه ، بل بأنّه من خواصّ الشيعة وأعلامهم ، ولا بأس بإيراد كلام الفريقين ، ونقتصر ممّا قاله العامّة على ما أورده الرافعي في كتابه «إعجاز القرآن» متناً وهامشاً بعين ألفاظه ، قال بعد العنوان المذكور :
«كان رجلاً غلبت عليه شقوة الكلام ، فبسط لسانه في مناقضة الشريعة ، وذهب يزعم ويفتري ، وليس أدلّ على جهله ، وفساد قياسه ، وأ نّه يمضي في قضيّة لا برهان له بها من قوله في كتاب «الفريد» : إنّ المسلمين احتجّوا لنبوّة نبيّهم بالقرآن الذي تحدّى به النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فلم تقدر على معارضته ، فيقال لهم : أخبرونا:
- (1) قابوس بن وشمكير ، توفّي سنة 403 هـ ، كنيته أبو الحسن ولقبه شمس المعالي ، كان نابغةً في الأدب والإنشاء ، جمعت رسائله في كتاب واحد سمّي (كمال البلاغة) وله شعر جيّد بالعربيّة والفارسيّة (الأعلام للزركلي 5 : 170 .) (2) إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 124 ـ 125 .
(3) مثل وفيات الأعيان 2: 152 ـ 153، وسير أعلام النبلاء 6: 406، الرقم 935 .
(الصفحة 129)
لو ادّعى مدّع لمن تقدّم من الفلاسفة . . . مثل دعواكم في القرآن ، فقال : الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس ، إ نّ إقليدس ادّعى أنّ الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه ، أكانت نبوّته تثبت؟»(1) .
ثمّ أجاب الرافعي عنه بما ليس بجواب ، بل الجواب عنه ما ذكرناه في ردّ بعض الأوهام السابقة (2). ثمّ قال : «وقد قيل : إنّ هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سمـّاه «التاج» ولم نقف على شيء منه في كتاب من الكتب ، مع أنّ أبا الفداء نقل في تاريخه أ نّ العلماء قد أجابوا عن كلّ ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من كفرياته ، وبيّنوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة ، والذي نظنّه أنّ كتاب «ابن الراوندي» إنّما هو في الاعتراض على القرآن ، ومعارضته على هذا الوجه من المناقضة ، كما صنع في سائر كتبه كـ «الفريد» ، و«الزمرّدة» ، و«قضيب الذهب» ، و«المرجان»(3); فإنّها فيما وصفت به ظلمات بعضها فوق بعض ، وكلّها اعتراض على الشريعة والنبوّة بمثل تلك السخافة التي لا يبعث عليها عقل صحيح ، ولا يقيم وزنها علم راجح(4) .
- (1) إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة : 125 ـ 126 .
(2) فى ص 99 ـ 101 .
(3) في هامش الإعجاز : «يخيّل إلينا أنّ ابن الراوندي كان ذا خيال ، وكان فاسد التخيّل ، وإلاّ فما هذه الأسماء ؟ وأين هي ممّا وضعت له؟ والخيال الفاسد أشدّ خطراً على صاحبه من الجنون ; لأ نّه فساد في الدماغ ، ولأنّه حديث متوثّب ، فما يملك معه الدين ولا العقل شيئاً ، وأظهر الصفات في صاحبه الغرور» .
(4) فيه أيضاً : «كتبنا هذا للطبعة الاُولى ، ثمّ وقفنا بعد ذلك على أنّ كتاب «التاج» يحتجّ فيه صاحبه لقدم العالم ، وأ نّه ليس للعالم صانع ولا مدبِّر ولا محدث ولا خالق . أمّا كتابه الذي يطعن فيه على القرآن فاسمه «الدامغ» ، قالوا : إنّه وضعه لابن لاوي اليهودي ، وطعن فيه على نظم القرآن ، وقد نقضه عليه أبو الحسين الخيّاط وأبو علي الجبائي ، قالوا : ونقضه على نفسه ، والسبب في ذلك أ نّه كان يؤلّف لليهود والنصارى الثنوية وأهل التعطيل ، بأثمان يعيش منها ، فيضع لهم الكتاب بثمن يتهدّدهم بنقضه وإفساده إذا لم يدفعوا له ثمن سكوته . قال أبو عبّاس الطبري : إنّه صنّف لليهود كتاب «البصيرة» ردّاً على الإسلام ، لأربعمائة درهم أخذها من يهود سامراء ، فلمّا قبض المال رام نقضه حتّى اُعطوه مائة درهم اُخرى ، فأمسك عن النقض ! أ مّا ما قيل من معارضته للقرآن فلم يعلم منها إلاّ ما نقله صاحب «معاهد التخصيص» قال : اجتمع ابن الراوندي هو ، وأبو علي الجبائي يوماً على جسر بغداد ، فقال له : يا أبا علي ، ألا تسمع شيئاً من معارضتي للقرآن ونقضي له؟ قال الجبائي : أنا أعلم بمخازي علومك ، وعلوم أهل دهرك ، ولكن اُحاكمك إلى نفسك ، فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة ، وتشاكلاً وتلاؤماً ، ونظماً كنظمه ، وحلاوة كحلاوته؟ قال : لا والله . قال : قد كفيتني ، فانصرف حيث شئت . ويقال : إنّ ابن الراوندي كان أبوه يهوديّاً وأسلم ، والخلاف في أمره كثير ، وبلغت مصنّفاته مائة كتاب وأربعة عشر كتاباً» .