(الصفحة 284)
ولم تكتبوا بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموها في السبع الطُّوَل؟ .
فقال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء ، دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا . وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها ، فظننت أنّها منها ، فقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يبيّن لنا أ نّها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم » ووضعتها في السبع الطُّوَل(1) . (2)
- (1) فضائل القرآن لأبي عبيد: 285 ـ 284 ، تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة 3: 1015ـ 1016 ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، 1: 56 ح131 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 114ـ 119 ح97 ـ100 مشكل الآثار 2: 151ـ 152 ، الكشف والبيان 5: 5 ، السنن الكبرى للبيهقي 2: 336 ح2427 ، دلائل النبوّة له 7: 152ـ 153 ، كنز العمّال 2: 579 ح4770 .
(2) الإتقان في علوم القرآن 1: 212 ، وقال السيوطي أيضاً فيه في خاتمة النوع السابع عشر ج 1/ 201 : «أخرج أحمد [ 6 : 44 ح16979] وغيره [ مسند أبي داود الطيالسي: 136 ح1012 ، مشكل الآثار 2: 154 المعجم الكبير للطبراني 22: 75 ـ 76 ح186 و 187 ، شعب الإيمان 4: 71 ح2192 وص108 ح2255 و 2256 ، مجمع الزوائد 7: 46 و 158] من حديث واثلة بن الأسقع ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اُعطيت مكان التوراة السبع الطّول ، واُعطيت مكان الزبور المِئين ، واُعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفُضِّلت بالمفصَّل . وهذه الرواية تدلّ على انقسام السور القرآنية في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبلسانه بالأقسام الأربعة ، واختصاص كلّ قسم منها بعنوان خاصّ . وقال السيوطي فيه أيضاً في خاتمة النوع الثامن عشر : 1/ 220 ، الذي تعرّض فيه لجمع القرآن وترتيبه: «السبع الطّول : أوّلها البقرة وآخرها براءة ، كذا قال جماعة ، لكن أخرج الحاكم والنسائي وغيرهما [ المستدرك على الصحيحين 2: 386 ح3353 ، السنن الكبرى للنسائي 6: 375 ح11276 ، وفي التمهيد ج 8 / 295: ثمانية بإضافة الأنفال والبراءة] عن ابن عبّاس قال : السبع الطول : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف . قال الراوي: وذكر السابعة فنسيت
ها . وفي رواية صحيحة عن ابن أبي حاتم وغيره [ تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 7: 2272 ح12444 ، شعب الإيمان 4 / 73 ح2195] ، عن مجاهد ، عن سعيد بن جبير أنّها ـ يعني السابعة ـ يونس ، وتقدّم عن ابن عبّاس مثله في النوع الأوّل ، وفي رواية عند الحاكم أ نّها الكهف . والمئون : ماولِيَها ، سمّيت بذلك ; لأنّ كلّ سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها . والمثاني: ما وَلِيَ المئين ; لأ نّها ثنتها ـ أي كانت بعدها ـ فهي لها ثوان ، والمئون لها أوائل . وقال الفرّاء: هي السورة التي آيها أقلّ من مائة آية ; لأ نّها تثنّى أكثر ممّا يثنّى الطُّوَل والمئون ، وقيل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر ، والخبر ، حكاه النكزاوي . وقال في جمال القرّاء: هي السور التي ثنيت فيها القصص ، وقد تُطلق على القرآن كلّه ، وعلى الفاتحة كما تقدّم . والمفصَّل ما ولي المثاني من قصار السور ; سمّي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة . وقيل: لقلّة المنسوخ منه ; ولهذا يسمّى بالمحكَم أيضاً ، كما روى البخاري في صحيحه [ 6: 134 ح 5035 وابن الأثير في جامع الاُصول 2: 508 ح977] عن سعيد بن جبير قال: إنّ الذي تدعونه المفصَّل هو المحكَم . وآخره سورة «الناس» بلا نزاع . وسيأتي في المتن رواية ابن عبّاس التي عبّر فيها بالمحكم ، ويحتمل أن يكون مراده خصوص السورة المفصّلة .
