(الصفحة 261)
بالإضافة إلى بعض أفرادها ، فلا مانع حينئذ من أن يكون ما قدّمناه من الأدلّة السبعة القاطعة على عدم التحريف في القرآن المجيد بمنزلة الدليل المخصّص للعامّ ، ويكون مقتضى الرواية بعد التخصيص وقوع جميع ما وقع في الاُمم السالفة في هذه الاُمّة إلاّ التحريف الذي قام الدليل على عدمه فيها .
وإن كانت بنحو يكون سياقها آبياً عن التخصيص ، ويؤيّده قوله (صلى الله عليه وآله) في بعض تلك الروايات : «حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه »(1) . و«حتّى لو أ نّ أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه» (2) .
فيردّه ـ مضافاً إلى مخالفته لصريح القرآن الكريم ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) (3)، حيث دلّ على عدم وقوع التعذيب مع كون النبيّ(صلى الله عليه وآله) في المسلمين ووجوده بينهم ، والضرورة قاضية بوقوع التعذيب في بعض الاُمم السالفة مع كون نبيّهم فيهم ـ : أ نّ كثيراً من الوقائع التي حدثت في الاُمم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الاُمّة ، كعبادة العجل(4) ، وتيه بني إسرائيل أربعين سنة(5) ، وغرق فرعون وأصحابه(6) ، وملك سليمان للإنس والجنّ(7) ، ورفع عيسى إلى السماء(8) ، وموت هارون ـ وهو وصيّ موسى ـ قبل موت موسى نفسه(9) ، وإتيان
- (1) تقدّمت في ص258 عن تفسير القمّي .
(2) المستدرك على الصحيحين: 4 / 502 ، كتاب الفتن والملاحم ح 8404 .
(3) سورة الأنفال 8: 33 .
(4) سورة البقرة 2: 51 ، 54 ، 92 و 93 ، وسورة النساء 4: 153 ، وسورة الأعراف 7: 152 .
(5) سورة المائدة 5 : 26 .
(6) سورة الإسراء 17: 103 وغيرها .
(7) سورة النمل 27: 17 . (8) سورة النساء 4: 157 ـ 158 . (9) تفسير القمّي 2: 137 ، وعنه بحار الأنوار 13: 27 قطعة من ح2 .
(الصفحة 262)
موسى بتسع آيات بيّنات(1) ، وولادة عيسى من غير أب(2) ، ومسخ كثير من السابقين قردةً وخنازير(3) ، وغير ذلك من الوقائع التي لم يصدر مثلها في هذه الاُمّة ، وبعضها غير قابل للصدور فيما بعد من الأزمنة أيضاً ، كما هو واضح لا يخفى .
وممّا ذكرنا ظهر أ نّه لو كان المراد ممّن كان من قبلكم خصوص اليهود والنصارى أيضاً ـ كما يؤيّده بعض الروايات المتقدّمة على تأمّل ـ فالجواب أيضاً باق على قوّته ; لأنّ كثيراً من الموارد التي ذكرناها قد وقع في خصوص الاُمّتين : اليهود والنصارى ، ولم يقع أو لن يقع فينا أصلاً .
وعلى ما ذكر فلابدّ من ارتكاب خلاف الظاهر فيها ، والحمل على إرادة المشابهة في بعض الوجوه ، وعلى ذلك فيكفي في وقوع التحريف في هذه الاُمّة عدم اتّباعهم لحدود القرآن ، وعدم رعايتهم لأحكامه وحدوده ، وقوانينه وشرائعه ، وهذا أيضاً نوع من التحريف . كما أنّ الاختلاف والتفرّق بين الاُمّة وانشعابها إلى مذاهب مختلفة ، وافتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة ـ كما افترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين ، واليهود إلى إحدى وسبعين على ما هو مقتضى الروايات الكثيرة ، بل المتواترة(4) الدالّة على هذا المعنى ـ تحريف أيضاً ; لأجل استناد كلّ منهم إلى القرآن الذي فسّروه على طبق الرأي والاعتقاد ، والاستنباط والاجتهاد ، ويؤيّده أ نّ العلاّمة المجلسي(قدس سره) أورد رواية الصدوق المتقدّمة(5) في باب افتراق الاُمّة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) على ثلاث وسبعين فرقة .
ويؤيّد كون المراد هو التشابه ما رواه ابن الأثير في محكيّ جامع الاُصول عن
- (1) سورة الإسراء 17: 101 .
(2) سورة البقرة 2: 45 ـ 47 .
(3) سورة المائدة 5: 60 .
(4) بحار الأنوار 28: 2 ـ 36، باب افتراق الاُمّة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
(5) في ص258 .
(الصفحة 263)
سنن الترمذي ، عن أبي واقد الليثي: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا خرج إلى خيبر مرّ بشجرة للمشركين يُقال لها : ذاتُ أنواط يُعلّقون عليها أسلحتهم ، فقالوا : يارسول الله ، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط . فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : سبحان الله هذا كما قال قوم موسى (عليه السلام) : ( اجْعَل لَّنَآ إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ) (1) ، والذي نفسي بيده لتركبنّ سُنّة من كان قبلكم (2) .
وما رواه في الكافي عن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله ـ تعالى ـ : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَق) (3) قال : يا زرارة أولم تركب هذه الاُمّة بعد نبيّها طبقاً عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان؟!(4) .
قال بعض المحقّقين(5) : «أي كانت ضلالتهم بعد نبيّهم مطابقة لما صدر من الاُمم السابقة من ترك الخليفة واتّباع العجل والسامريّ وأشباه ذلك » .
