(الصفحة 173)
أحد الثقلين ، ليس مجرّد الاعتقاد بأنّه قد نزل من عند الله حجّةً على الرسالة ، ودليلاً على النبوّة ، وبرهاناً على صدق النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل معنى التمسّك به الموجب لعدم الاتّصاف بالضلالة أصلاً هو الأخذ به ، والعمل بما فيه من الأوامر والنواهي وسائر ما يشتمل عليه ، والاستناد إليه في القصص الماضية والقضايا السالفة .
وبعبارة اُخرى : التمسّك به معناه يرجع إلى ما بيّنه النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في كلامه الشريف المتقدّم(1); من جعل القرآن إماماً وقائداً ليسوقه إلى الجنّة ، وهذا لا يجتمع مع عدم حجّية ظاهره ، وافتقاره إلى البيان في جميع موارده ، وكونه بنفسه غير قابل للدرك والمعرفة ، كما هو غير خفيّ على أهله .
الرابع : الروايات الكثيرة المتواترة ، الدالّة على عرض الأخبار الواصلة على الكتاب ، وطرح ما خالف منها بتعبيرات مختلفة وألفاظ متنوّعة ، مثل أ نّه يضرب ـ أي المخالف ـ على الحائط (2) ، أو أ نّه زخرف ، أو أ نّه باطل ، أو أ نّه ليس منهم (عليهم السلام) ، ونظائره(3) .
فإنّه من الواضح أ نّ تعيين «المخالف» عن غيره ، وتمييزه عمّا سواه قد أوكل إلى الناس ، فهم المرجع في التشخيص ، ولازم ذلك حجّية ظواهر الكتاب عليهم ، وإلاّ فكيف يمكن لهم تشخيص «المخالف» عن غيره ؟
ومن هذا القبيل الروايات الواردة في الشروط ، وأ نّ كلّ شرط جائز وماض
- (1) تقدّم في ص104 .
(2) التبيان في تفسير القرآن: 1 / 5 ، مقدّمة المؤلِّف (قدس سره).
(3) بصائر الدرجات: 511 ح21 ، الكافي: 1 / 69 ح3 و 4 ، المحاسن: 1 / 347 ح726 ، مختصر البصائر: 161 ح181 ، وعنها وسائل الشيعة : 27 / 75 ، أبواب صفات القاضي ب 7 ح 34 و ص 110 ـ 123 ب 9 ح 10ـ12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 و47 ، وص130 ب 10 ح 18 . وفي بحار الأنوار: 2 / 94 ح32 وعوالم العلوم والمعارف والأحوال: 3 / 394 ح14 عن البصائر .
(الصفحة 174)
إلاّ شرطاً خالف كتاب الله (1); فإنّ المرجع في تعيين الشرط المخالف ، وتمييزه عن غيره هو العرف ، وهو لا يعرف ذلك إلاّ بعد المراجعة إلى الكتاب ، وفهم مقاصده من ألفاظه ، ودرك أغراضه من آياته .
ودعوى أ نّ المراد بـ «المخالف» في الموردين ، يمكن أن يكون هو المخالف لمصرّحات الكتاب ، دون ظواهره التي يجري فيها احتمال الخلاف ، وتكون محلّ البحث في المقام ، فسادها غنيّ عن البيان .
الخامس : الروايات الكثيرة الدالّة على استدلال الأ ئـمّة (عليهم السلام) بالكتاب في موارد كثيرة :
1 ـ قوله (عليه السلام) ـ بعدما سأله زرارة بقوله : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ألا تخبرني من أين علمتَ وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس . . . ـ : لمكان الباء(2); فإنّ مرجعه إلى أ نّه لو كان السائل توجّه إلى هذه النكتة في آية الوضوء لما احتاج إلى السؤال أصلاً ; لأنّ ظهور «الباء» في التبعيض ، وحجّية الظهور كلاهما ممّا لا يكاد ينكر .
إن قلت : لعلّ السؤال إنّما هو لأجل عدم ظهور آية الوضوء في المسح ببعض الرأس ; لعدم كون «الباء» ظاهرة في التبعيض . وعليه: لا تكون الرواية دالّة على حجّية الظاهر .
