(الصفحة 75)
آخر ، وكونه عيناً عليه، ناظراً له ، فهو ـ أي كلّ واحد من المسلمين ـ يتّصف بأنّه مراقب ـ بالكسر ـ ومراقب ـ بالفتح ـ ولا يتصوّر فوق هذا المعنى شيء ; ضرورة أنّ أعضاء تلك التشكيلات محدودة لا محالة ، وهي لا تتّصف إلاّ بعنوان المراقبة ـ بالكسر ـ بخلاف قانون القرآن .
والإنصاف أ نّ التدبّر في كلّ واحد من القوانين الثابتة في القرآن ـ فضلاً عن جميعها ـ لا يبقي للمرتاب شكّ ولا للمريب وهم ، ويقضي إلى الحكم الجازم ، والتصديق القطعي ، الذي لا ريب فيه بأنّه كتاب نازل من عند الله العالم الخبير ، والحكيم البصير ; كما قال الله ـ تعالى ـ : (ذَ لِكَ الْـكِتَـبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (1) .
ولكنّ الاهتداء بهدايته والاستضاءة بنوره يحتاج إلى تقوى القلب ، وسلامته عن مرض العناد والتعصّب واللجاج ، وبقائه على الفطرة الأصليّة السليمة القابلة لنور الهداية ، غير المنحرفة عن الجادّة المستقيمة ، التي يكون السالك فيها مطيعاً للفعل ، ومجتنباً عن الضلالة والجهل .
القرآن وأسرار الخلقة
من جملة وجوه الإعجاز الهادية إلى أنّ القرآن قد نزل من عند الله تبارك وتعالى; اشتماله على التعرّض لبعض أسرار الخلقة ، ورموز عالم الكون ، ممّا لا يكاد يهتدي إليه عقل البشر في ذلك العصر ، ولا سيّما من كان في جزيرة العرب ، البعيدة عن التمدّن العصري بمراحل كثيرة ، وهذه الأنباء في القرآن كثيرة ، ولعلّ مجموعها يتجاوز عن كتاب واحد ، وكما أنّ جملة ممّا أخبر به القرآن لم تتّضح إلاّ بعد توفّر
(الصفحة 76)
العلوم والاكتشافات ، وتكثّر الفنون والاختراعات ، كذلك يمكن أن يكون وضوح البعض الآخر متوقّفاً على ارتقاء العلم ، وتكامل البشر في هذا المجال الحاصل بالتدريج ومرور الأزمنة .
ومن المناسب إيراد بعض الآيات الواردة في هذا الشأن ، فنقول:
1 ـ ما ورد في شأن النبات ، وثبوت سنّة الزواج بينها كما في الحيوانات ، وأ نّ اللقاح الذي يفتقر إليه في انتاج الزوجين إنّما يحصل بسبب الرياح ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (سُبْحَـنَ الَّذِى خَلَقَ الاَْزْوَ جَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاَْرْضُ وَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) .
وقوله ـ تعالى ـ : (وَ أَرْسَلْنَا الرِّيَـحَ لَوَ قِحَ) (2) .
فإنّ الكريمة الاُولى دلّت على عدم اختصاص سنّة الزواج بالحيوانات ، بل تعمّ النباتات وما لا يعلمه الإنسان من غيرها أيضاً ، بل قدّم ذكر النبات على الإنسان في هذه السنّة ، ولعلّه إشعار بكون هذه السنّة في النباتات قهريّة بخلاف الإنسان الذي يكون الأمر فيه على طبق الاختيار والإرادة .
والآية الثانية تدلّ على أنّ اللقاح الذي يتوقّف عليه إنتاج الشجر والنبات إنّما يتحقّق بسبب الرياح ، وهذا هو الذي اكتشفه علماء معرفة النبات ، ولم يكن يدرك هذا الأمر غير المحسوس من قبل أفكار السابقين ، ولذا التجأوا إلى حمل اللقاح في الآية عل معنى الحمل الذي هو أحد معانيه ، وفسّروا الآية الشريفة بأنّ الرياح تحمل السحاب الممطرة إلى المواضع التي تعلّقت المشيئة بالإمطار فيها(3) .
- (1) سورة يس 36 : 36 .
(2) سورة الحجر 15: 22 .
(3) التفسير الكبير للفخر الرازي: 7 / 134 ـ 135، مجمع البيان : 6 / 101ـ 102 و104 ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 : 15 ـ 16 . حيث ذكروا أقوالاً في معنى (لواقح)، منها: قول ابن عباس: «الرياح لواقح للشجر وللحساب» .
(الصفحة 77)
وأنت خبير; بأنّه لا وجه للحمل على ذلك ، مضافاً إلى عدم صحّته ; لعدم كون الرياح حاملة للسحاب ، بل دافعة لها من مكان إلى آخر ، مع أنّ هذا المعنى ليس فيه اهتمام كبير وعناية خاصّة ، وهذا بخلاف الحمل على ما هو الظاهر فيه .
وحكي أ نّه لمّا اهتدي علماء أُوربا إلى هذا ، وزعموا أ نّه ممّا لم يسبقوا إليه من العلم; صرّح بعض المطّلعين على القرآن منهم بسبق العرب إليه ، فقد قال بعض المستشرقين(1): «إنّ أصحاب الإبل قد عرفوا أنّ الريح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعلمها أهل أُوربا بثلاثة عشر قرناً» .
نعم ، إنّ أهل النخيل من العرب كانوا يعرفون التلقيح; إذ كانوا ينقلون بأيديهم اللقاح من طلع ذكور النخل إلى إناثها ، ولكنّهم لم يعلموا أنّ الرياح تفعل ذلك ، وأ نّه لا تختصّ الحاجة إلى اللقاح بخصوص النخيل فقط .
