(الصفحة 154)
بالتواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، كما هو المفروض .
الثالث : استدلال كلّ واحد منهم واحتجاجه في مقام ترجيح قراءته على قراءة غيره وإعراضه عن قراءة غيره ، مع أنّه لو كانت بأجمعها متواترة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يحتجّ إلى الاحتجاج ، ولم يكن وجه للإعراض عن قراءة غيره ، بل لم يكن وجه لترجيح قراءته على قراءة الغير ورجحانها عليها ; فإنّه بعد ثبوت أ نّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قرأ على وفقها جميعاً ، لا يكون مجال للمقايسة ، ولا يبقى موقع لاحتمال رجحان بعضها على الآخر أصلاً ، كما هو واضح لا يخفى .
الرابع : إضافة هذه القراءات إلى خصوص مشايخها وقرّائها ; فإنّه على تقدير كونها ثابتة بنحو التواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، الذي نزل عليه الوحي ; لما كان وجه لإضافة هذه القراءات إلى هؤلاء الأشخاص ، بل كان اللاّزم إضافة الجميع إلى الواسطة بين الخلق والخالق ، ومن نزل عليه كلام الله المجيد ، بل اللاّزم الإضافة إلى الله تبارك وتعالى ; لأنّ قراءة النبي(صلى الله عليه وآله) لم تكن من عند نفسه ، بل حكاية لما هو في الواقع ، ووحي يوحى إليه .
وبالتالي لا يكون لهؤلاء القرّاء على هذا التقدير المفروض امتياز ، وجهة اختصاص موجبة للإضافة إليهم دون غيرهم ، ومجرّد وقوعهم في طريق النقل المتواتر لا يوجب لهم مزيّة وخصوصيّة ، واختيار كلّ واحد منهم لقراءة خاصّة ـ مع أنّه لم يكن له وجه ، كما عرفت في الأمر الثالث ـ لايصحّح الإسناد والإضافة أصلاً ، فلابدّ من أن يكون لهذه الإضافة وجه وسبب ، وليس ذلك إلاّ مدخليّة اجتهادهم واستنباطهم في قراءتهم .
وبالجملة : نفس إضافة القراءات إلى مشايخها ، دون من نزل عليه الوحي ، دليل قطعيّ على عدم ثبوتها بنحو التواتر عنه (صلى الله عليه وآله) ، وإلاّ فلا مجال لهذا الإسناد وهذه الإضافة .
(الصفحة 155)
الخامس : شهادة غير واحد من المحقّقين من أعلام أهل السنّة على عدم تواتر القراءات ، وإنكار بعضهم على جملة من القراءات والإيراد عليها ، وعلى فرض صدق التواتر وتحقّقه مع شرائطه ، لا يرى وجه للاعتراض والإيراد على شيء من القراءات ، وهل هو حينئذ إلاّ إيراد على النبيّ (صلى الله عليه وآله) واعتراض عليه ، نعوذ بالله منه ؟! .
ولا بأس بنقل كلمات بعض الأعلام ممّن صرّح بعدم تواتر القراءات :
1ـ ابن الجزري ـ الذي وصفه السيوطي في «الإتقان» بأنّه شيخ مشايخ القرّاء في زمانه ، وأ نّه أحسن من تكلّم في هذا المقام (1) ، قال ـ على ما حكي عنه ـ : «كلّ قراءة وافقت العربيّة ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ، وصحّ سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ، ولا يحلّ إنكارها ، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ووجب على الناس قبولها ; سواء كانت عن الأ ئـمّة السبعة ، أم عن العشرة ، أم عن غيرهم من الأ ئـمّة المقبولين ، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة اُطلق عليها ضعيفة ، أو شاذّة ، أو باطلة ; سواء كانت عن السبعة ، أم عمّن هو أكبر منهم .
هذا هو الصحيح عند أئمّة التحقيق من السلف والخلف ، صرّح بذلك الدانيّ ، ومكّي ، والمهدويّ ، وأبو شامة ، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه»(2) وقد نقل بقيّة كلامه الطويل أيضاً السيوطي في الإتقان ، ثمّ وصفه بأنّه «أتقن هذا الفصل جدّاً»(3) .
2 ـ أبو شامة في كتابه «المرشد الوجيز» قال ـ على ما حكاه عنه ابن الجزري في ذيل كلامه المتقدّم ـ : «فلا ينبغي أن يُغترّ بكلّ قراءة تُعزى إلى أحد الأ ئـمّة
- (1 ، 2) النشر في القراءات العشر: 1 / 9 ، الإتقان في علوم القرآن : 1 / 258 ، النوع 22 ـ 27 .
(3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 264 ، النوع 22 ـ 27 .
(الصفحة 156)
السبعة ، ويطلق عليها لفظ الصحّة ، وأ نّها هكذا اُنزلت ، إلاّ إذا دخلت في ذلك الضابط ، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنّف عن غيره ، ولا يختصّ ذلك بنقلها عنهم ، بل إن نقلت عن غيرهم من القرّاء ، فذلك لا يخرجها عن الصحّة ; فإنّ الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف ، لا عمّن تنسب إليه ; فإنّ القراءات المنسوبة إلى كلّ قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذّ ، غير أنّ هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم ، تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم»(1) .
3ـ الزركشي ، حيث قال : «إنّ التحقيق أنّ القراءات السبع متواترة عن الأ ئـمّة السبعة ، أ مّا تواترها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ففيه نظر ; فإنّ إسناد الأئمّـة السبعة بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات ; وهي نقل الواحد عن الواحد»(2) .
ومن الغريب بعد ذلك ما وقع من بعض الاُصوليّين(3) ، وكذا بعض من أعلام فقهاء الشيعة الإماميّة كالشهيدين (قدس سرهما) في محكيّ «الذكرى»(4) و«روض الجنان»(5)من دعوى تواتر القراءات السبع .
