(الصفحة 207)
النقص فيما تواتر قرآناً ، كما هو موجود بين الدفّتين اليوم .
ثمّ قال : «نعم ، أسقط زمن الصديق ما لم تتواتر وما نسخت تلاوته ، وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ ، وما لم يكن في العرضة الأخيرة ، ولم يألُ جُهداً في تحقيق ذلك ، إلاّ أ نّه لم ينتشر نوره في الآفاق إلاّ زمن ذي النورين ، فلهذا نسب إليه .
كما روي عن حميدة بنت يونس أنّ في مصحف عائشة : « إنَّ الله و مَلـئـِكَته يصلُّون على النَّبىّ يَـأيُّهَا الَّذين ءامنُوا صَلُّوا عليْه وسَلّموا تسْلِيماً ـ وعلى الّذين يصلون الصفوف الأوّل» وأ نّ ذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف (1) .
فما أخرج أحمد ، عن اُبيّ قال : قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أمرني أن أقرأ عليك قال : فقرأ عليّ ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَ مَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) (2)إنّ الدين عند الله الحنيفيّة غير المشركة ، ولا اليهوديّة ، ولا النصرانيّة ، ومن يفعل خيراً فلن يكفر (3) .
وفي رواية : ومن يعمل صالحاً فلن يكفره ، وما اختلف الذين اُوتوا الكتاب إلاّ من بعدما جاءتهم البيّنة ، إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لمّا جاءهم أولئك عند الله شرّ البريّة ، ما كان الناس إلاّ اُمّة واحدة ، ثمّ أرسل الله
- (1) المصاحف لابن أبي داود السجستاني : 211 ، الرقم 236 ، وفيه: والّذين يصلون الصفوف الأوّل ، الإتقان في علوم القرآن: 3 / 82 ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5: 580 ، الآية 56 من سورة الأحزاب، وفيه : والذين يصفون الصفوف الأوّل .
(2) سورة البيّنة 98 : 1 ـ 4 .
(3) المسند لابن حنبل : 8 / 40 ح 21261 .
(الصفحة 208)
النبيّين مبشِّرين ومنذرين يأمرون الناس ، يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويعبدون الله وحده ، أولئك عند الله خير البريّة ، جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربّه(1) .
وفي رواية الحاكم: فقرأ فيها : «لو أنّ ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطاه يسأل ثانياً ، ولو سأل ثانياً فأعطاه يسأل ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ، ويتوب الله على من تاب . . .»(2) .
وما روي عنه أيضاً أنّه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد : «اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ، ونثني عليك ، ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ، اللّهمّ إيّاك نعبد ، ولك نصلّي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك ، إنّ عذابك بالكفّار ملحق»(3) فهو من ذلك القبيل ، ومثله كثير .
وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد ، عن ابن عمر ، قال : لا يقولنَّ أحدكم : قد أخذت القرآن كلّه ، وما يدريه ما كلّه ؟! قد ذهب منه قرآن كثير ، ولكن ليقل : قد أخذت منه ما ظهر (4) .
والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى ، إلاّ أنّها محمولة على ما ذكرناه ، وأين ذلك ممّا يقوله الشيعي الجسور: ( وَ مَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور) (5) (6) .
- (1) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور: 8 / 536 ـ 537 عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
(2) المستدرك على الصحيحين: 2 / 244 ح2889 عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
(3) كتاب الدعاء للطبراني: 238 ح750 ، الإتقان في علوم القرآن : 1 / 226، النوع التاسع عشر .
(4) الإتقان في علوم القرآن : 3 / 81 ـ 82 ، النوع السابع والأربعون .
(5) سورة النور 24 : 40 .
(6) روح المعاني: 1 / 32 ـ 35 .
(الصفحة 209)
انتهى ما أردنا نقله من كلامه حشره الله لا مع أجداده ، بل مع من يحبّه ويتولاّه .
وأنت خبير بما فيه :
أ مّا أوّلاً : فلأنّك عرفت(1) أنّ المشهور عند أصحابنا الإماميّة ، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف ، بل قد عرفت(2) أنّ الصدوق(قدس سره) جعله من عقائد الإماميّة ، وادّعى كاشف الغطاء فيه الضرورة والبداهة ، ومعه لا وجه للافتراء عليهم ، ونسبة هذا القول السخيف إلى الطائفة المحقّة ـ الظاهرة في الشهرة بينهم ـ وذهاب الكليني وبعض آخر من المحدّثين; كشيخه علي بن إبراهيم القمّي صاحب التفسير إلى القول بالتحريف ـ لا يسوغ النسبة إلى الجميع أو المشهور ، مع أنّ منشأ النسبة إليه وإلى شيخه هو ذكر الأخبار الظاهرة فيه .
