(الصفحة 170)
(قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، وغيرهما من الآيات والروايات الدالّة على النهي عن القول أو العمل بغير العلم ، والناهية عن التفسير بالرأي ، بناءً على عموم معنى التفسير ، مضافاً إلى حكم العقل بذلك .
وبالجملة : لا محيص عن الاتّكاء في ذلك على ما ثبت اعتباره ، وعلمت حجّيته من طريق الشرع ، أو من حكم العقل . فإذن لابدّ للمفسّر في استكشاف مراد الله ـ تبارك وتعالى ـ من اتّباع ظواهر الكتاب ، التي يفهمها العارف باللغة العربيّة الفصيحة الصحيحة ; فإنّ ظواهر الكتاب حجّة على ما سنبيّن ، أو يتبع ما حكم به العقل الفطري الصحيح الذي هو المرجع لإثبات أساس التوحيد ، واتّصاف الكتاب بالإعجاز المثبت للرسالة ; فإنّه لا ريب في حجّيته ، أو يستند إلى ما ثبت عن المعصوم (عليه السلام) من النبيّ أو الإمام في بيان مراد الله تبارك وتعالى .
ولابدّ لنا من التكلّم في هذه الاُمور الثلاثة التي هي اُصول التفسير ومداركه ، فنقول :
الأمر الأوّل : ظواهر الكتاب
والمراد من ظاهر القرآن الذي هو حجّة على قولنا ـ في قبال جماعة من المحدّثين المنكرين لاعتباره(2) ـ هو الظاهر الذي يفهمه العارف باللغة العربيّة الصحيحة الفصيحة من اللفظ ، ولم يقم على خلافه قرينة عقليّة أو نقليّة معتبرة ، فمثل قوله ـ تعالى ـ : (وَ جَآءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (3) ، و (الرَّحْمَـنُ عَلَى
- (1) سورة يونس 10 : 59 .
(2) الفوائد المدنيّة: 59 ، 254 ـ 256، الحدائق الناضرة: 1 / 27 ـ 35 ، فرائد الاُصول: 1 / 139 .
(3) سورة الفجر 89 : 22 .
(الصفحة 171)
الْعَرْشِ اسْتَوَى) (1) ، و (وَ سْـَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا) (2) ، ممّا قامت القرينة العقليّة القطعيّة على خلاف ظواهره خارج عن محلّ البحث .
وكذا الظواهر التي دلّت القرائن النقليّة المعتبرة على خلافها ، كالعمومات المخصّصة بالروايات بمقدار ورود التخصيص عليها ، وإلاّ فهي حجّة في غير مورد التخصيص ، والمطلقات المقيّدة بها كذلك; أي بذلك المقدار . وسائر الظواهر التي وقعت القرينة على خلافها في النقل المعتبر خارج عنه أيضاً ، وحينئذ نقول : إنّ الدليل على حجّية هذه الظواهر التي هي مورد البحث اُمور :
الأوّل : أ نّه لا ينبغي الارتياب في أنّ القرآن إنّما اُنزل ، وأتى به النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليفهم الناس معانيه ، ويتدبّروا آياته ، ويجعلوا أعمالهم مطابقة لأوامره ونواهيه ، وعقائدهم موافقة للعقائد الصحيحة التي يدلّ عليها .
ومن المعلوم أ نّ الشارع لم يخترع لنفسه طريقة خاصّة لإفهام مقاصده ، بل تكلّم مع الناس بالطريقة المألوفة المتداولة في فهم المقاصد والأغراض من طريق الألفاظ والعبارات .
وحينئذ فلا محيص عن القول باعتبار ظواهر الكتاب ، كظواهر سائر الكتب الموضوعة للتفهيم وإراءة المقاصد والأغراض ، كيف ، وقد حثّ الكتاب بنفسه الناس على التدبّر في آياته ، واعترض على عدم التدبّر بلسان التخصيص ، فقال : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوافِيهِ اخْتِلَـفًا كَثِيرًا) (3) ، وقال : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَآ) (4) .
- (1) سورة طه 20 : 5 .
(2) سورة يوسف 12 : 82 .
(3) سورة النساء 4 : 82 .
(4) سورة محمد 47 : 24 .
(الصفحة 172)
وقد وصف نفسه بما لا محيص بملاحظته عن الالتزام بظواهره من الأوصاف والخصوصيّات ; كتوصيفه بأ نّه المخرج للناس من الظلمات إلى النور(1) ، وأ نّه بيان للناس وأ نّه هدًى وموعظة للمتّقين(2) ، وأ نّه قد ضرب فيه للناس من كلّ مثل لعلّهم يتذكّرون(3) ، وغير ذلك من الأوصاف والمزايا والخصوصيّات الملازمة لاعتبار ظواهر الكتاب .
الثاني : أ نّه قد مرّ في بعض المباحث(4) أ نّ القرآن هي المعجزة الوحيدة الخالدة على النبوّة والرسالة إلى يوم القيامة ، وقد تحدّى البشر من الأوّلين والآخرين ، بل والجنّ على أن يأتوا بمثل القرآن (5) ، أو بعشر سور مثله(6) ، أو بسورة مثله(7) ، أو من مثله(8) ، ولو لم تكن العرب عارفة بمعاني القرآن ، ولم تكن تفهم مقاصده من ألفاظه وآياته ، بل لو كان القرآن من قبيل الألغاز ـ وهو غير قابل للفهم والمعرفة ـ لم يكن وجه لاتّصافه بالإعجاز ، ولا مجال لطلب المعارضة والتحدّي أصلاً .
الثالث : حديث الثقلين المعروف بين الفريقين(9) ، الدالّ على لزوم التمسّك بهما ، وأ نّه الطريق الوحيد للخروج عن الضلالة ، والسبيل المنحصر لعدم الابتلاء بها أبداً .