(الصفحة 285)
5 ـ خرّج البيهقي وأبو داود(1) عن الشعبي قال: جمع القرآن على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ستّة: أُبيّ ، وزيد ، ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبادة(عبيد خ ل) ، وأبو زيد ، ومجمَّع بن جارية قد قرأه إلاّ سورة أو سورتين (2) .
6 ـ خرّج ابن سعد في محكي «الطبقات» : أخبرنا الفضل بن دُكين ، حدّثنا الوليد بن عبدالله بن جميع ، قال: حدّثتني جدّتي عن اُمّ ورقة بنت عبدالله بن الحارث ـ وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يزورها ويسمّيها الشهيدة ، وكانت قد جمعت القرآن ، وكان رسول الله حين غزا بدراً ـ قالت له: تأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم واُمرّض مرضاكم ، لعلّ الله يهدي لي شهادة؟! قال: إنّ الله مهد لكِ شهادة (3) .
- (1) السنن الكبرى للبيهقي 9: 245 ح12437 ، مسند أبي داود الطيالسي: 270 ح2018 ، وفيهما: أربعة، بدل ستّة ، وكذا في السنن الكبرى للنسائي 5: 9 ح8000 .
(2) المعجم الكبير للطبراني 2: 261 ، تاريخ مدينة دمشق 19: 309 ، اُسد الغابة 1: 359 رقم الترجمة 665 ، تهذب الكمال 27: 245 ، مجمع الزوائد 9: 312 ، الإتقان في علوم القرآن: 1 / 248 ، النوع العشرون ، وفي بعضها: جارية بن مجمّع بن جارية.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد: 8 / 457 . الإتقان في علوم القرآن: 1 / 250 ، النوع العشرون .
(الصفحة 286)
7 ـ عن محمّد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة من الأنصار : معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأُبيّ بن كعب ، وأبوالدرداء ، وأبو أيّوب الأنصاري(1) .
8 ـ ابن عبّاس: جمعت المحكَم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2) ، بناءً على أن يكون المراد بالمحكم هو مجموع القرآن ، وأ مّا بناءً على أن يكون المراد به هو خصوص السور المفصّلة ـ كما تقدّم في عبارة السيوطي ـ فالرواية لا تدلّ على تعلّق الجمع بمجموع القرآن ، لكنّ الظاهر أنّ هذا الاحتمال بعيد .
9 ـ الرواية السادسة من الروايات المتقدّمة(3) ، المشتملة على التعليل بأنّه قُتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جمعوا القرآن .
10 ـ عن مسروق قال: ذُكر عبدالله بن مسعود عند عبدالله بن عمرو ، فقال: ذاك رجل لا أزال اُحبّه ، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود ـ فبدأ به ـ وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وأُبيّ بن كعب»(4) .
هذه هي الروايات الواردة الظاهرة في أنّ الجمع للقرآن قد تحقّق في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
أضف إلى ذلك ما ذكره محمّد بن إسحاق في الفهرست : من أنّ الجمّاع للقرآن في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) هم : عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، سعد بن عبيد بن النعمان بن عمرو بن زيد ،
- (1) الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 356 ـ 357 ، سير أعلام النبلاء 3: 354 ترجمة عبادة بن الصامت ، الإتقان في علوم القرآن: 1 / 248 ، النوع العشرون: 248 .
(2) صحيح البخاري: 6 / 134 ، كتاب فضائل القرآن ب 25 ح 5036 .
(3) في ص271 .
(4) صحيح البخاري: 4 / 276 ، كتاب مناقب الأنصار ب 16 ح 3808 ، الإتقان 1: 244 .
(الصفحة 287)
أبو الدرداء عويمر بن زيد ، معاذ بن جبل بن أوس ، أبو زيد ثابت بن زيدبن النعمان ، أُبيّ بن كعب بن قيس بن ملك بن امرئ القيس ، عبيد بن معاوية بن زيد ابن ثابت بن الضحاك(1) .
