(الصفحة 136)
المهمّة ، والغرض المقصود ، ورفع اليد عنه ، والبذل للناس ، كما أنّه على تقدير كون المراد به هو رفع اليدين إلى النحر في تكبير الصلاة ، أو استقبال القبلة بالنحر تكون المناسبة وصحّة التفرّع واضحة أيضاً .
وأ مّا قوله : «لا تعتمد قول ساحر» فيرد عليه ـ مضافاً إلى عدم ارتباط معناه بالجملتين الاُوليين ، بخلاف قوله ـ تعالى ـ في الكتاب العزيز : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاَْبْتَرُ) (1); فإنّ ارتباطه مع الخير الكثير الذي من أعظم مصاديقه الصدِّيقة الكبرى سلام الله عليها ، التي منها تكثّر ذرّيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتبقى ما بقي الدهر . وأ مّا هذا القول السخيف ، فعدم ارتباطه واضح: أ نّ المراد من «قول ساحر» ومن لفظ «ساحر» هل هو قول مخصوص من أقواله ، أو ساحر معيّن من السّحرة ، أو جميع أقوال كلّ ساحر مع تقييده بما يرجع إلى جهة سحره لا كلّ أقواله حتّى في الاُمور العادية غير المرتبطة بوصفه العنواني الذي هو السّحر ؟
فلا سبيل إلى الأوّل; لعدم قرينة على التعيين ، لا في ناحية القول ، ولا من جهة القائل .
وأمّا الثاني الذي يساعده وقوع النكرة في سياق النهي ـ وهو يدلّ على العموم كوقوعها في سياق النفي(2) ـ فلا مجال له أيضاً ; لأ نّ الساحر من حيث هو ساحر لا قول له ولا كلام ، وإنّما يسحر بأعماله وأفعاله ، فلا معنى للنهي عن الاعتماد على قوله ، كما هو غير خفيّ .
وأمّا معارضة سورة الفاتحة بمثل ما ذكر ، فيرد عليها ـ مضافاً إلى ما عرفت من بعدها عن حقيقة المعارضة ومعناها بمراحل غير عديدة ـ : أ نّه لابدّ من ملاحظة كلّ جملة منها مع آيات الفاتحة وجملها الشريفة .
- (1) سورة الكوثر 108 : 3 .
(2) اُنظر كتب علم الاُصول ، منها كفاية الاُصول : 217 .
(الصفحة 137)
فنقول : أ مّا تبديل قوله ـ تعالى ـ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ) بقوله : «الحمد للرحمن» فمن الواضح أ نّه يوجب تفويت المعنى المقصود ; فإنّ لفظ الجلالة علم للذات المقدّسة الجامعة لجميع الصفات الكماليّة ; من دون فرق بين القول بكونه موضوعاً لمعنى عامّ ينحصر مصداقه في فرد خاصّ ، وبين القول بكونه علماً لشخص البارئ جلّ جلاله; ضرورة أ نّه على القول الأوّل يكون ذلك المعنى العامّ عبارة عن الذات المستجمعة لجميع تلك الصفات ، كما أ نّه على القول الثاني تكون تسميته بهذه اللفظة الجميلة إنّما هي باعتبار وصف الاستجماع ، وأين هذا من «الرحمن» الذي هي صفة واحدة من الصفات الكماليّة غير العديدة؟ فالغرض من هذه الجملة الكريمة من القرآن اختصاص الحمد بمن كان جامعاً لجميع الصفات الكماليّة ، فكيف يصحّ التبديل بكلمة «الرحمن» مدّعياً كونه وافياً بذلك الغرض ، ومفيداً فائدته كما هو غير خفيّ ؟
وأ مّا تبديل قوله ـ تعالى ـ : ( رَبِّ الْعَــلَمِينَ* الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ) بقوله : «ربّ الأكوان» فيرد عليه ـ مضافاً إلى عدم صحّة إضافة كلمة «الربّ» إلى الأكوان التي هي جمع الكون بالمعنى المصدري; من دون فرق بين أن يكون معناه الحدوث ، أو الوقوع ، أو الصيرورة ، أو الكفالة ، كما حكي عن بعض كتب اللغة المفصّلة(1); فإنّ معنى الربّ هو المالك المربّي ، ولا معنى لإضافته إلى المعنى المصدري ـ : أنّ هذا التبديل صار موجباً لتفويت الغرض ; فإنّ توصيف الله ـ تعالى ـ بكونه ربّ العالمين الرحمن الرحيم يدلّ على أنّه المالك المربّي لجميع العوالم ، وأ نّ رحمته الواسعة شاملة لها بأجمعها ، رحمة مستمرّة غير منقطعة ، وأين هذا من توصيفه بأنّه ربّ الأكوان ؟!
وكذلك تبديل قوله ـ تعالى ـ : ( مَــلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بقول هذا القائل الذي
- (1) لسان العرب: 5 / 455 ، الصحاح: 2 / 1601 .
