(الصفحة 197)عرض لمعاني التحريف والردّ عليه
الأمر الأوّل : فيما يستعمل فيه لفظ «التحريف» وبيان أنّ محلّ البحث ومورد النزاع ماذا؟
فنقول : قال بعض الأعلام ما لفظه :
«يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدّة معان على سبيل الاشتراك ، فبعض منها واقع في القرآن باتّفاق من المسلمين ، وبعض منها لم يقع فيه باتّفاق منهم أيضاً ، وبعض منها وقع فيه الخلاف بينهم . وإليك تفصيل ذلك :
الأوّل : نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (1) ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله ; فإنّ كلّ من فسّر القرآن بغير حقيقته ، وحمله على غير معناه فقد حرّفه . وترى كثيراً من أهل البدع والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على [ طبق] آرائهم وأهوائهم ، وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى ، وذمّ فاعله في عدّة من الروايات :
منها : رواية الكافي بإسناده عن الباقر (عليه السلام) أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير : «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية(2) .
الثاني : النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات ، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه ، وإن لم يكن في الخارج متميّزاً عن غيره .
والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعاً ، فقد أثبتنا لك فيما تقدّم(3) عدم
- (1) سورة النساء 4 : 46 .
(2) الكافي : 8 / 53 قطعة من ح16 ، وعنه بحار الأنوار: 78 / 359 قطعة من ح2 .
(3) في ص 150 ـ 162 .
(الصفحة 198)
تواتر القراءات ، ومعنى هذا أ نّ القرآن المنزل إنّما هو مطابق لإحدى القراءات ، وأمّا غيرها، فهو إمّا زيادة في القرآن ، وإمّا نقيصة فيه .
الثالث: النقص أو الزيادة بكلمة أوكلمتين مع التحفّظ على نفس القرآن المنزل.
والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام ، وفي زمان الصحابة قطعاً ، ويدلّنا على ذلك إجماع المسلمين على أنّ عثمان أحرق جملة من المصاحف ، وأمر ولاته بحرق كلّ مصحف غير ما جمعه ، وهذا يدلّ على أنّ هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه ، وإلاّ لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها ، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف ، منهم : عبدالله بن أبي داود السجستاني ، وقد سمّى كتابه هذا بكتاب المصاحف ، وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة ، إمّا من عثمان ، أو من كتّاب تلك المصاحف ، ولكنّا سنبيّن بعد هذا ـ إن شاء الله تعالى ـ أ نّ ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين ، الذي تداولوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) يداً بيد ، فالتحريف بالزيادة والنقيصة إنّما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان ، وأ مّا القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة . . .
الرابع : التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفّظ على القرآن المنزل ، والتسالم على قراءة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إيّاها .
والتحريف بهذا المعنى أيضاً واقع في القرآن قطعاً . فالبسملة مثلاً ممّا تسالم المسلمون على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قرأها قبل كلّ سورة غير سورة التوبة ، وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنّة ، فاختار جمع منهم أ نّها ليست من القرآن ، بل ذهبت المالكيّة إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة ، إلاّ إذا نوى به المصلّي الخروج من الخلاف ، وذهب جماعة اُخرى إلى أنّ البسملة من القرآن .
وأ مّا الشيعة ، فهم متسالمون على جزئيّة البسملة من كلّ سورة غير سورة
(الصفحة 199)
التوبة ، واختار هذا القول جماعة من علماء السنّة أيضاً (1) ، وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقيناً بالزيادة أو بالنقيصة .
الخامس : التحريف بالزيادة ; بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل .
والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين ، بل هو ممّا علم بطلانه بالضرورة .
السادس : التحريف بالنقيصة ; بمعنى أنّ المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء ، فقد ضاع بعضه على الناس .
والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف ، فأثبته قوم ونفاه آخرون»(2) .
انتهى كلامه(قدس سره) .
ولكنّه سيجيء(3) ـ إن شاء الله تعالى ـ في موضوع جمع القرآن وأ نّه في أيّ زمان جمع ، أ نّ الجمع كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأ نّ اختلاف مصحف عثمان مع سائر المصاحف كان في كيفيّة القراءة من دون اختلاف في الكلمات .
والعجب أ نّه بنفسه يصرّح فيما بعد بذلك، حيث يقول : «لا شكّ أنّ عثمان قد جمع القرآن في زمانه ، لا بمعنى أنّه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد ، وأحرق المصاحف الاُخرى التي تخالف ذلك المصحف ، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن
- (1) هنا تحقيق مفصّل للسيّد الخوئي(قدس سره) في كتابه «البيان» حول آية البسملة تحت عنوان: هل البسملة من القرآن؟: 439ـ 451، وانظر الإحكام في اُصول الأحكام: 1 / 215 ـ 218 .
(2) البيان في تفسير القرآن : 197 ـ 200 .
(3) في ص 283 ـ 297 .
(الصفحة 200)
الاختلاف في القراءة . . .» (1) .
وحينئذ فالاختلاف إنّما كان في القراءة لا في الكلمات ، كما سيظهر(2) إن شاء الله تعالى .
مذهب الإماميّة في عدم التحريف المتسالم عليه
الأمر الثاني : في عقيدة المسلمين في هذا الباب ، فنقول : المعروف بينهم عدم وقوع التحريف في الكتاب ، وأ نّه كما لم يقع التحريف بالزيادة إجماعاً كما عرفت ، كذلك لم يقع التحريف بالنقيصة ، وأ نّ ما بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على الرسول الاُمّي (صلى الله عليه وآله) ، وقد صرّح بعدم وقوع التحريف في الكتاب أعاظم علماء الشيعة الإمامية وأعلامهم من المتقدّمين والمتأخِّرين ، وإليك نقل بعض كلماتهم :
قال شيخ المحدّثين صدوق الطائفة في محكيّ كتاب الاعتقادات : «اعتقادنا أ نّ القرآن الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيّه محمد (صلى الله عليه وآله) هو ما بين الدفّتين ; وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك . . . ومن نسب إلينا أ نّا نقول: إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب» (3) .
وقال المفيد ـ رحمه الله تعالى ـ في أوائل المقالات : «وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنّه لم ينقص من كلمة ، ولا من آية ، ولا من سورة ، ولكن حُذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله ـ تعالى ـ الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ
- (1) البيان في تفسير القرآن : 256 .
(2) فى ص 297 .
(3) الاعتقادات ، المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد : 5 / 84 ، باب الاعتقاد في مبلغ القرآن (33) .
(الصفحة 201)
مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا) (1) . فسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف .
وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل ، والله أسأل توفيقه للصواب» (2) .
وقال السيِّد المرتضى(قدس سره) في المحكي عنه في جواب المسائل الطرابلسيّات : إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار ، والوقائع العظام والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ; فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدٍّ لم يبلغه ما ذكرناه ; لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة ، والضبط الشديد ؟
وقال أيضاً قدّس الله روحه : إنّ العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ، ككتاب سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، حتّى لو أنّ مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب ، لَعُرف وميّز ، وعلم أ نّه ملحق وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني . ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء .
وذكر أيضاً (رضي الله عنه) : أ نّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلّفاً على
- (1) سورة طه 20 : 114 .
(2) أوائل المقالات ، المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد : 4 / 81 .