(الصفحة 47)
أحدهما: منع بطلان التالي المستلزم لبطلان المقدّم ; لأ نّه قد اُخذ على القرآن مناقضات واختلافات ، وقد بلغت من الكثرة إلى حدٍّ ربما ألّفت فيها التأليفات ، وكتبت فيها الرسالات .
والجواب عنه: أ نّ المناقضات المذكورة كلّها مذكورة في كتب المفسِّرين ، ومأخوذة منها ، وقد أوردوها مع أجوبتها في تفاسيرهم ، وغرضهم من ذلك إزالة كلّ شبهة يمكن أن تورد ، ودفع كلّ توهّم يمكن أن يتخيّل ، لكنّ الأيادي الخائنة ، والعناصر الضالّة المضلّة المرصدة لاستفادة السوء من كلّ قضيّة وحادثة قد جمعوا تلك الشبهات في كتب وتأليفات ، من دون التعرّض للأجوبة الكافية ، ونعم ما قيل:
«لو كانت عين الرضا متّهمة فعين السخط أولى بالتّهمة» .
ثانيهما: اعتراف القرآن بوقوع النسخ فيه ، في قوله ـ تعالى ـ : (مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَة أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ) (1) .
وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَة وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) (2) .
والنسخ من أظهر مصاديق الاختلاف .
والجواب عنه أوّلاً: منع كون النسخ اختلافاً ، فضلاً عن أن يكون من أظهر مصاديقه ; فإنّه ـ بحسب الاصطلاح ـ يرجع إلى رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ، ومن الواضح: أ نّ ارتفاع الحكم لأجل ارتفاع زمانه لا يعدّ تناقضاً ، ولا يوجب اختلافاً .
وثانياً: فإنّ النسخ إن كان بنحو تكون الآية الناسخة ناظرة بالدلالة اللفظيّة إلى الحكم المنسوخ ، ومبيّنة لرفعه ، كما في آية النجوي : (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا
- (1) سورة البقرة 2 : 106 .
(2) سورة النحل 16 : 101 .
(الصفحة 48)
نَـجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَلـكُمْ صَدَقَةً ذَ لِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1) .
حيث ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله ـ تعالى ـ : (ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَلـكُمْ صَدَقَـت فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُو وَ اللَّهُ خَبِيرُم بِمَا تَعْمَلُونَ ) (2) .
فعدم كونه من مصاديق الاختلاف ممّا لا ينبغي فيه الشكّ والارتياب .
وإن كان بنحو يكون مقتضى الجمع بين الآيتين اللّتين يتراءى بينهما الاختلاف والتنافي ، هو حمل الآية المتأخّرة على كونها ناسخة ، والمتقدّمة على كونها منسوخة ـ كما التزم به كثير من المفسِّرين ـ فثبوته في القرآن غير معلوم ، ولابدّ من البحث عنه في فصل مستقلّ ، ولِمَ لا يجوز الاستدلال بهذه الآية ـ أعني قوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ . . .) ـ على نفي وقوعه في القرآن ، وسلامته من ثبوت النسخ فيه بهذا المعنى ؟ كما لايخفى .
التحدّي بأنّه تبيان كلّ شيء
قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـبَ تِبْيَـنًا لِّكُلِّ شَىْء) (3); فإنّ اتّصاف الكتاب ـ الذي يكون المراد به هو القرآن بملاحظة التنزيل ـ بكونه تبياناً لكلّ شيء دليل على كونه نازلاً من عند من يكون له إحاطة كاملة بجميع الأشياء ، بحيث لا يغيب عنه شيء ، أو لا يعزب عنه من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، أمّا الموجود الذي تكون إحاطته العلميّة تابعة لأصل وجوده في النفس والمحدوديّة ، كيف يمكن أن يكون من عنده كتاب موصوف بأنّه تبيان كلّ شيء ؟!
- (1 ، 2) سورة المجادلة 58 : 12 ـ 13 .
(3) سورة النحل 16 : 89 .
(الصفحة 49)
فمن هذه الخصوصيّة التي لا يعقل أن تتحقّق في البشر ، والكتاب الذي من عنده تستكشف خصوصيّة اُخرى ; وهي نزوله من عند الله العالم القادر المحيط ، كما هو واضح .
نعم ، ربما يمكن أن يتوهّم أ نّ القرآن لا يكون تبياناً لكلّ شيء ; لأنّا نرى عدم تعرّضه لكثير من المسائل المهمّة الدينيّة ، والفروع الفقهيّة العمليّة ، فضلاً عمّا ليس له مساس بالدين ، وليس بيانه من شأن الله ـ تبارك وتعالى ـ بما هو شارع وحاكم ; فإنّ مثل أعداد ركعات الصلاة التي هي عمود الدين(1)، معراج المؤمن ـ على ما روي ـ لا يكون مذكوراً في الكتاب العزيز ، مع أنّها من الأهمّية بمثابة تكون الزيادة عليها والنقص عنها قادحة مبطلة ، فضلاً عن خصوصيّات سائر العبادات والأعمال من الصوم والزكاة والحجّ وغيرها . وعليه: فكيف يصف القرآن نفسه ويعرّفه بأنّه تبيان كلّ شيء؟!
والجواب عن هذا التوهّم : أ نّ شأن الكتاب إنّما هو بيان الكلّيات ورؤوس المطالب . وأ مّا الجزئيّات والخصوصيّات، فإنّما تستكشف من طريق الرسول ، الذي فرض القرآن نفسه الأخذ بما آتاهم ، والانتهاء عمّا نهاهم بقوله ـ تعالى ـ : (وَ مَآ ءَاتَـئـكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَـئـكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (2) ، ففي الحقيقة أ نّ كون القرآن تبياناً أعمّ من أن يكون تبياناً للشيء بنفسه ، أو بواسطة الرسول الذي نزّل عليه القرآن .