- (1) سورة الأعراف 7: 138 .
(2) سنن الترمذي: 4 / 475 ، كتاب الفتن ب 18 ح 2185 . وفي هامشها: ذات أنواط: شجرة ذات تعاليق تعلّق بها سيوفهم ، ويعكفون عليها ، كما كان يفعل المشركون ، جامع الاُصول: 10 / 34 ح 7492، وفيه: غزوة حنين .
(3) سورة الانشقاق 84: 19 .
(4) الكافي: 1 / 415 ، كتاب الحجّة ب 108 ح 17 . وعنه بحار الأنوار 24: 350 ح64، وتفسير كنز الدقائق 11: 271، وتفسير نور الثقلين 5: 539 ح21 . وفي تفسير الصافي 5: 306، والبرهان في تفسير القرآن 5: 619 ح11497 و 11498 عنه وعن تفسير القمّي 2: 413 .
(5) أي المجلسي في بحار الأنوار: 24 / 350 ذ ح64 .
(الصفحة 264)
الشبهة الثانية
إنّ كيفيّة جمع القرآن وتأليفه مستلزمة عادةً لوقوع التغيير والتحريف فيه ، وقد أشار إلى ذلك العلاّمة المجلسي(قدس سره) في محكيّ «مرآة العقول» ، حيث قال : والعقل يحكم بأنّه إذا كان القرآن متفرّقاً منتشراً عند الناس ، وتصدّى غير المعصوم لجمعه يمتنع عادةً أن يكون جمعه كاملاً موافقاً للواقع (1) .
وهذه الشبهة تتوقّف :
أوّلاً : على عدم كون القرآن مجموعاً مرتّباً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإنّما كان منتشراً متشتّتاً عند الأصحاب في الألواح والصدور ، مع احتمال أ نّه لم يكن بعضه عند أحد منهم ، كما اُشير إليه في بعض الأخبار . نعم ، جمعت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) نسخة متفرّقة في الصحف والحرير والقراطيس ، ورثها عليّ (عليه السلام) ، ولمّا جمعها بعده بأمره ووصيّته ، وألّفه كما أنزل الله تعالى ، ثمّ عرضها عليهم ، فأعرضوا عنه وعمّا جاء به لدواع كانت ملازمة لدعوى الخلافة وطلب الرئاسة .
وثانياً : على امتناع كون الجمع الصادر من غير المعصوم كاملاً موافقاً للواقع من دون تغيير .
فهنا دعويان :
الاُولى : عدم كون القرآن مجموعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزمانه ، والدليل على إثباتها الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب ، الّتي سيجيء(2) نقلها والجواب عنها .
الثانية : امتناع كون الجمع والتأليف الواقع موافقاً للواقع ، وقد ذكر في إثباتها
- (1) مرآة العقول : 3 / 31 ، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة(عليهم السلام) . واُنظر فصل الخطاب: 73 ـ 82 ، الباب الأوّل ، الدليل الثاني .
(2) في ص 269 ـ 300 .
(الصفحة 265)
أ نّ الذين باشروا هذا الأمر الجسيم ، وضادّوا النبأ العظيم هم أصحاب السقيفة : أبوبكر وعمر ، وعثمان ، وأبو عبيدة ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية ، واستعانوا بزيد بن ثابت .
ومن الواضح أ نّ مضامين القرآن ، ومطالبه ، ومعانيه ، وكيفيّة ترتيب آياته وكلماته وسوره ، لا تشبه كتاب مصنّف ، وتأليف مؤلّف ، وديوان شاعر ، ممّا يسهل جمعه وترتيبه لمن بلغ أدنى مرتبة من مراتب العلم ، وأخذ حظّاً قليلاً منه ، ويعلم نقصانه وتحريفه بأدنى ملاحظة ، ولا يمكن معرفة ترتيب القرآن وتماميّة جمعه من نفسه ; إذ هو موقوف على معرفة مراد الله تعالى ، وحكمة وضع ترتيب السور والآيات بالترتيب المخزون ، وكيفيّة ارتباط الآيات بعضها ببعض .
وهذا من العلوم التي قصرت أيدي المذكورين عن تناول أدنى مراتبه ، بل هم بمعزل عن تصوّر موضوعه ، وعن تصديق المتوقّف على تصديق أصله المفقود فيهم ، بل كانوا قاصرين عن معرفة نفس الآيات ، وأ نّها ممّا جاء به النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو ممّا دسّها المدلّسون ، واختلقها الكذّابون ، فاحتاجوا إلى إقامة الشهود ، فضلاً عن معرفة ارتباط بعضها بالبعض الموقوف .
وكان أعرف هؤلاء بالقرآن : زيد بن ثابت ، الذي قال عمر في حقّه : إنّ زيداً أفرضنا»(1)، مع أنّه روى الشيخ (رحمه الله) في «التهذيب»، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) : «وأشهد على زيد بن ثابت ، لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهليّة»(2) . وأمّا كتابته الوحي فكان يكتبه هو أو أُبيّ إذا لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) أو عثمان حاضراً على
- (1) الاستغاثة: 83 .
(2) الكافي 7: 407 ح 2، تهذيب الأحكام: 6 / 218 ح 512 ، وعنهما وسائل الشيعة 27: 23 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب4 ح8. وفي بحار الأنوار 104: 367 ح6 عن تفسير العيّاشي 1: 325 ح132 .