(الصفحة 147)
نقله متوفّرة ، وبذلك يخرج عن الآحاد ، فالمشكوك كونه قرآناً يقطع بعدم كونه منه ، وخروجه عن هذا الوصف الشريف ، نظير ما ذكروه في الاُصول من أنّ الشكّ في حجّية أمارة مساوق للقطع بعدم الحجّية ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّة عليه (1) .
والمقام نظير ما إذا أخبر واحد بدخول ملك عظيم في البلد ، مع كون دخوله فيه ممّا لا يخفى على أكثر أهله ; لاستلزامه عادة اطّلاعهم وتهيّئهم للاستقبال ونحوه من سائر الاُمور الملازمة لدخوله كذلك ، ففي مثل ذلك يكون إخبار واحد فقط موجباً للقطع بكذبه أو اشتباهه ; لاستحالة اطّلاعه فقط عادةً ، فكيف يكون الكتاب الذي هو الأساس للدين الإسلامي ، ولابدّ من أن يرجع إليه إلى يوم القيامة كلّ من يريد الأخذ بالعقائد الصحيحة ، والملكات الفاضلة ، والأعمال الصالحة ، والدساتير العالية ، والاطّلاع على القصص الماضية ، وحالات الاُمم السالفة ، وغير ذلك من الشؤون والجهات التي يشتمل عليها الكتاب العزيز ، ممّا لايكفي في ثبوته النقل بخبر الواحد ؟
وليس ذلك لأجل مجرّد كونه كلام الله تبارك وتعالى ، بل لأجل كونه كلام الله المتضمّن للتحدّي والإعجاز ، والهداية والإرشاد ، وإخراج جميع الناس من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة ، وإلاّ فمجرّد كلام الله تعالى إذا لم يكن متضمّناً لما ذكر ، كالحديث القدسي لا يلزم أن يكون متواتراً .
فقد ظهر الفرق بين مثل الكتاب الذي ليس كمثله كتاب ، وبين كلام المعصوم (عليه السلام) ـ نبيّاً كان أو إماماً ـ الذي لا ينحصر طريق ثبوته بالتواتر ; فإنّ دليل حجّية خبر الواحد الحاكي لكلام المعصوم (عليه السلام) إنّما هو ناظر إلى لزوم ترتيب الآثار
- (1) كفاية الاُصول: 279 ـ 280 ، مجمع الأفكار: 2 / 169 وج4 / 443 ، محاضرات في اُصول الفقه: 3/266 ، 276 ، مباحث الاُصول: 1 / 568 و ج2 / 71 ، 78 ، سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 187 ـ 192 .
(الصفحة 148)
عليه ، والأخذ به في مقام العمل ، ولا يلزم فيه الاعتقاد بصدوره عنه ، وأ نّه كلامه ; لأنّ الغرض مجرّد تطبيق العمل في الخارج عليه ، لا صدوره وإسناده إليه ، وهذا بخلاف كلام الله المنزل المقرون بالتحدّي والإعجاز ، ويكون هو الأساس للدين والأصل للهداية ، والميزان للخروج من ظلمات الجهل والانحراف إلى عالم نور العلم والمعرفة ; فإنّه لابدّ في مثل ذلك من وضوح كونه كلام الله ، وظهور صدوره عنه تبارك وتعالى .
أضف إلى ذلك أنّ القرآن ـ كما مرّ(1) في بحث الإعجاز مفصّلاً ـ نزل في محيط البلاغة والفصاحة ، وكان واقعاً في المرتبة التي عجز البلغاء عن النيل إليها ، والفصحاء عن الوصول إلى مثلها ، ولأجله خضع دونه البعض ، ونسب البعض الآخر إليه السحر ، ومن هذه الجهة كان موضعاً لعناية المتخصّصين في هذا الفنّ ، الذي كان هو السبب الوحيد عندهم للفضيلة والشرف ، وبه يقع التفاخر بينهم .
ومن الواضح أنّه مع هذه الموقعيّة يكون كلّ جزء من أجزائه ملحوظاً لهم ، منظوراً عندهم ، من دون فرق في ذلك بين من آمن به ، ومن لم يؤمن ، فكيف يمكن أن ينحصر نقل مثل ذلك بخبر الواحد ، كما هو غير خفيّ على من كان بعيداً عن التعصّب والعناد ، متّبعاً لحكم العقل والنظر السَّداد ؟!