- (1) المحاسن: 1 / 116 ح117 عن أبي جعفر (عليه السلام) ، وعنه وسائل الشيعة: 4 / 27 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ب 7 ح 12 ، وبحار الأنوار: 82 / 218 ح36 ، ومستدرك الوسائل: 3 / 31 ب8 ح2943 ، وفي وسائل الشيعة: 4 / 34 ب8 ح13 عن تهذيب الأحكام: 2 / 237 ح936 ، وفي بحار الأنوار: 82 / 232 ح57 ومستدرك الوسائل: 3 / 29 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ب7 ح2935 ، عن دعائم الإسلام: 1 / 133 ، ورواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 10 / 206 مرسلاً .
(2) سورة الحشر 59 : 7 .
(الصفحة 50)
ومن الآيات التي يمكن أن يستدلّ بها على التحدّي بالعلم ، قوله ـ تعالى ـ : (وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين) (1) بناءً على كون المراد بالكتاب المبين هو القرآن المجيد ، وكون المراد بالرطب واليابس المنفيّين هو علم كلّ شيء بحيث تكون الآية كناية عن الإحاطة العلميّة ، والبيان الكامل الجامع ، فيرجع المراد إلى ما في الآية المتقدّمة من كون الكتاب جامعاً لعلم الأشياء ، وحاوياً لبيان كلّ شيء .
لكنّ الظاهر أ نّه ليس المراد بالكتاب المبين هو القرآن ، بل شيئاً آخر يكون فيه جميع الموجودات والأشياء بأنفسها ، ويؤيّده صدر الآية ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ) (2) وكذا تعلّق النفي بنفس الرطب واليابس الظاهرين في أنفسهما ، لا في العلم بهما ، وكذا عدم اختصاص النفي بهما ، بل تعلّقه بالحبّة التي في ظلمات الأرض ; لأنّ الاستثناء يتعلّق به أيضاً ، فلابدّ من الالتزام بكون المراد بها هو العلم بالحبّة أيضاً ، وهو خلاف الظاهر جدّاً .
وعليه: يكون مفاد الآية أجنبيّاً عمّا نحن بصدده ; لأنّ مرجعه إلى ثبوت الأشياء الموجودة بأنفسها في الكتاب الذي هو بمنزلة الخزينة لها .
نعم ، يبقى الكلام في المراد من ذلك الكتاب ، وأ نّه هل هو عبارة عن صفحة الوجود المشتملة على أعيان جميع الموجودات ، أو أمر آخر يغاير هذا الكون ، ثابتة فيه الأشياء نوعاً من الثبوت ، كما يشير إليه قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِن مِّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَّعْلُوم ) ؟(3) .
وعلى أيٍّ لا يرتبط بالمقام الذي يدور البحث فيه حول الكتاب بمعنى القرآن المجيد الذي يكون معجزة .
- (1) سورة الأنعام 6 : 59 .
(2) سورة الأنعام 6 : 59 .
(3) سورة الحجر 15: 21 .
(الصفحة 51)التحدّي بالإخبار عن الغيب
قد وقع في الكتاب التحدّي بالإخبار عن الغيب في آيات متعدّدة ، ونفس الإخبار بالغيب في آيات كثيرة ، ففي الحقيقة الآيات الواردة في هذا المجال على قسمين:
قسم وقع فيها التحدّي بنفس هذا العنوان ، وهو الإخبار والإنباء بالغيب .
وقسم وقع فيها مصاديق هذا بعنوان من دون الاقتران بالتحدّي .
وقبل الورود في ذكر القسمين والتعرّض لمدلول النوعين لابدّ من التنبيه على أمرين:
الأمر الأوّل : أ نّ المراد بالغيب في هذا المقام هو ما لايدركه الإنسان ولا يناله من دون الاستعانة من الخارج ، ولو أعمل في طريق الوصول إليه جميع ما أعطاه الله ـ تعالى ـ من القوى الظاهرة والباطنة ، فهو شيء بينه وبين الإنسان بنفسه حجاب ، ولابدّ من الاستمداد من الغير في رفع ذلك الحجاب ، وكشف ذلك الستار . وعليه: فالحادثة الواقعة الماضية ، والقضيّة الثابتة المتصرّمة تعدّ غيباً بالإضافة إلى الإنسان ; لأ نّه لا يمكن له أن يطّلع عليها ، ويصل إليها من طريق شيء من الحواسّ والقوى ، حتّى القوّة العاقلة المدركة ; فإنّ وجود تلك الحادثة وعدمها بنظر العقل سواء; لعدم كون حدوثها موجباً لانخرام شيء من القواعد العقليّة ، كما هو المفروض ، ولا كون عدمها مستلزماً لذلك كذلك ، وإلاّ لا يكاد يمكن أن تتحقّق على الأوّل ، أو لا تتحقّق على الثاني .
كما أنّه بناءً على ما ذكر في معنى الغيب في المقام لا يكون ما يدركه العقل السليم والفطرة الصحيحة من الحقائق من الغيب بهذا المعنى الذي هو المقصود في المقام ، فوجود الصانع ـ جلّ وعلا ـ لا يعدّ من المغيبات هنا ; لأنّ للعقل إليه طريقاً بل طرقاً كثيرة ، ولا حاجة له في الوصول إليه تعالى، والاعتقاد بوجوده إلى الاستمداد