قلت : اقتصاره (عليه السلام) في الجواب على قوله : «لمكان الباء» دليل على أنّ ظهور «الباء» في التبعيض ممّا لا يكاد يخفى ، وإلاّ لما تمّ الاقتصار كما هو ظاهر .
2 ـ قوله (عليه السلام) لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء ، اعتذاراً بأنّه
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 16ـ 17 ، كتاب التجارة ، أبواب الخيار ب 6 .
(2) الكافي: 3 / 30 ح4 ، الفقيه: 1 / 56 ح212 ، علل الشرائع: 279 ب190 ح1 ، تهذيب الأحكام: 1 / 61 ح168 ، الاستبصار: 1 / 62 ح186 ، وعنها وسائل الشيعة : 1 / 412 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب23 ح1 .
(الصفحة 175)
لم يكن شيئاً أتاه برجله : أما سمعت قول الله ـ عزّوجلّ ـ : (إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـئـِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُولاً) (1) ، وقول المخاطب : كأنّي ما سمعت هذه الآية أصلاً(2) .
3ـ قوله (عليه السلام) في تحليل نكاح العبد للمطلّقة ثلاثاً : قال الله ـ عزّ وجلّ ـ : (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) (3) ، هو أحد الأزواج(4) .
4ـ قوله (عليه السلام) في أنّ المطلّقة ثلاثاً لا تحلّ بالعقد المنقطع : إنّ الله ـ تعالى ـ قال : (فَإِن طَـلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَـلَّقَهَا . . . . ) (5) ، والمتعة ليس فيها طلاق (6) .
5ـ قوله (عليه السلام) فيمن عثر فوقع ظفره ، فجعل على إصبعه مرارة : يعرف هذا
- (1) سورة الإسراء 17 : 36 .
(2) الكافي: 6 / 432 ح10 ، الفقيه: 1 / 45 ح177 ، تهذيب الأحكام: 1 / 116 ح304 عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، وعنها وسائل الشيعة: 3 / 331 ، كتاب الطهارة ، أبواب الأغسال المسنونة ب18 ح1 . وفي مستدرك الوسائل : 13 / 221 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 80 ح 15184 ، عن الفقه المنسوب للإمام الرضا(عليه السلام) : 281 ـ 282 باختلاف يسير . وفي وسائل الشيعة : 17 / 311 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب99 ح 29 ، عن تفسير العيّاشي: 2 / 292 ح74 نحوه مختصراً .
(3) سورة البقرة 2 : 230 .
(4) الكافي: 5 / 425 ح3 ، تفسير العيّاشي: 1 / 119 ح375 ، نوادر ابن عيسى: 112 ح277 ، وعنها وسائل الشيعة : 22 / 133 ، كتاب الطلاق ، أبواب أقسام الطلاق ب12 ح1 . وفي البرهان في تفسير القرآن: 1 / 479 ح1226 وص481 ح1238 عن الكافي والعيّاشي . وفي بحار الأنوار: 104 / 157 ح74 عن العياشي .
(5) سورة البقرة 2 : 230 .
(6) تهذيب الأحكام: 8 / 34 ح103 ، الاستبصار: 3 / 275 ح978 عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، وعنهما وسائل الشيعة : 22 / 132 ، كتاب الطلاق ، أبواب أقسام الطلاق ب9 ح4 . وفي البرهان في تفسير القرآن: 1/480-481 ح1229 و1234عن التهذيبوتفسيرالعيّاشي: 1/118 ح371. وفي بحار الأنوار: 104 / 156 ح70 عن العيّاشي .
(الصفحة 176)
وأشباهه من كتاب الله عزّوجلّ ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج) (1) إمسح عليه(2) .
6ـ عن تفسير العيّاشي ، عن ابن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قضى أميرالمؤمنين (عليه السلام) في امرأة تزوّجها رجل ، وشرط عليها وعلى أهلها إن تزوّج عليها امرأة ، أو هجرها ، أو أتى عليها سريّة; فإنّها طالق ، فقال (عليه السلام) : شرط الله قبل شرطكم ، إن شاء وفى بشرطه ، وإن شاء أمسك امرأته ونكح عليها ، وتسرّى عليها وهجرها إن أتت بسبيل ذلك ، قال الله ـ تعالى ـ في كتابه : (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـثَ وَرُبَـعَ) (3) . وقال : (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ) (4) . وقال : (وَالَّـتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) (5) الآية (6) .
