(الصفحة 179)
وإمّا بحمل اللفظ على ظاهره من العموم أو الإطلاق أو غيرهما ، من دون الأخذ بالتخصيص ، أو التقييد ، أو القرينة الواردة عن الأ ئـمّة (عليهم السلام) ، وقد عرفت(1)أ نّ محلّ النزاع في حجّية ظواهر الكتاب غير ذلك .
وثالثاً : أ نّه على فرض كون الأخذ بظاهر القرآن من مصاديق التفسير بالرأي لتشمله الروايات الناهية عنه نقول :
لابدّ من الجمع بين هذه الطائفة والروايات المتقدّمة الظاهرة بل الصريحة في حجّية ظواهر الكتاب ، بحمل التفسير بالرأي الوارد في الروايات الناهية على غير هذا المصداق من المصاديق الظاهرة الواضحة ، كحمل المتشابه على التأويل الذي يقتضيه الرأي ، أو حمل الظاهر عليه من دون المراجعة إلى القرينة على الخلاف ، ولا مجال لغير هذا النحو من الجمع بعد ظهور الروايات المتقدّمة ، بل صراحتها في حجّية ظواهر الكتاب كما هو غير خفيّ .
ثانيها : دعوى اختصاص فهم القرآن بأهل الكتاب الذين اُنزل عليهم ; وهم الأ ئـمّة المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين ، ومنشأ هذه الدعوى الروايات الظاهرة في ذلك ، مثل :
مرسلة شبيب بن أنس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أ نّه قال لأبي حنيفة : أنت فقيه أهل العراق ؟ قال : نعم ، قال (عليه السلام) : فبم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) ، قال : يا أبا حنيفة ! تعرف كتاب الله حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة ! لقد ادّعيت علماً ، ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين اُنزل عليهم ! ويلك ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله) ،
(الصفحة 180)
وما ورَّثك الله من كتابه حرفاً» (1) .
ورواية زيد الشحّام قال : «دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر (عليه السلام) فقال : ياقتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : بلغني أنّك تفسِّر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم ، ـ إلى أن قال : ـ ويحك يا قتادة ! إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة ! إنّما يعرف القرآن من خُوطِبَ به»(2).
وغيرهما من الروايات الدالّة على هذا النحو من المضامين .
والجواب: أ نّه إن كان المدّعى اختصاص معرفة القرآن حقّ معرفته ـ الراجع إلى معرفة القرآن بجميع شؤونها وخصوصيّاتها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والظاهر والباطن ، وغير ذلك من الجهات ـ بالأئمّة الذين اُنزل عليهم الكتاب ، فهو حقّ ، ولكن ذلك لا ينافي حجّية الظواهر بالنحو الذي عرفت(3) أ نّه محلّ البحث ومورد النزاع على سائر الناس .
وإن كان المدّعى عدم استفادة سائر الناس من القرآن ولو كلمة ، حتّى يكون القرآن بالإضافة إلى من عدا الأ ئـمّة المعصومين (عليهم السلام) من الألغاز ، وغير قابل للفهم والمعرفة بوجه ، فالدعوى ممنوعة ، والروايتان قاصرتان عن إثبات ذلك .
- (1) علل الشرائع: 89 ـ 90 ب81 قطعة من ح5 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 47 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 6 صدر ح 27 ، وبحار الأنوار: 2 / 293 قطعة من ح113 ، وتفسير الصافي: 1 / 22 ، المقدّمة الثانية مع اختلاف يسير .
(2) الكافي: 8 / 311 ح485 ، وعنه تفسير الصافي: 1 / 21 ، المقدّمة الثانية ، و وسائل الشيعة : 27 / 185 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 13 ح25 ، وبحار الأنوار: 24 / 237 ح6 و ج46 / 349 ح2، وحلية الأبرار: 3 / 388 ب5 ح6، والبرهان في تفسير القرآن: 1 / 40 ح123 ، وج4 / 513ـ 514 ح8766 ، وعوالم العلوم والمعارف والأحوال: 19 / 310 ح1 ، وفي تأويل الآيات: 1 / 246 ح9 مختصراً .
(3) في ص170 ـ 171 .
(الصفحة 181)
أ مّا الرواية الاُولى : فظاهرة في أنّ اعتراض الإمام (عليه السلام) على أبي حنيفة إنّما هو لأجل ادّعائه معرفة القرآن حقّ معرفته ، وتشخيص الناسخ من المنسوخ وغيره ممّا يتعلّق بالقرآن ، وليس معنى قوله (عليه السلام) : «وما ورّثك الله من كتابه حرفاً» أ نّه لاتفهم شيئاً من القرآن ، ولا تعرف مثلاً معنى قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ) (1) ; ضرورة أ نّه لو كان المراد ذلك ، لكان لأبي حنيفة ـ مضافاً إلى وضوح بطلانه ـ الاعتراض على الإمام (عليه السلام) ، وأن لا يخضع لدى هذا الكلام ، مع أنّ الظاهر من الرواية خضوعه لديه وتسليمه دونه .
فالمراد منه : أ نّ الله ـ تعالى ـ قد خصّ أوصياء نبيّه (صلى الله عليه وآله) بإرث الكتاب ، وعلم القرآن بجميع خصوصيّاته ، وليس لمثل أبي حنيفة حظّ من ذلك ، ولو بالإضافة إلى حرف واحد ، فهذا القول مرجعه إلى قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (2) .
فالرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه من البحث والنزاع .