قال في الثاني ـ بعد نقل الشهرة من المتأخّرين وشهادة الشهيد على ذلك ـ : «ولا يقصر ذلك عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد فتجوز القراءة بها ، مع أنّ بعض محقّقي القرّاء من المتأخّرين أفرد كتاباً في أسماء الرجال الذين نقلوها في كلّ طبقة ،
- (1) النشر في القراءات العشر لابن الجزريّ : 1 / 9ـ 10 ، الإتقان في علوم القرآن : 1 / 258 / 259 . النوع 22 ـ 27 .
(2) البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 : 319 ، النوع الثاني عشر .
(3) قوانين الاُصول: 1 / 406 ، مفاتيح الاُصول: 322 ، مناهج الأحكام والاُصول: 153 ، المقصد الثالث في الأدلّة الشرعيّة ، الفصل الأوّل . فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم): 1 / 157 .
(4) ذكرى الشيعة: 3 / 304 ـ 305 .
(5) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان: 2 / 700 .
(الصفحة 157)
وهم يزيدون عمّا يعتبر في التواتر ، فيجوز القراءة بها إن شاء الله تعالى» .
ونقتصر في مقام الجواب على أمر واحد ، وهو: أنّ أهل الفنّ أخبر بفنّهم ، والحكم في ذلك ليس من شأنهم ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ مراده(قدس سره) هو ثبوت التواتر عنهم ، لا عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وهو وإن كان ممنوعاً أيضاً على ما عرفت(1) في الاحتمال الأوّل في معنى تواتر القراءات ، إلاّ أنّ ادّعاءه أسهل من دعوى التواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، مضافاً إلى أنّه لا يترتّب على ما ثبت تواتره عنهم أثر أصلاً ، لما مرّ(2) من عدم حجّية قولهم وفعلهم وتقريرهم .
كما أنّ الظاهر أ نّ غرض الشهيد من إثبات التواتر، مجرّد جواز القراءة بكلّ من تلك القراءات ; لتفريع جواز القراءة على ذلك في موضعين من كلامه ، ولو كان المراد ثبوت تواترها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لكان الأثر الأهمّ والغرض الأعلى الاتّصاف بوصف القرآنيّة ، وجواز الاستدلال بها ، والاستناد إليها في مقام استنباط حكم من الأحكام الشرعيّة الإلهيّة ، ومن الواضح أ نّه لا يقاس بذلك في مقام الأهمّية مجرّد جواز القراءة ، كما هو ظاهر .
وهنا احتمال ثالث في معنى تواتر القراءات ، ذكره المحقّق القمّي(قدس سره) في كتاب القوانين وأذعن به ، حيث قال : «إن كان مرادهم تواترها عن الأ ئـمّة (عليهم السلام) ; بمعنى تجويزهم قراءتها ، والعمل على مقتضاها ، فهذا هو الذي يمكن أن يدّعى معلوميّتها من الشارع ; لأمرهم بقراءة القرآن كما يقرأ الناس ، وتقريرهم لأصحابهم على ذلك ، وهذا لا ينافي عدم علميّة صدورها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووقوع الزيادة والنقصان فيه ، والإذعان بذلك والسكوت عمّا سواه أوفق بطريقة الاحتياط» (3) .
- (1) في ص152 ـ 154 .
(2) في ص153 .
(3) قوانين الاُصول: 1 / 406 ، المقصد الثاني ، قانون 2 ، المبحث الثاني .
(الصفحة 158)
ومرجع هذا الاحتمال ـ وإن كان بعيداً في الغاية ; لأنّ مسألة تواتر القراءات من المسائل المهمّة المبحوث عنها عند العامّة ، ويبعد أن يكون مرادهم التواتر عن الأ ئـمّة التي يختصّ اعتقاد حجّية أقوالهم بالفرقة المحقّة ـ إلى تواتر مجرّد جواز القراءة بتلك القراءات ، والعمل على مقتضاها من الأئمّـة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين .
وسيأتي البحث عن ذلك بعد ذكر أدلّة القائلين بالتواتر في المقام الثالث ـ الممهّد للبحث عن جواز القراءة بتلك القراءات السبع المختلفة ـ بعد عدم ثبوت تواترها بوجه ، وعدم جواز الاستدلال بها ، والاستناد إليها في مقام الاستنباط ، واستكشاف أحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ إن شاء الله ، فانتظر .
وأ مّا القائلون بالتواتر، فمستندهم في ذلك وجوه :
الأوّل : دعوى قيام الإجماع عليه من السلف إلى الخلف .
والجواب : أنّ ملاك حجّية الإجماع عند المستدلّ يتقوّم باتّفاق كلّ من يتّصف بأنّه من الاُمّة المحمّدية ، وبدون ذلك لا يتحقّق الإجماع الواجد لوصف الحجّية والاعتبار عنده .
وقد مرّ(1) عدم تحقّق هذا الاتّفاق بوجه ; فإنّه كما تحقّق إنكار تواتر القراءات من الطائفة المحقّة الإماميّة ـ وهم جماعة غير قليلة من الاُمّة النبويّة ـ كذلك أنكره كثير من المحقّقين من علماء أهل السنّة ، وقد تقدّم(2) نقل بعض كلماتهم ، فدعوى قيام الإجماع ـ والحال هذه ـ ممّا لا يصدر ادّعاؤها من العاقل غير المتعصّب .
الثاني : أنّ اهتمام الصحابة والتابعين بالقرآن يقضي بتواتر قراءاته ، وهذا واضح لمن سلك سبيل الإنصاف ، ومشى طريق العدالة .
- (1) في ص143 ـ 144 .
(2) في ص155 ـ 156 .