7ـ وما عن الفقيه بسنده إلى زرارة ، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) قالا : المملوك لا يجوز طلاقه ولا نكاحه إلاّ بإذن سيِّده ، قلت : فإنّ السيِّد كان زوَّجه ، بيد مَن الطلاق؟ قال : بيد السيِّد ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْء) (7) أفشيء الطلاق (8) ؟!
- (1) سورة الحجّ 22 : 78 .
(2) الكافي: 3 / 33 ح4 ، تهذيب الأحكام: 1 / 363 ح1097 ، الاستبصار: 1 / 77 ح240 ، وعنها وسائل الشيعة : 1 / 464 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب39 ح5 . وفي تفسير كنز الدقائق: 6 / 570 وملاذ الأخيار: 13 / 76 ح21 عن التهذيب . (3 ، 4) سورة النساء 4 : 3 .
(5) سورة النساء 4 : 34 .
(6) تفسير العيّاشي: 1 / 240 ح121 ، وعنه وسائل الشيعة : 21 / 277 ، كتاب النكاح ، أبواب المهور ب 20 ح6 ، وبحار الأنوار: 104 / 68 ح1 .
(7) سورة النحل 16 : 75 . (8) الفقيه :3/350 ح 1673 ، تهذيب الأحكام: 7 / 347 ح1419 ، الاستبصار: 3 / 214 ح780 ، وعنها وسائل الشيعة : 22/101 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ب 45 ح1 . وفي الوافي: 12 / 1095 ح22830 وروضة المتّقين: 9 / 193 عن التهذيب والفقيه .
(الصفحة 177)
8 ـ وغير ذلك من الموارد الكثيرة المتفرّقة في أبواب الفقه ، التي قد استدلّ فيها الإمام (عليه السلام) بالكتاب ، سيّما في قبال المخالفين المنكرين لإمامتهم ; فإنّه لو كان مذاقهم عدم حجّية ظاهر الكتاب لغيرهم لما كان للاستدلال به في مقابلهم وجه أصلاً .
وأ مّا المنكرون لحجّية ظواهر الكتاب الذين هم جماعة من المحدِّثين ، فاستندوا في ذلك إلى اُمور :
أحدها : أ نّه قد ورد في الروايات المتواترة بين الفريقين ، النهي عن تفسير القرآن بالرأي ، وفي بعضها : من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(1); أي فليتّخذ مكاناً من النار لأجل القعود ولا محيص له عنها ، والأخذ بظواهر القرآن من مصاديق التفسير بالرأي ; فإنّه وإن لم يكن مصداقه منحصراً بذلك ; لشموله قطعاً لحمل المتشابه والمبهم على أحد معنييه أو معانيه مستنداً إلى الظنّ أو الاستحسان ، إلاّ أنّ الظاهر شموله لحمل الظواهر على ظاهرها والعمل بما تقتضيه .
والجواب أوّلاً : أنّ التفسير بحسب اللغة والعرف بمعنى : كشف القناع وإظهار أمر مستور ، ومن المعلوم أ نّ الأخذ بظاهر اللفظ لا يكون من التفسير بهذا المعنى ، فلا يقال لمن أخذ بظاهر كلام من يقول مثلاً : رأيت أسداً ، وأخبر بأنّ فلاناً قد رأى الحيوان المفترس : أ نّه فسّر كلامه ، وقد شاع في العرف أ نّ الواقعة أمر ، وتفسير الواقعة أمر آخر .
وبالجملة : لا ينبغي الارتياب في أنّ «التفسير» لا يشمل حمل اللفظ على
- (1) عوالي اللئالي : 4 / 104 ح 154 عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، تفسير الصافي: 1 / 32 ، المقدّمة الخامسة. وفي التوحيد: 91، والمسند لابن حنبل: 1 / 501 ح2069، وسنن الترمذي: 5 / 199 ح2955، ومجمع البيان: 1 / 7 ، وعنه وسائل الشيعة: 27 / 204 ح76 هكذا: من قال في القرآن بغير علم إلخ ، وفي سنن الترمذي : 5 / 199 ح2956: من قال في القرآن برأيه إلخ .