وأمّا الرواية الثانية : فالتوبيخ فيها إنّما هو على تصدّي قتادة لتفسير القرآن ، وقد عرفت أنّ الأخذ بظاهر القرآن لا يعدّ تفسيراً أصلاً ، ولا تشمله هذه الكلمة بوجه ، وعلى تقديره فمن الواضح أ نّ قتادة إنّما كان يفسّر القرآن بالرأي أو الآراء غير المعتبرة ، والتوبيخ إنّما هو على مثل ذلك . وقد مرّ(3) أنّ حمل اللفظ على ظاهره لايكون من مصاديق التفسير بالرأي قطعاً ، وعلى فرض احتماله لابدّ للمستدلّ من الإثبات وإقامة الدليل على الشمول ، ويكفي في إبطاله مجرّد احتمال العدم ، وقد شاع وثبت أ نّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .
- (1) سورة البقرة 2 : 20 .
(2) سورة فاطر 35 : 32 .
(3) في ص177 ـ 178 .
(الصفحة 182)
ثالثها : أ نّ القرآن مشتمل على المعاني الشامخة ، والمطالب الغامضة ، والعلوم المتنوّعة ، والأغراض الكثيرة ، التي تقصر أفهام البشر عن الوصول إليها ودركها ، كيف؟ ولا يكاد تصل أفهامهم إلى درك جميع معاني «نهج البلاغة» الذي هو كلام البشر ـ ولكنّه كيف بشر ! ـ بل وبعض كتب العلماء الأقدمين إلاّ الشاذّ من المطّلعين ، فكيف بالكتاب المبين الذي فيه علم الأوّلين والآخرين ، وهو تنزيل من ربّ العالمين ، نزل به الروح الأمين على من هو سيِّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الطيّبين المعصومين ، على مرور الأيّام وكرور الدهور ، وبقاء السماوات والأرضين ؟!
والجواب : أنّ اشتمال القرآن على مثل ذلك وإن كان ممّا لا ينكر ، واختصاص المعرفة بذلك بأوصياء نبيّه تبعاً له وإن كان أيضاً كذلك ، إلاّ أنّه لا يمنع عن اعتبار خصوص الظواهر التي هي محلّ البحث على ما عرفت(1) بالإضافة إلى سائر الناس ، فهذا الدليل أيضاً لا ينطبق على المدّعى .
رابعها : أ نّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات كثيرة ومقيّدات غير قليلة لعمومات الكتاب وإطلاقاته ، وكذلك نعلم إجمالاً بأنّ الظواهر التي يفهمها العارف باللغة العربيّة الفصيحة بعضها غير مراد قطعاً ، وحيث إنّه لا تكون العمومات والإطلاقات وهذه الظواهر معلومة بعينها لفرض العلم الإجمالي ، فاللاّزم عدم جواز العمل بشيء منها قضيّة للعلم الإجمالي ، وحذراً عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كالعلم الإجمالي في سائر الموارد ، بناءً على كونه منجّزاً كما هو مقتضى التحقيق .
والجواب أمّا أوّلاً : فبالنقض بالروايات ; ضرورة وجود هذا العلم الإجمالي بالإضافة إليها أيضاً ; لأنّه يعلم بورود مخصّصات كثيرة لعموماتها ، ومقيّدات
(الصفحة 183)
متعدّدة لمطلقاتها ، فاللاّزم بناءً عليه خروج ظواهرها أيضاً عن الحجّية ، مع أنّ المستدلّ لا يقول به .
وأمّا ثانياً : فبالحلّ ، بأنّ هذا العلم الإجمالي إن كان متعلّقاً بورود مخصّصات كثيرة ، ومقيّدات متعدّدة ، وقرائن متكثّرة على إرادة خلاف بعض الظواهر ووقوعها في الروايات ، بحيث لو فحصنا عنها لظفرنا بها ، فوجود هذا العلم الإجمالي وإن كان ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، إلاّ أنّه لا يمنع عن حجّية الظاهر الذي لم يظفر على دليل بخلافه بعد الفحص التامّ ، والتتبّع الكامل ; لخروجه عن دائرة العلم الإجمالي حينئذ على ما هو المفروض ، وقد عرفت(1) أنّ محلّ البحث في باب حجّية الظواهر إنّما هو هذا القسم منها .
وإن كان متعلّقاً بورودها مطلقاً ، بحيث كانت دائرة المعلوم أوسع من هذه الاُمور الواقعة في الروايات ، فنمنع وجود هذا النحو من العلم الإجمالي ; فإنّ المسلّم منه هو النحو الأوّل الذي لا ينافي حجّية الظواهر بوجه أصلاً .
خامسها : أ نّ الكتاب بنفسه قد منع عن العمل بالمتشابه ، فقد قال الله ـ تعالى ـ : (مِنْهُ ءَايَـتٌ مُّحْكَمَـتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـبِ وَأُخَرُ مُتَشَـبِهَـتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ) (2) .
وحمل اللفظ على ظاهره من مصاديق اتّباع المتشابه ، ولا أقلّ من احتمال شموله للظاهر ، فيسقط عن الحجّية رأساً .
والجواب : أ نّه إن كان المدّعى صراحة لفظ «المتشابه» في الشمول لحمل الظاهر على معناه الظاهر فيه ; بمعنى كون الظواهر من مصاديق المتشابه قطعاً ، فبطلان هذه الدعوى بمكان من الوضوح ، بداهة أنّه كيف يمكن ادّعاء كون أكثر
- (1) في ص170 ـ 171 .
(2) سورة آل عمران 3 : 7 .