(الصفحة 138)
أغواه الشيطان : «الملك الديّان» .
فالجواب عنه : أ نّ قوله ـ تعالى ـ يكون المعنى المقصود منه أ نّ هنا يوماً يسمّى يوم الجزاء ، وعالماً استعدّ لمكافأة الأعمال ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ، وأ نّ مالك ذلك اليوم والمتصرّف النافذ فيه هو الله ـ تبارك وتعالى ـ وأين هذا من قول هذا القائل ; لعدم دلالته على وجود ذلك اليوم المعدّ للجزاء والمكافأة ؟!
وكذلك تغيير قوله ـ تعالى ـ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بقوله : «لك العبادة وبك المستعان» يوجب فوات المعنى المقصود منه الراجع إلى إظهار المؤمن التوحيد في العبادة ، والافتقار إلى الاستعانة بالله فقط ، وأ نّه لا يخضع لغير الله ، ولا يعبد إلاّ إيّاه ، ولا يستعين إلاّ به ، ففي الحقيقة مرجعه إلى بيان وصف المؤمن ، وأ نّه في مقام العبادة والاستعانة لا يرى ما سوى الله مستأهلاً لذلك ، صالحاً لأن يعبد أو يستعان به ، وأين هذا المعنى اللطيف الراجع إلى التوحيد في مقام العبادة والاستعانة ـ سيّما مع ملاحظة ابتلاء عرب الجاهليّة في ذلك العصر بالشرك في مقام العبادة والاستعانة ، وخضوعهم في مقابل الأوثان وطلب الإعانة منهم ، واعتقادهم أ نّهم يقرّبونهم إلى الله زلفى ، وأ نّهم الشفعاء عند الله ـ من قول هذا القائل الراجع إلى انحصار العبادة والاستعانة به تعالى ; من دون نظر إلى حال المؤمن ، وإظهاره التوحيد ، وامتيازه عن العرب في ذلك العصر ، كما لا يخفى .
وكذلك إبدال قوله ـ تعالى ـ : ( اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ) بقول هذا القائل الجاهل «اهدنا صراط الإيمان» ـ مضافاً إلى عدم كونه موجباً للاختصار إلاّ من ناحية الألف واللام فقط ، ومن المعلوم عدم دخالتهما في معنى الكلمة ـ يستلزم تضييق معنى وسيع ; فإنّ الصراط المستقيم الذي هو أقرب الطرق المتصوّرة إلى المعنى المقصود لا ينحصر بوجه خاصّ ، ولا يختصّ بجانب مخصوص ، بل يعمّ جميع الوجوه والجوانب من العقائد الصحيحة ، والملكات الفاضلة ، والأعمال الحسنة
(الصفحة 139)
المطلوبة ، وأين هذا من التخصيص بصراط الإيمان الذي هو أمر قلبيّ اعتقاديّ ، ولا يشمل غيره أصلاً ، كما لا يخفى .
وقد زعم الكاتب الجاهل ، والأجير العامل ، حيث اقتصر في مقام المعارضة مع سورة الفاتحة على هذه الجمل ، ولم يعقّبها بشيء : أ نّ بقيّة السورة المباركة مستغن عنها لا حاجة إلى إضافتها أصلاً ; لعدم إفادتها شيئاً زائداً على ما هو مفاد الجملات التي ذكرها ، مع أنّها تدلّ على مطلب أساسيّ ; وهو انقسام الناس من جهة الوصول إلى السعادة المطلوبة ، وسلوك الطريق إلى الكمال المعنوي ، إلى أقسام ثلاثة :
قسم : هم الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً (1); وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم ، ووصلوا إلى الغرض الأعلى والغاية القصوى ، وينبغي أن يطلب من الله الهداية إليه ، والدخول في زمرتهم ، وسلوك طريقهم ، والكون معهم .
وقسم : وقع غضب الله عليهم ، وهم الذين أنكروا الحقّ بعد وضوحه ، وعاندوه بعد ظهوره ، ونهضوا لإطفاء نوره ، وقاموا في مقابلته ، وجاهدوا في طريق الباطل .
والقسم الثالث : هم الضالّون الذين ضلّوا عن طريق الهدى ، وانحرفوا عن الصراط المستقيم بجهلهم وتشبّثهم بما لا يتشبّث به العاقل من تقليد الآباء والأجداد ، وغيره من الطرق المنحرفة غير المستقيمة .
ولعلّ اقتصار الكاتب على الجملات التي ذكرها ، وعدم تعرّضه لمعارضة بقيّة السورة كان لأجل وضوح كونه غير القسم الأوّل ، بل من القسم الثاني نعوذ
- (1) اقتباس من سورة النساء: 4 / 69 .
(الصفحة 140)
بالله من متابعة الشيطان ، والقيام في مقابل الرحمن ، مع وضوح الحقّ ، وهداية البرهان .
وهنا نختم البحث في إعجاز القرآن ، ونستمدّ منه الخروج من الظلمات إلى النور .