(الصفحة 183)
متعدّدة لمطلقاتها ، فاللاّزم بناءً عليه خروج ظواهرها أيضاً عن الحجّية ، مع أنّ المستدلّ لا يقول به .
وأمّا ثانياً : فبالحلّ ، بأنّ هذا العلم الإجمالي إن كان متعلّقاً بورود مخصّصات كثيرة ، ومقيّدات متعدّدة ، وقرائن متكثّرة على إرادة خلاف بعض الظواهر ووقوعها في الروايات ، بحيث لو فحصنا عنها لظفرنا بها ، فوجود هذا العلم الإجمالي وإن كان ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، إلاّ أنّه لا يمنع عن حجّية الظاهر الذي لم يظفر على دليل بخلافه بعد الفحص التامّ ، والتتبّع الكامل ; لخروجه عن دائرة العلم الإجمالي حينئذ على ما هو المفروض ، وقد عرفت(1) أنّ محلّ البحث في باب حجّية الظواهر إنّما هو هذا القسم منها .
وإن كان متعلّقاً بورودها مطلقاً ، بحيث كانت دائرة المعلوم أوسع من هذه الاُمور الواقعة في الروايات ، فنمنع وجود هذا النحو من العلم الإجمالي ; فإنّ المسلّم منه هو النحو الأوّل الذي لا ينافي حجّية الظواهر بوجه أصلاً .
خامسها : أ نّ الكتاب بنفسه قد منع عن العمل بالمتشابه ، فقد قال الله ـ تعالى ـ : (مِنْهُ ءَايَـتٌ مُّحْكَمَـتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـبِ وَأُخَرُ مُتَشَـبِهَـتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ) (2) .
وحمل اللفظ على ظاهره من مصاديق اتّباع المتشابه ، ولا أقلّ من احتمال شموله للظاهر ، فيسقط عن الحجّية رأساً .
والجواب : أ نّه إن كان المدّعى صراحة لفظ «المتشابه» في الشمول لحمل الظاهر على معناه الظاهر فيه ; بمعنى كون الظواهر من مصاديق المتشابه قطعاً ، فبطلان هذه الدعوى بمكان من الوضوح ، بداهة أنّه كيف يمكن ادّعاء كون أكثر
- (1) في ص170 ـ 171 .
(2) سورة آل عمران 3 : 7 .
(الصفحة 184)
الاستعمالات المتداولة المتعارفة في مقام إفهام الأغراض وإفادة المقاصد من مصاديق المتشابهات ، نظراً إلى كون دلالتها على المرادات بنحو الظهور دون الصراحة؟
وإن كان المدّعى ظهور لفظ «المتشابه» في الشمول للظواهر ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع ذلك لما ذكرنا من عدم كون الظواهر لدى العرف واللغة من مصاديق المتشابه ـ : أ نّه كيف يجوز الاستناد إلى ظاهر القرآن لإثبات عدم حجّية ظاهره ؟ فإنّه يلزم من فرض وجوده العدم ، ولا يلزم على القائل بحجّية الظواهر رفع اليد عن مدّعاه ; نظراً إلى ظهور الآية في المنع عن اتّباع المتشابه الشامل للظواهر أيضاً ، فإنّك عرفت عدم ظهوره عنده في الشمول لغةً ولا عرفاً بوجه أصلاً .
وإن كان المدّعى احتمال شمول «المتشابه» للظواهر الموجب للشكّ في الحجّية ، المساوق لعدم الحجّية رأساً ; لما تقرّر في علم الاُصول(1) من أنّ الشكّ في حجّية الظنّ يستلزم القطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليها .
فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع الاحتمال أيضاً ـ : أ نّه لو فرض تحقّق هذا الاحتمال لما كان موجباً لخروج الظواهر عن الحجّية ، بداهة أ نّه مع قيام السيرة القطعيّة العقلائيّة على العمل بالظواهر والتمسّك بها ، واحتجاج كلّ من الموالي والعبيد على الآخر بها ، لا يكون مجرّد احتمال شمول لفظ «المتشابه» للظواهر موجباً لرفع اليد عن السيرة .