2 ـ وما ورد في شأن النبات من جهة أنّ لها وزناً خاصّاً ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْء مَّوْزُون ) (2) .
فإنّ علماء معرفة النبات قد أثبتوا أنّ العناصر التي يتكوّن منها النبات مؤلّفة من مقادير معيّنة في كلّ نوع من أنواعه بدقّة غريبة لا يمكن ضبطها إلاّ بأدقّ الموازين المقدّرة ، ولو زيد في بعض أجزائها أو نقص لا يمكن حصول ذلك النبات ، بل يتحقّق مركّب آخر غير هذا النبات .
3 ـ وما ورد في شأن الأرض ، وأ نّها متّصفة بوصف الحركة ، غاية الأمر أ نّه حيث كان سكون الأرض من الاُمور المسلّمة في ذلك العصر ، بل وبعده إلى حدود
- (1) وهو المستشرق المستر «أجنيري» الأستاذ في مدرسة أكسفورد في القرن الماضي . ذكر هذا الشيخ محمد علي الصابوني الأستاذ بجامعة اُمِّ القرى بمكّة المكرّمة ، ونسب له القول المذكور في هامش كتابه «التبيان في علوم القرآن» : 188 .
(2) سورة الحجر 15 : 19 .
(الصفحة 78)
القرن العاشر من الهجرة; ولذا صار الحكيم المعروف بـ «غاليله» الكاشف لحركة الأرض والمثبت لها ، مورداً للإهانة والتعذيب والتحقير ، مع جلالته العلميّة ، ومقامه الشامخ (1) .
لم يصرّح القرآن بذلك حذراً من ترتّب النتيجة المعكوسة عليه ، وحصول نقض الغرض بسببه ، بل أشار إلى ذلك بإشارات لطيفة ، وإيماءات بليغة ليهتدي إليها البشر في عصر توفّر العلم والاكتشاف ، فيعتقد بأنّ هذا الكتاب نازل من عند الله المحيط بحقائق الأشياء ، والعالم بأسرار الكون ورموز الخليقة ، وقد تحقّقت هذه الإشارة في ضمن آيات كثيرة:
كقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ مَهْدًا) (2) .
فإنّه ـ تعالى ـ قد استعار لفظ «المهد» للأرض ، ومن البيّن أنّ الخصوصيّة المترقّبة من المهد ، المعدّ للرضيع ، والمصنوع لأجله ، والجهة الملحوظة التي بها يتقوّم عنوان المهديّة ليست هي الوضع الخاصّ ، والشكل المخصوص الحاصل من تركيب مواد مختلفة ، وضمّ بعضها إلى بعض ، بل الخصوصيّة هي حركة المهد وانتقاله من حال إلى حال .
ففي الآية الشريفة إشارة لطيفة إلى حركة الأرض ، من جهة استعارة لفظ المهد لها ، وأ نّه كما أنّ حركة المهد لغاية تربية الطفل واستراحته ، كذلك حركة الأرض تكون الغاية لها تربية الموجودات من الإنسان وغيره .
وقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا) (3) .
- (1) الهيئة والإسلام : 79 .
(2) سورة طه 20 : 53 ، سورة الزخرف 43: 10 .
(3) سورة الملك 67 : 15 .
(الصفحة 79)
فإنّه تعالى قد استعار لفظ «الذلول» للأرض ، مع أنّه عبارة عن نوع خاصّ من الإبل ، ويكون امتيازه بسهولة انقياده ، ففيه إشارة إلى أنّ الخصوصيّة الموجودة ، والذلول التي ليست لغيره ، ثابتة في الأرض ، فهي أيضاً متحرّكة بحركة ملائمة للراكب عليها ، الماشي في مناكبها . ومن البيّن أنّه مع قطع النظر عن هذه الخصوصيّة ـ وهي خصوصيّة الحركة ـ يكون إطلاق لفظ الذلول على الأرض واستعارته لها ليس له وجه ظاهر حسن ، خصوصاً مع تفريع الأمر بالمشي عليه ، وإطلاق لفظ المنكب كما هو غير خفيّ .
وقوله ـ تعالى ـ : (وَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء) (1) .
فإنّه بقرينة وقوعها في سياق الآيات الواردة في القيامة وأهوالها ، ربما يقال كما قيل بأنّ هذه الآية أيضاً ناظرة إلى أحوال القيامة وأهوالها ، مع أنّه لا وجه للحمل على ذلك المقام ، خصوصاً مع قوله ـ تعالى ـ في الذيل: (صُنْعَ اللهِ . . .) الظاهر في ارتباط الآية بشؤون الخلقة وابتدائها ، وحسنها وجمالها ، مع أنّها في نفسها أيضاً ظاهرة في أنّ المرور والحركة ثابت للجبال فعلاً ، كما أنّ حسبان كونها جامدة أيضاً كذلك ، فالآية تدلّ على ثبوت المرور والحركة للأرض من بدو خلقتها ومصنوعيّتها ، وأ نّ الحركة دليل بارز على إتقانها .
وفيها إشارات لطيفة ودقائق ظريفة :
من جهة أ نّه تعالى جعل الدليل والأمارة على حركة الأرض حركة الجبال التي هي أوتاد لها ، ولم يثبت الحركة في هذه الآية لنفس الأرض من دون واسطة ، ولعلّه للإشارة إلى أنّ حركة الجسم الكروي بالحركة الوضعيّة دون الانتقاليّة ،