ومن الواضح أ نّ نقل الخبر لا يدلّ على اختيار الناقل لما يفهم منه ظاهراً ; لأ نّه فرع اعتباره أوّلاً ، وظهوره عنده في ذلك ثانياً ، وخلوّه عن المعارض ثالثاً ، وحجّيته في مثل هذه المسألة رابعاً ، وتحقّق ذلك عند الناقل غير واضح .
وأ مّا ثانياً : فلأنّ إنكار ذهاب الحشويّة من العامّة إلى ذلك .
وهم الفرقة القائلة بحجّية ظواهر القرآن واعتبارها ، ولو كان على خلاف العقل الصريح ; ولذا التزموا بالتجسيم نظراً إلى ذلك ، ولعلّه لأجله سمّيت بالحشويّة ـ في غير محلّه; لشيوع هذا القول منهم من الأزمنة المتقدّمة (3) .
وأمّا ثالثاً : فلأنّه أنكر التحريف غاية الإنكار ، والتزم بما يرجع إليه من نسخ
- (1 ، 2) في ص200 ـ 204 .
(3) موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 1 / 678 .
(الصفحة 210)
التلاوة ، الذي هو في الحقيقة تحريف ، حيث قال في عبارته المتقدّمة : «نعم، أُسقط زمن الصديق ما لم تتواتر وما نسخت تلاوته ، وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ» .
والعجب! أ نّه لا يختصّ هذا الإيراد بالرجل ، بل هو شائع بين الجمهور ، حيث إنّهم قد صرّحوا بنفي التحريف ، وإثبات نسخ التلاوة ، وعليه حملوا الروايات الكثيرة المرويّة بطرقهم ، الدالّة على اشتمال القرآن الأوّلي على أزيد من ذلك ، وقد نسخت تلاوة الزائد ، وقد نقل بعضها الآلوسي في عبارته المتقدّمة ، ولا بأس بذكر البعض الآخر أيضاً مثل :
ما روى المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : أَلم تجد فيما اُنزل علينا : «أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة » ؟ فإنّا لا نجدها ! قال : اُسقطت فيما اُسقط من القرآن (1) .
وروى ابن أبي داود ، عن ابن شهاب قال : بلغنا أنّه كان اُنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ، ولم يكتب ، الحديث(2) .
وروى عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ ما هو الآن(3) .
وروى ابن عبّاس ، عن عمر أ نّه قال : إنّ الله ـ عزّوجلّ ـ بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل الله آية الرّجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده . . . ثمّ قال : إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من
- (1) الإتقان في علوم القرآن: 3 / 84 ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 1 / 232 .
(2) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 100 ح 81، كنز العمال: 2 / 584 ح 4778 ، وتأتي بتمامها فى ص276.
(3) الإتقان في علوم القرآن: 3 / 82 ، الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي: 14 / 113 ، محاضرات الاُدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء : 4 / 169 .
(الصفحة 211)
كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم; فإنّه كفر بكم . . . أو أنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم(1) .
وآية الرّجم التي ادّعى عمر ـ على طبق الرواية ـ أ نّها من القرآن رويت بوجوه:
منها : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم (2) .
ومنها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللّذة(3) .
ومنها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة (4) .
وغير ذلك من الموارد التي التزموا فيها بنسخ التلاوة ، مع أ نّه لا يعلم مرادهم من نسخ التلاوة هل كان نسخها بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، أو بأيدي من تصدّى للزعامة والخلافة بعده؟
فإن كان الأوّل ، فما الدليل على النسخ بعد ثبوت كون المنسوخ من القرآن بنحو التواتر على اعتقادهم ؟ ولذا يقولون بأ نّه «كان يقرؤه من لم يبلغه النسخ» ، وصرّح بذلك الآلوسي في عبارته المتقدّمة ، فإن كان المثبت له هو خبر الواحد ، فقد قرّر في محلّه من علم الاُصول(5) وغيره أ نّه لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، والظاهر الاتّفاق عليه (6) ، وإن وقع الاختلاف في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد (7) .
- (1) صحيح البخاري: 8 / 33، باب رجم الحبلى 31، قطعة من ح6330 . (2 ، 3) الإتقان في علوم القرآن: 3 / 82 .
(4) المسند لابن حنبل: 8 / 142 ح 21652 ، سنن الدارمي 2: 124 ح 2320 .
(5) كفاية الاُصول: 276 ، حقائق الاُصول: 1 / 535 .
(6) البيان في تفسير القرآن: 284 ، فقد جزم بإجماع المسلمين عليه .
(7) الإحكام في اُصول الأحكام: 2 / 347 المسألة الخامسة .