بل لو كان العمل بظواهر الكتاب غير جائز لدى الشارع ، وكانت طريقته في المحاورة في الكتاب مخالفة لما عليه العقلاء في مقام المحاورات ، وإبراز المقاصد والأغراض ، لكان عليه الردع الصريح عن إعمال السيرة في مورد الكتاب ، والبيان
- (1) كفاية الاُصول: 279 ـ 280 ، مجمع الأفكار: 2 / 169 و ج4 / 443 ، محاضرات في اُصول الفقه: 3 / 266 ، 276 ، مباحث الاُصول: 1 / 568 وج2 / 71 ، 78 ، سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 178ـ 192 .
(الصفحة 185)
الواضح الموجب للفرق البيّن بين الكتاب ، وبين الروايات ، وأ نّه لا يجوز في الأوّل الاتّكال على الظواهر دون الثاني ، ومجرّد احتمال شمول لفظ المتشابه لا يجدي في ذلك .
وبعبارة اُخرى: لو كان للكتاب من هذه الجهة الراجعة إلى مقام الإفهام والإفادة خصوصيّة ومزيّة لدى الشارع ، مخالفة لما استمرّت عليه السيرة العقلائيّة في محاوراتهم ، هل يكفي في بيانه مجرّد احتمال شمول لفظ «المتشابه» الذي نهى عن اتّباعه ، أو أ نّه لابدّ من البيان الصريح ؟ وحيث إنّ الثاني منتف ، والأوّل غير كاف قطعاً، فلامحيص عن الذهاب إلى نفي الخصوصيّة وعدم ثبوت المزيّة ، كما هو واضح.
سادسها : وقوع التحريف بالنقيصة في الكتاب العزيز المانع عن حجّية الظواهر واتّباعها ; لاحتمال كونها مقرونة بما يدلّ من القرائن على إرادة خلافها ، وقد سقطت من الكتاب ، فالتحريف الموجب لتحقّق هذا الاحتمال يستلزم المنع عن الأخذ بظواهر الكتاب ، كما هو ظاهر .
والجواب : منع وقوع التحريف المدّعى في الكتاب وعدم تحقّقه بوجه . وسيأتي البحث عنه مفصّلاً في حقل مستقلّ نختتم به أبحاث الكتاب بإذن الله تعالى بعنوان : عدم تحريف الكتاب وشبهات القائلين بالتحريف .
الأمر الثاني : قول المعصوم (عليه السلام)
لا إشكال في أنّ قول المعصوم (عليه السلام) ـ نبيّاً كان أو إماماً ـ حجّة في مقام كشف مراد الله ـ تبارك وتعالى ـ من ألفاظ كتابه العزيز ، وآيات قرآنه المجيد ; لما ثبت في محلّه من حجّية قوله ، أ مّا النبيّ (صلى الله عليه وآله) فواضح ، وأ مّا الإمام ; فلأنّه أحد الثقلين(1)
- (1) يلاحظ بحار الأنوار: 23 / 104 ـ 166 ب7 وغيره ، وقد تقدّم في ص 172 .
(الصفحة 186)
اللذين اُمرنا بالتمسّك بهما ، والاعتصام بحبلهما ، فراراً عن الجهالة ، واجتناباً عن الضلالة . فمع ثبوت قوله في مقام التفسير ، ووضوح صدوره عنه (عليه السلام) لا شبهة في لزوم الأخذ به ، وإن كان مخالفاً لظاهر الكتاب ; لأنّ قوله (عليه السلام) ـ في الحقيقة ـ بمنزلة قرينة صارفة ، ولكن ذلك مع ثبوت قوله (عليه السلام) إمّا بالتواتر ، أو بالخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة .
وقد وقع الإشكال والخلاف في أنّه هل يثبت قوله (عليه السلام) من طريق خبر الواحد ، الجامع للشرائط المعتبر ، فيما إذا أخبر عن المعصوم (عليه السلام) بحكم شرعيّ عمليّ ; لقيام الدليل القاطع على حجّيته واعتباره ، أم لا؟
ربما يقال بعدم الثبوت في مقام التفسير ، وإن كان يثبت به في مقام بيان الأحكام الفقهيّة والفروع العمليّة ، ففي الحقيقة إذا كان قوله (عليه السلام) المنقول بخبر الواحد في تفسير آية متعلّقة بالحكم يكون حجّة معتبرة ، وأمّا إذا كان مورد التفسير آية لاتتعلّق بحكم من الأحكام العمليّة ، فلا يكون خبر الواحد الحاكي له بحجّة أصلاً ; وذلك لأنّ معنى حجّية خبر الواحد ، وكذا كلّ أمارة ظنّية ، يرجع إلى وجوب ترتيب الآثار عليه في مقام العمل .
وبعبارة اُخرى : الحجّية عبارة عن المنجّزيّة في صورة الموافقة ، والمعذّريّة في فرض المخالفة ، وهما ـ أي المنجّزيّة والمعذّريّة ـ لا تثبتان إلاّ في باب التكاليف المتعلّقة بالأعمال فعلاً أو تركاً ، فإذا كان مفاد الخبر حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعيّ يكون الخبر حجّة ; لاتّصافه في هذه الصورة بوصف المنجّزيّة والمعذّريّة . وأ مّا إذا لم يكن كذلك ـ كما في المقام ـ فهذا المعنى غير متحقّق ; لعدم تعقّل هذا الوصف في غير باب الأحكام ، إذن فلا محيص عن الالتزام بعدم حجّية خبر الواحد في تفسير آية لا تتعلّق بحكم عمليّ أصلاً .
والتحقيق : أ نّه لا فرق في الحجّية والاعتبار بين القسمين ; لوجود الملاك في
(الصفحة 187)
كلتا الصورتين .
توضيح ذلك : أ نّه تارةً: يستند في باب حجّية خبر الواحد إلى بناء العقلاء واستمرار سيرتهم على ذلك ، كما هو العمدة من أدلّة الحجّية على ما حقّق وثبت في محلّه(1) ، واُخرى: إلى الأدلّة الشرعيّة التعبّدية من الكتاب والسنّة والإجماع ، لو فرض دلالتها على بيان حكم تعبّديّ تأسيسيّ .
فعلى الأوّل: ـ أي بناء العقلاء ـ لابدّ من ملاحظة أ نّ اعتماد العقلاء على خبر الواحد والاستناد إليه ، هل يكون في خصوص مورد يترتّب عليه أثر عمليّ ، أو أ نّهم يتعاملون معه معاملة القطع في جميع ما يترتّب عليه؟
الظاهر هو الثاني ، فكما أنّهم إذا قطعوا بمجيء زيد من السفر يصحّ الإخبار به عندهم ، وإن لم يكن موضوعاً لأثر عمليّ ولم يترتّب على مجيئه ما يتعلّق بهم في مقام العمل ; لعدم الفرق من هذه الجهة بين ثبوت المجيء وعدمه ، فكذلك إذا أخبرهم ثقة واحد بمجيء زيد يصحّ الإخبار به عندهم ، استناداً إلى خبر الواحد ، ويجري هذا الأمر في جميع الأمارات التي استمرّت سيرة العقلاء عليها ; فإنّ اليد مثلاً أمارة لديهم على ملكيّة صاحبها ، فيحكمون معها بوجودها ، كما إذا كانوا قاطعين بها ، فكما أنّهم يرتّبون آثار الملكيّة في مقام العمل فيشترون منه مثلاً ، فكذلك يخبرون بالملكيّة استناداً إلى اليد .
وبالجملة : إذا كان المستند في باب حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء ، لا يبقى فرق معه بين ما إذا أخبر عادل بأنّ المعصوم (عليه السلام) فسّر الآية الفلانية بما هو خلاف ظاهرها ، وبين نفس ظواهر الكتاب التي لا دليل على اعتبارها إلاّ بناء العقلاء على العمل بظواهر الكلمات ، وتشخيص المرادات من طريق الألفاظ والمكتوبات ، فكما
- (1) سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 576 ـ 589 .