وما قاله الحارث المحاسبي(2) في محكيّ كتاب «فهم السنن» ممّا هذا لفظه: كتابة القرآن ليست بمحدثة ; فإنّه (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بكتابته ، ولكنّه كان مفرَّقاً في الرقاع والأكتاف والعُسُب ، فإنّما أمر الصدِّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعاً ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وُجدت في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فيها القرآن منتشر ، فجمعها جامع وربطها بخيط حتّى لا يضيع منها شيء(3) .
الجهة الثالثة: تعارضها مع الكتاب والعقل
إنّ هذه الروايات التي استند إليها القائل بالتحريف مخالفةٌ للكتاب والعقل:
أمّا مخالفتها للكتاب; فلأنّه قد وقع في الكتاب العزيز تعبيرات لا تتلاءم إلاّ مع تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتميّز السور بعضها عن بعض ، وحصول التأليف والتركيب بين الآيات ، بل وبين السّور ، وذلك مثل التعبير بـ «السورة» في آيات متعدّدة; كآيات التحدّي بالسورة(4) ، أو بعشر سور(5) ; فإنّ هذا التعبير لا يتلاءم
- (1) كتاب الفهرست للنديم: 30 .
(2) هو الحارث بن أسد المحاسبي ، ويكنّى أبا عبدالله ، من أكابر الصوفيّة ، كان عالماً بالاُصول والمعاملات ، له كتاب الرعاية لحقوق الله عزّوجلّ ، وهو اُستاذ أكثر البغداديّين في عصره ، توفّي ببغداد سنة 243هـ . اُنظر (وفيات الأعيان لابن خلّكان) 2: 57 ـ 58 ، وتهذيب التهذيب 2: 134 ، الرقم 226 .
(3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 206 ـ 207 ، النوع الثامن عشر .
(4) سورة البقرة 2: 23 ، سورة التوبة 9: 64 ، 86 ، 124 و 127 ، سورة يونس 10: 38 ، سورة النور 24: 1 ، سورة محمّد (صلى الله عليه وآله) 47: 20 .
(5) سورة هود 11: 13 .
(الصفحة 288)
مع تفرّق الآيات وتشتّتها ، وعدم تحقّق التأليف والتركيب بينها ; ضرورة أنّ السورة عبارة عن مجموعة آيات متعدّدة مركّبة منضمّة متناسبة من حيث الغرض المقصود منها ، فالتعبير بها لا يتناسب إلاّ مع التميّز والاختصاص .
ومثل التعبير عن القرآن بـ «الكتاب» ، كما في آيات كثيرة التي منها: قوله ـ تعالى ـ : (ذَ لِكَ الْـكِتَـبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (1) . وقوله ـ تعالى ـ : (كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِ إِلَى النُّورِ) (2) .
وقد وقع هذا الإطلاق في لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مثل حديث الثقلين المعروف بين الفريقين (3); فإنّ لفظ «الكتاب» ظاهر في المكتوب الذي كان مجموعاً مؤلّفاً ، ولو نوقش في هذا الظهور بملاحظة أصل اللغة ، فلا مجال للمناقشة بالنظر إلى العرف العامّ الذي اُلقي عليهم مثل هذه التعبيرات ; ضرورة أنّ ظهوره في المجموع المؤلّف ممّا لا ينبغي الارتياب فيه بهذا النظر ، فتدبّر .
وأ مّا مخالفتها للعقل ; فلأنّ الدعوة الإسلاميّة كانت من أوّل شروعها مبتنية على أمرين ، ومشتملة على جهتين:
إحداهما: أصل النبوّة والسفارة والوساطة .
ثانيتهما: كونه خاتمة للنبوّات والسفارات .
ومرجع الأخير إلى بقاء الدين القويم إلى يوم القيامة ، واستمرار الشريعة المقدّسة ودوامها ، بحيث لا نبيّ بعده ، ولا ناسخ له أصلاً ، «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(4) .
- (1) سورة البقرة 2 : 2 .
(2) سورة إبراهيم 14 : 1 .
(3) تقدّم في ص 172 ، 228 ـ 229 و 248.
(4) بصائر الدرجات: 148 ، الجزء الثالث ب 13 ح 7 ، الكافي: 1 / 57 ، كتاب فضل العلم ب 19 ح 19 ، وقد تقدّم في ص247 .