(الصفحة 190)
فكما أنّ قوله : «رأيت أسداً» ظاهر في المعنى الحقيقي ، فكذلك قوله : «رأيت أسداً يرمي» ظاهر في المعنى المجازي ; ضرورة أنّ المتفاهم العرفي منه هو الرجل الشجاع ، من دون فرق بين أن نقول بأنّه ليس له إلاّ ظهور واحد ينعقد للجملة بعد تمامها ; نظراً إلى أنّ ظهور «أسد» في معناه الحقيقي متوقّف على تماميّة الجملة ، وخلوّها عن القرينة على الخلاف ، وفي صورة وجود تلك القرينة لا ظهور له أصلاً ، بل الظهور ينعقد ابتداءً في خصوص المعنى المجازي .
أو نقول بوجود ظهورين : ظهور لفظ «الأسد» في معناه الحقيقي ، وظهور «يرمي» في المعنى المجازي ، غاية الأمر كون الثاني أقوى ، ولأجله يتقدّم على الظهور الأوّل ، وفي الحقيقة كلّ من اللّفظين ظاهر في معناه الحقيقي ، لكن يكون ظهور القرينة فيه ، الذي يكون معنى مجازيّاً بالإضافة إلى المعنى الأوّل أقوى وأتمّ ; فإنّه على كلا القولين تكون الجملة ظاهرة في المعنى المجازي الذي هو عبارة عن الرجل الشجاع .
وبالجملة : أصالة الظهور الراجعة إلى أصالة تطابق الإرادة الجدّية ، مع الإرادة الاستعمالية ، وكون المقصود الواقعي من الكلام هو ما يدلّ عليه ظاهر اللفظ جارية في كلا الصورتين ; من دون أن يكون هناك تفاوت في البين ، وحينئذ فإذا حكم العقل في مورد بخلاف ما هو ظاهر لفظ الكتاب ، يكون حكمه بمنزلة قرينة قطعيّة متّصلة موجبة لعدم انعقاد ظهور له واقعاً ، إلاّ فيما حكم به العقل .
فقوله ـ تعالى ـ : (وَ جَآءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (1) وإن كان ظهوره الابتدائي في كون الجائي هو الربّ بنفسه ، وهو يستلزم الجسميّة الممتنعة في حقّه تعالى ، إلاّ أنّ حكم العقل القطعي باستحالة ذلك ـ لاستلزامه التجسّم للافتقار
(الصفحة 191)
والاحتياج المنافي لوجوب الوجود ; لأنّ المتّصف به غنيّ بالذات ـ يوجب عدم انعقاد ظهور له في هذا المعنى ، وهو اتّصاف الرّبّ بالمجيء .
وهكذا قوله ـ تعالى ـ : (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (1) ومثله الآيات الظاهرة على خلاف حكم العقل .
فانقدح أنّ حكم العقل ـ مع كونه من الاُمور التي هي اُصول التفسير ، ولا مجال للإغماض عنه في استكشاف مراد الله ـ تعالى ـ من كتابه العزيز ـ يكون مقدّماً على الأمرين الآخرين ، ولا موقع لهما معه . أ مّا تقدّمه على الظهور فلِما عرفت من عدم انعقاده مع حكم العقل على الخلاف ; لأنّه بمنزلة قرينة متّصلة . وأ مّا تقدّمه على الأمر الآخر; فلأنّ حجّية قوله إنّما تنتهي إلى حكم العقل وتستند إليه ، فكيف يمكن أن يكون مخالفاً له ؟ فالمخالفة تكشف عن عدم صدوره عن المعصوم (عليه السلام) ، أو عدم كون ظاهر كلامه مراداً له ، فكما أنّه يصير صارفاً لظاهر الكتاب ، يوجب التصرّف في ظاهر الرواية بطريق أولى ، كما لا يخفى .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الذي يبتني عليه التفسير إنّما هو خصوص الاُمور الثلاثة المتقدّمة : الظاهر ، وقول المعصوم ، وحكم العقل ، ولا يسوغ الاستناد في باب التفسير إلى شيء آخر .
نعم ، في باب الظواهر لابدّ من إحراز الصغرى ; وهي الظهور الذي مرجعه إلى الإرادة الاستعماليّة ; ضرورة أنّ التطابق بين الإرادتين لا يتحقّق بدون تشخيص الإرادة الاستعماليّة ، وإحراز مدلول اللفظ . ويقع الكلام حينئذ في طريق هذا التشخيص لمن لا يكون عارفاً بلغة العرب ، ولا يكون من أهل اللّسان ، ولا يجوز الاتّكال في ذلك على قول المفسّر ، أو اللّغوي ، مع عدم إفادة قولهما اليقين ،
(الصفحة 192)
أو الاطمئنان الذي هو علم عرفيّ ; وذلك لعدم الدليل على حجّية قولهما أصلاً ، فالرجوع إلى التفسير لا يكاد يترتّب عليه فائدة إلاّ إذا حصل منه اليقين ، أو ما يقوم مقامه بظهور اللفظ في المعنى الفلاني ، وكونه مراداً بالإرادة الاستعماليّة ، كما هو غير خفيّ .
(الصفحة 193)
عدم تحريف الكتاب
* عرض لمعاني التحريف والردّ عليه .
* مذهب الإماميّة في عدم التحريف المتسالم عليه .
* أدلّة عدم التحريف ، ومناقشة القائلين به .
(الصفحة 194)