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا : أنّ اتّصاف نقل القرآن بالتواتر ، وانحصاره به إنّما هو على سبيل الوجوب واللزوم ، بمعنى أنّ تواتره لا يكون مجرّد أمر واقع في الخارج ، من دون أن يكون وقوعه لازماً ، والاتّصاف بذلك واجباً ، بل الظاهر لزوم اتّصافه به ، وكون وقوعه في الخارج إنّما هو لأجل لزوم وقوعه فيه كذلك ; لعين ما تقدّم من أصل الدليل على تواتره .
(الصفحة 149)
ومناقشة المحقّق القمّي(قدس سره) في هذه الجهة ، حيث قال : «إنّه ـ يعني وجوب التواتر ـ إنّما يتمّ لو انحصر طريق المعجزة وإثبات النبوّة لمن سلف وغبر فيه ، ألا ترى أنّ بعض المعجزات ممّا لم يثبت تواتره ؟ وأيضاً يتمّ لو لم يمنع المكلّفون على أنفسهم اللطف ، كما صنعوه في شهود الإمام (عليه السلام) »(1) ليس في محلّها ، فإنّك عرفت(2)أنّ الكتاب هي المعجزة الخالدة الوحيدة ، وأنّ نفسه يدلّ على اتّصافه بهذا الوصف ، وأ نّه الذي لو اجتمع الإنس والجنّ إلى يوم القيامة على الإتيان بمثله لا يأتون به ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً(3) ، وهو الذي يخرج به جميع الناس إلى ذلك اليوم من الظلمات إلى النور(4) ، وأ نّه الذي يكون نذيراً للعالمين(5) .
فمثل ذلك لو لم يلزم تواتره يلزم عدم حصول الغرض المقصود ، وهو السرّ في عدم ثبوت بعض المعجزات بالتواتر ; لأنّ تواتر القرآن ولزومه كذلك يغني عن اتّصاف غيره من المعجزات بالتواتر ، ومقايسة الكتاب الذي يتّصف بما وصف بمثل شهود الإمام (عليه السلام) ، الذي منع المكلّفون على أنفسهم اللطف فيه غير صحيحة جدّاً ، فهل يمكن أن يصير منع اللطف سبباً لأن تخلو الاُمّة من الإمام رأساً ؟ فكيف يمكن أن يصير سبباً لعدم لزوم اتّصاف القرآن بالتواتر ، مع إيجابه نقض الغرض ، واستلزامه عدم تحقّق المعنى المقصود من إنزاله ؟
وممّا ذكرنا انقدح أ نّه كما لا تثبت القرآنيّة واتّصاف كلام بكونه كلام الله المنزل على الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) بعنوان الإعجاز إلاّ بالتواتر ، كذلك اتّصافه بكونه آية لسورة فلانية دون السور الاُخرى ، فمثل اتّصاف قوله ـ تعالى ـ : (فَبِأَىِّ ءَالاَءِ
- (1) قوانين الاُصول : 1 / 403 ، الباب السادس في الكتاب .
(2) في ص 38 ـ 40 .
(3) اقتباس من سورة الإسراء 17: 88 .
(4) اقتباس من سورة إبراهيم 14: 1 ، وسورة الحديد 57: 9 ، وسورة الطلاق 65: 11 .
(5) اقتباس من سورة الفرقان 25: 1 .
(الصفحة 150)
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) (1) بكونه جزءاً لسورة «الرحمن» دون غيرها من السور القرآنيّة ، لا طريق له إلاّ التواتر ; لعين ما ذكر في أصل الاتّصاف بالقرآنيّة .
وكذا اتّصاف الآية الفلانيّة بكونها في محلّها ، وفي موضعها من السورة التي هي جزء لها ، لا يثبت إلاّ بالتواتر أيضاً ، فاتّصاف قوله ـ تعالى ـ : (اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ) بوقوعه بعد قوله ـ تعالى ـ : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وقبل قوله ـ تعالى ـ : (صِرَ طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) لا يثبت إلاّ بالتواتر لما ذكر ، وكذا من جهة الإعراب ، فقوله ـ تعالى ـ : ( الاَْرْحَامِ) في آية (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِوَالاَْرْحَامَ) (2) لابدّ وأن تثبت مفتوحيّته أو مجروريّته بالتواتر ; لاختلاف المعنى بمثل ذلك .
