(الصفحة 225)
والرجال من مفسِّري العامّة والخاصّة . وعليه: فلا يبقى للتمسّك بها مجال .
والجواب : أنّا قد حقّقنا في أوّل مبحث اُصول التفسير(1) : أ نّ الأصل الأوّلي في باب التفسير ، وكشف مراد الله ـ تبارك وتعالى ـ من كتابه العزيز هو ظواهر الكتاب ، وأ نّ الاعتماد في باب التفسير عليها ممّا لا ينبغي الارتياب فيه . وقول المفسِّرين لم يقم دليل على اعتباره ما لم يكن مبتنياً على تلك الاُصول ، وقد عرفت(2) أنّ ظاهر الآية تعلّق النفي بطبيعة الباطل ، وأ نّ التحريف من أوضح مصاديقه، ولا يعارض ذلك قول المفسِّرين إلاّ إذا كان مستنداً إلى بيان المعصوم (عليه السلام) ، الذي هو أيضاً من تلك الاُصول ، والظاهر عدم الاستناد في المقام ، وعلى تقديره فالروايات المستند إليها هي الروايات المتقدّمة ، وقد عرفت عدم دلالتها على حصر الباطل في مفادها ، والدليل عليه وجود الاختلاف بينها ، كما لا يخفى .
الإشكال الرابع : نظيره من أنّه إن اُريد بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل جميع أفراده الموجودة بين الناس ، فهو خلاف الواقع ; للإجماع على أنّ ابن عفّان أحرق مصاحف كثيرة، حتّى قيل : إنّه أحرق أربعين ألف مصحف ، ويمكن ذلك لآحاد أهل الإسلام والمنافقين ، فليكن ما صدر من أولئك من التحريف في الصدر الأوّل من هذا القبيل ، وإن اُريد في الجملة ، فيكفي في انتفاء الباطل عنه انتفاؤه عن ذلك الفرد المحفوظ عند أهل البيت (عليهم السلام) .
والجواب عنه قد تقدّم في الأمر الأوّل ، والتكرار موجب للتطويل .
الدليل الثالث : ما أفاده بعض الأعاظم في تفسيره المسمّى بـ «الميزان في تفسير القرآن» وحاصله : أنّ من ضروريّات التاريخ أ نّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) جاء قبل أربعة عشر قرناً تقريباً ، وادّعى النبوّة ، وأنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن ، وينسبه إلى ربّه ،
- (1) في ص 170 ـ 185 .
(2) فى ص 221 ـ 222.
(الصفحة 226)
وكان يتحدّى به ويعدّه آيةً لنبوّته ، وأ نّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به ، وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة ; بمعنى أنّه لم يضع من أصله بأن يفقد كلّه ، ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه ، ويشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
فهذه اُمور لا يرتاب في شيء منها إلاّ مصاب في فهمه ، ولا احتمله أحد من الباحثين في مسألة التحريف ، وإنّما المحتمل زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية ، أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها .
ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته ، ونجد ما بأيدينا من القرآن ـ أعني ما بين الدفّتين ، واجداً لما وصف به من أوصاف تحدّى بها .
فنجده يتحدّى بالبلاغة والفصاحة ، ونجد ما بأيدينا مشتملاً على ذلك النظم العجيب البديع ، لا يشابهه شيء من كلام البلغاء والفصحاء المحفوظ منهم ، والمرويّ عنهم من شعر أو نثر وأمثالهما .
ونجده يتحدّى بقوله : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوافِيهِ اخْتِلَـفًا كَثِيرًا) (1) بعدم وجود اختلاف فيه ، ونجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء .
ونجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربيّة ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا) (2) .
ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الذي لا مرية فيه ، ويهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اُصول المعارف الحقيقيّة ، وكلّيات الشرائع
- (1) سورة النساء 4: 82 .
(2) سورة الإسراء 17 : 88 .
(الصفحة 227)
الفطريّة ، وتفاصيل الفضائل الخلقيّة ، من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة والخلل ، أو نحصل على شيء من التناقض والزلل ، بل نجد جميع المعارف على سعتها وكثرتها حيّة بحياة واحدة ، مدبّرة بروح واحد ، هو مبدأ جميع المعارف القرآنيّة ، والأصل الذي إليه ينتهي الجميع ويرجع ، وهو التوحيد ، فإليه ينتهي الجميع بالتحليل ، وهو يعود إلى كلّ منها بالتركيب .
ونجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء واُممهم ، ونجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم ، ويفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين ، ويناسب نزاهة ساحة النبوّة .
ونجده يورد آيات في الملاحم ، ويخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة ، ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن .
ونجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة ، كما يصف نفسه بأنّه نور ، وأ نّه هاد يهدي إلى صراط مستقيم ، وإلى الملّة التي هي أقوم ، ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك .
ومن أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أ نّه ذكر لله ; فإنّه يذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه حيّة خالدة ، وبما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، ويصف سنّته في الصنع والإيجاد ، ويصف ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وأحكامه وما ينتهي إليه أمر الخلقة ، وتفاصيل ما يؤول إليه أمر الناس من السعادة والشقاوة والجنّة والنار .
ففي جميع ذلك ذكر الله; وهو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذكر ، ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذكر .
ولكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان والتغيير والتحريف
(الصفحة 228)
كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (1)»(2) . انتهى ما أفاده ملخّصاً .
وهو وإن كان غير خال عن المناقشة ; ضرورة أنّ ما أفاده إنّما يجدي لنفي الزيادة الكثيرة، أو النقيصة المتعدّدة في مواضع متكثّرة، كما يدّعيه القائل بالتحريف، المستند إلى الروايات الكثيرة الدالّة عليه . وأ مّا احتمال زيادة يسيرة أو نقيصة يسيرة كما فرضه في أوّل البحث ، فالدليل لا يثبت نفيه ، ولا يجدي لدفعه أصلاً .
أفيكفي هذا الدليل لإثبات أ نّه لم تسقط كلمة «في عليٍّ» بعد قوله : (بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) (3) ؟ فإنّه على كلا التقديرين ـ سواء كانت هذه الكلمة موجودة أم لم تكن ـ لا يختلّ شيء من أوصاف القرآن ، ولا يوجب نقصاً في التحدّي ، ولا خللاً في الجهات المتعدّدة التي يدلّ عليها القرآن من اُصول المعارف وكلّيات الشرائع ، وتفاصيل الفضائل ، ونقل القصص والإخبار بالملاحم ، وبالتالي كونه ذكراً ، الذي هو ـ كما اعترف به ـ أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن ، إلاّ أ نّ له مع ذلك صلاحيّة للتأييد ممّا لا ينبغي الارتياب فيه .
ثمّ إنّ هذه الاُمور الثلاثة الدالّة على عدم التحريف ، ممّا يمكن التمسّك بها من نفس الكتاب العزيز .
الدليل الرابع : الحديث المعروف المتواتر بين الفريقين ، الدالّ على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) خلّف الثقلين : كتاب الله والعترة ، وأخبر أ نّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض ، وأ نّ التمسّك بهما موجب لعدم تحقّق الضلالة أبداً إلى يوم القيامة(4) .
- (1) سورة الحجر 15: 9 .
(2) الميزان في تفسير القرآن: 12 / 104 ـ 106 .
(3) سورة المائدة 5: 67 .
(4) نصّ الحديث كما في بعض المصادر هكذا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرّقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ؟ ». سنن الترمذي: 5 / 663 ح3797 ، ورواه مسلم في صحيحه: 4 / 1492 ح2408 والحاكم في المستدرك على الصحيحين: 3 / 160 ح4711 وغيرهما، فليراجع كتاب الله وأهل البيت (عليهم السلام) في حديث الثقلين . وانظر بعض مصادر حديث الثقلين عند الإماميّة: كالكافي: 1 / 294 قطعة من ح3، وإرشاد المفيد: 1 / 233، وأمالي الصدوق: 500 ح686، وأمالي المفيد: 135 ح3، وأمالي الطوسي : 162 قطعة من ح268، ووسائل الشيعة: 27 / 33 ـ 34 ح9، وبحار الأنوار: 23/ 104ـ 166 ب7، وغيرها من كتب العامّة والخاصّة ، وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا الحديث في ص172، وتأتي في ص248 و 288 .
(الصفحة 229)
وتقريب الاستدلال بهذا الحديث الشريف على عدم تحريف القرآن المجيد من وجهين :
الوجه الأوّل : أنّ القول بالتحريف يستلزم عدم إمكان التمسّك بالكتاب ، مع أنّ الحديث يدلّ على ثبوت هذا الإمكان إلى يوم القيامة ، فيكون القول بالتحريف الملازم لعدم الإمكان باطلاً; لمخالفته لما يدلّ عليه الحديث ، وعدم إمكان الجمع بينه وبينه .
فهاهنا دعويان لابدّ من إثباتهما :
الدعوى الاُولى : استلزام القول بالتحريف ; لعدم إمكان التمسّك بالكتاب العزيز ، ولتوضيح الاستلزام وثبوت الملازمة نقول : إنّ الكتاب العزيز ـ كما تقدّم(1)سابقاً في بعض مباحث الإعجاز ـ ليس الغرض من إنزاله ، والغاية المترتّبة على نزوله ، ناحيةً خاصّةً وشأناً مخصوصاً ، وليس التعرّض فيه لخصوص فنّ من الفنون التي يختصّ كلّ منها بكتاب ، وكلّ كتاب بواحد منها ، بل هو جامع لفنون شتّى ، وجهات كثيرة ، فتراه متعرّضاً لما يرجع إلى المبدإ من وجوده وتوحيده ، وصفاته العليا ، وأسمائه الحسنى ، وأفعاله وآثاره ، ولما يرتبط بالمعاد من ثبوته