وجه الدلالة في المقام : أ نّه من الواضح أ نّ معنى التمسّك بالكتاب الذي هو
- (1) سورة البقرة 2: 257 .
(2) سورة آل عمران 3: 138 .
(3) سورة الزمر 39: 27 .
(4) في ص38 ـ 40 .
(5) سورة الإسراء 17: 88 .
(6) سورة هود 11: 13 .
(7) سورة يونس 10: 38 . (8) سورة البقرة 2: 23 . (9) بحار الأنوار: 23 / 104 ـ 166 ب7 وغيره ، ويأتي البحث فيه وتخريجاته مفصّلاً في ص228ـ 237 .
(الصفحة 173)
أحد الثقلين ، ليس مجرّد الاعتقاد بأنّه قد نزل من عند الله حجّةً على الرسالة ، ودليلاً على النبوّة ، وبرهاناً على صدق النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل معنى التمسّك به الموجب لعدم الاتّصاف بالضلالة أصلاً هو الأخذ به ، والعمل بما فيه من الأوامر والنواهي وسائر ما يشتمل عليه ، والاستناد إليه في القصص الماضية والقضايا السالفة .
وبعبارة اُخرى : التمسّك به معناه يرجع إلى ما بيّنه النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في كلامه الشريف المتقدّم(1); من جعل القرآن إماماً وقائداً ليسوقه إلى الجنّة ، وهذا لا يجتمع مع عدم حجّية ظاهره ، وافتقاره إلى البيان في جميع موارده ، وكونه بنفسه غير قابل للدرك والمعرفة ، كما هو غير خفيّ على أهله .
الرابع : الروايات الكثيرة المتواترة ، الدالّة على عرض الأخبار الواصلة على الكتاب ، وطرح ما خالف منها بتعبيرات مختلفة وألفاظ متنوّعة ، مثل أ نّه يضرب ـ أي المخالف ـ على الحائط (2) ، أو أ نّه زخرف ، أو أ نّه باطل ، أو أ نّه ليس منهم (عليهم السلام) ، ونظائره(3) .
فإنّه من الواضح أ نّ تعيين «المخالف» عن غيره ، وتمييزه عمّا سواه قد أوكل إلى الناس ، فهم المرجع في التشخيص ، ولازم ذلك حجّية ظواهر الكتاب عليهم ، وإلاّ فكيف يمكن لهم تشخيص «المخالف» عن غيره ؟
ومن هذا القبيل الروايات الواردة في الشروط ، وأ نّ كلّ شرط جائز وماض
- (1) تقدّم في ص104 .
(2) التبيان في تفسير القرآن: 1 / 5 ، مقدّمة المؤلِّف (قدس سره).
(3) بصائر الدرجات: 511 ح21 ، الكافي: 1 / 69 ح3 و 4 ، المحاسن: 1 / 347 ح726 ، مختصر البصائر: 161 ح181 ، وعنها وسائل الشيعة : 27 / 75 ، أبواب صفات القاضي ب 7 ح 34 و ص 110 ـ 123 ب 9 ح 10ـ12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 و47 ، وص130 ب 10 ح 18 . وفي بحار الأنوار: 2 / 94 ح32 وعوالم العلوم والمعارف والأحوال: 3 / 394 ح14 عن البصائر .
(الصفحة 174)
إلاّ شرطاً خالف كتاب الله (1); فإنّ المرجع في تعيين الشرط المخالف ، وتمييزه عن غيره هو العرف ، وهو لا يعرف ذلك إلاّ بعد المراجعة إلى الكتاب ، وفهم مقاصده من ألفاظه ، ودرك أغراضه من آياته .
ودعوى أ نّ المراد بـ «المخالف» في الموردين ، يمكن أن يكون هو المخالف لمصرّحات الكتاب ، دون ظواهره التي يجري فيها احتمال الخلاف ، وتكون محلّ البحث في المقام ، فسادها غنيّ عن البيان .
الخامس : الروايات الكثيرة الدالّة على استدلال الأ ئـمّة (عليهم السلام) بالكتاب في موارد كثيرة :
1 ـ قوله (عليه السلام) ـ بعدما سأله زرارة بقوله : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ألا تخبرني من أين علمتَ وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس . . . ـ : لمكان الباء(2); فإنّ مرجعه إلى أ نّه لو كان السائل توجّه إلى هذه النكتة في آية الوضوء لما احتاج إلى السؤال أصلاً ; لأنّ ظهور «الباء» في التبعيض ، وحجّية الظهور كلاهما ممّا لا يكاد ينكر .
إن قلت : لعلّ السؤال إنّما هو لأجل عدم ظهور آية الوضوء في المسح ببعض الرأس ; لعدم كون «الباء» ظاهرة في التبعيض . وعليه: لا تكون الرواية دالّة على حجّية الظاهر .
قلت : اقتصاره (عليه السلام) في الجواب على قوله : «لمكان الباء» دليل على أنّ ظهور «الباء» في التبعيض ممّا لا يكاد يخفى ، وإلاّ لما تمّ الاقتصار كما هو ظاهر .
2 ـ قوله (عليه السلام) لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء ، اعتذاراً بأنّه
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 16ـ 17 ، كتاب التجارة ، أبواب الخيار ب 6 .
(2) الكافي: 3 / 30 ح4 ، الفقيه: 1 / 56 ح212 ، علل الشرائع: 279 ب190 ح1 ، تهذيب الأحكام: 1 / 61 ح168 ، الاستبصار: 1 / 62 ح186 ، وعنها وسائل الشيعة : 1 / 412 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب23 ح1 .