نعم ، ربما يقال : إنّ مثل الإمالة والمدّ واللين لا يلزم فيه التواتر ; لأنّ القرآن هو الكلام ، وصفات الألفاظ ليس كلاماً ، ولأنّه لا يوجب ذلك اختلافاً في المعنى ، فلا تتعلّق فائدة مهمّة بتواتره ، ولكنّه محلّ نظر بل منع ، فتأمّل .
إذا تمهّدت لك هذه المقدّمة الشريفة النافعة ; فإنّه يقع الكلام في دعوى تواتر القراءات السبع ، كما عليه جماعة من علماء أهل السنّة ، بل نسب إلى المشهور بينهم(3) ، بل قيل : إنّه الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن (4) .
ونذكر أوّلاً ترجمة هؤلاء القرّاء بنحو الإجمال(5) ، فنقول :
- (1) سورة الرحمن 55 : 19 و ... .
(2) سورة النساء 4 : 1 .
(3) البرهان في علوم القرآن: 1 / 318 .
(4) صحيح البخاري: 6 / 122 باب اُنزل القرآن على سبعة أحرف ، سنن الترمذي 5:193 ب 9 ح 2948 .
(5) اُنظر تراجمهم تفصيلاً ومصادرها في طبقات القرّاء للذهبي ، والبرهان في علوم القرآن للزركشي 1 : 327 ـ 330 ، النوع الثاني والعشرون ، وتحبير التيسير في قراءات الأ ئـمّة العشرة لابن الجزري 13 ـ 17 ، والبيان في تفسير القرآن: 125 ـ 146.
(الصفحة 151)
1ـ عبدالله بن عامر الدمشقي(1) ، ولد سنة ثمان من الهجرة وتوفّي سنة 118 ، وله راويان رويا قراءته بوسائط ، وهما : هشام ، وابن ذكوان .
2ـ عبدالله بن كثير المكّي(2) ، ولد بمكّة سنة 45 ، وتوفّي سنة 120 ، وله راويان بوسائط أيضاً ، هما : البزّي ، وقنبل .
3ـ عاصم بن بهدلة الكوفي(3) ، مات سنة 127 أو 128 ، وله راويان بغير واسطة ، هما : حفص ، وأبو بكر .
4ـ أبو عمرو البصري(4) ، ولد سنة 68 ، وقال غير واحد : مات سنة 154 ، وله راويان بواسطة يحيى بن المبارك اليزيدي ، هما : الدوري ، والسوسي .
5ـ حمزة الكوفي(5) ، ولد سنة 80 ، وتوفّي سنة 156 ، وله راويان بواسطة ، هما : خلف بن هشام ، وخلاّد بن خالد .
6ـ نافع المدني(6) ، مات سنة 169 ، وله راويان بلا واسطة ، هما : قالون ، و ورش .
- (1) هو: أبو عمران عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي الدمشقي ، طبقات القرّاء: 1 / 59 ـ 68 ، الرقم 34 .
(2) هو: أبو معبد عبدالله بن كثير بن عمرو بن عبدالله بن زاذان بن فيروز بن هرمز الكناني الداري المكّي المقرىء، طبقات القرّاء: 1 / 69 ـ 74 ، الرقم 35 .
(3) هو: عاصم بن أبي النجود أبو بكر الأسدي الكوفي القارئ ، واسم أبيه بهدلة ، طبقات القرّاء: 1 / 75 ـ 80 ، الرقم 36 .
(4) هو: أبو عمرو بن العلاء المازني البصري المقرئ النحوي ، اسمه زبّان ، وقيل: العريان ، طبقات القرّاء: 1 / 91 ـ 102 ، الرقم 42 .
(5) هو: أبو عُمَارة حمزة بن حبيب بن عُمَارة بن إسماعيل الكوفي التيمي القارئ ، طبقات القرّاء: 1 / 112 ـ 124 ، الرقم 49 .
(6) هو: أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي المقرئ المدني ، طبقات القرّاء: 1 / 104 ـ 109 ، الرقم 45 .