(الصفحة 237)
ثبوتها وذكرها في المكتوب ، واشتمال البعض التالف عليها؟!
من الواضح عدم جواز التمسّك بالإطلاق ، وليس ذلك إلاّ لعدم الإطلاق في مورد الأخذ بأصالة عدم القرينة (1) .
وبالجملة : الوجه في عدم جواز الرجوع إلى الظواهر ـ مع احتمال اقترانها بما يكون قرينة على إرادة خلافها ـ عدم جواز الاعتماد على أصالة عدم القرينة الجارية في غير ما يشابه المقام ، فلا محيص عن القول بتوقّف جواز الرجوع على إمضاء الأ ئـمّة (عليهم السلام) وتصويبهم .
وهذا ما ذكرناه من منافاته لما يدلّ عليه الحديث الشريف من ثبوت الحجّية المستقلّة للقرآن ، وعدم تفرّعها على الثقل الآخر ، بل هو الثقل الأكبر ، فكيف يكون متفرّعاً على الثقل الأصغر ؟! فتدبّر .
الدليل الخامس : من الاُمور الدالّة على عدم التحريف ، الروايات المستفيضة بل المتواترة الواردة عن النبيّ والعترة الطاهرة صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، الدالّة على عرض الروايات والأخبار المرويّة عنهم (عليه السلام) على الكتاب ، والأخذ بما وافق منها له وطرح ما خالفه ، وضربه على الجدار(2) ، وأ نّه زخرف ، وأ نّه ممّا لم يصدر منهم ، ونحو ذلك من التعبيرات (3)، وكذا الروايات الدالّة على
- (1) البيان في تفسير القرآن: 213 .
(2) هذا التعبير وإن كان معروفاً ، سيّما في بحث التعادل والترجيح من علم الاُصول ، إلاّ أ نّي لم أظفر به بعد التتبّع في الروايات الواردة في هذا الباب ، التي جمعها صاحب الوسائل (قدس سره) في الباب التاسع من كتاب القضاء ، فلعلّ المتتبّع في غيره يظفر به . نعم ، قال في التبيان: 1 / 5 مقدّمة المؤلّف: وروي عنه (عليه السلام) أنّه قال: «إذا جاءكم عنّي حديث فأعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط» ، ثمّ قال الشيخ (قدس سره): وروي مثل ذلك عن أئمّتنا (عليه السلام) .
(3) وسائل الشيعة 27 : 110 ـ 123 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 10 ـ 12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 ، 47 وغيرها ، ويراجع ص173 و 325
و 332.
(الصفحة 238)
استدلالهم (عليهم السلام) بالكتاب في موارد متعدّدة ، وقد تقدّم(1) شطر منها في مقام الاستدلال على حجّية ظواهر الكتاب .
وتقريب الاستدلال بها على عدم التحريف يظهر بعد بيان أمرين :
الأوّل : لا شبهة ـ كما عرفت(2) ـ في أنّ القول بالتحريف يلازم عدم حجّية الكتاب بالحجّية المستقلّة غير المتوقّفة على تصويب الأ ئـمّة (عليهم السلام) وإمضائهم ; لما عرفت(3) من عدم جريان أصالة عدم القرينة المحتملة في كلّ ظاهر إلاّ في موارد احتمال غفلة المتكلِّم أو السامع ; لأنّه القدر المتيقّن من موارد جريانها ، لو لم نقل بالعلم بعدم جريانها في مثل المقام ، كما في المثال المتقدّم .
الثاني : أ نّه لا خلاف بين القائل بالتحريف والقائل بعدمه في أنّ القرآن الموجود في هذه الأعصار المتأخِّرة هو الموجود في عصر الأ ئـمّة (عليهم السلام) ، وأ نّ التحريف ـ على فرض ثبوته ـ كان قبل عصرهم في زمن الخلفاء الثلاثة ، ولم يتحقّق منذ شروع الخلافة الظاهريّة لأمير المؤمنين ـ عليه أفضل صلوات المصلّين ـ والأ ئـمّة الطاهرين من ولده (عليهم السلام) ، وإن حكي عن بعضهم تحقّق التحريف بعده ، كما سيأتي(4) مع جوابه .
وحينئذ نقول : أمّا ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ممّا يدلّ على عرض أخباره على الكتاب، والأخذ بالموافق وطرح المخالف ، فالكتاب وإن لم يقع فيه تحريف في زمنه ، ولم يبدّل في عصره وحياته ، وإن كان ورد في شأن نزول قوله تعالى :
- (1) في ص174 ـ 177 .
(2) في ص234 ـ 235 .
(3) في ص236 ـ 237 .
(4) في ص251 ـ 252 .
(الصفحة 239)
(وَمَنْ أَظْـلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ) (1) .
رواية مرويّة في الكافي بإسناده عن أبي بصير ، عن أحدهما (عليهما السلام) قال : سألته عن قول ـ الله عزّوجلّ ـ : ( وَمَنْ أَظْـلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ) .
قال : نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر ، وهو ممّن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هدر دمه يوم فتح مكّة، وكان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإذا أنزل الله ـ عزّوجلّ ـ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (2) كتب : «إنّ الله عليم حكيم» ، فيقول له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : دعها فإنّ الله عليم حكيم . وكان ابن أبي سرح يقول للمنافقين : إنّي لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر عليّ ، فأنزل الله ـ تبارك وتعالىـ فيه الذي أُنزل(3) .
إلاّ أنّها لا تدلّ على وقوع التحريف ، وشيوع الكتاب المحرّف بين المسلمين ; فإنّ هذا الرجل كان واحداً من الكتّاب المتعدّدين المتكثّرين ، مع أنّ مناسبة الآية مع هذه القصّة غير واضحة ، كما أنّ صدق القصّة بنفسها كذلك .
وكيف كان ، فدلالة ما ورد منها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) إنّما هي لأجل وضوح عدم كون العرض على الكتاب المأمور به في هذه الأخبار مقصوراً على خصوص زمان حياته (صلى الله عليه وآله) ، وليس المراد أ نّه يكون هذا الحكم موقّتاً ومحدوداً بوقت مخصوص وحدّ
- (1) سورة الأنعام 6 : 92 .
(2) سورة البقرة 2: 220، وسورة الأنفال 8: 10، وسورة التوبة 9: 71، وسورة لقمان 31: 27 .
(3) الكافي: 8 / 201 ح242 ، تفسير العيّاشي: 1 / 369 ح60 ، وعنهما تفسير الصافي: 2 / 139، والبرهان في تفسير القرآن: 2 / 452 و 453 ح3569 و 3571، وبحار الأنوار: 92 / 37 ـ 38 ح3 و4 . وفي شرح اُصول الكافي والروضة للمولى محمد صالح المازندراني: 12 / 252 ح242 وتفسير نور الثقلين: 1 / 745 ح179 عن الكافي .
(الصفحة 240)
معيّن ، بل ظاهره دوام هذا الحكم بدوام الدين ، واستمراره باستمرار شريعة سيِّد المرسلين صلوات الله عليه وعلى أولاده الطاهرين .
وحينئذ فلا يبقى مجال لما ذكره المحدِّث المعاصر من عدم منافاة ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) ثبوت التغيير بعده ، وورود الرواية به ، نظراً إلى عدم حصول التغيير في عصره (1) .
وقد عرفت أنّ الحكم دائميّ غير محدود ، فيجري في هذه الأخبار ما يجري في الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) ، الدالّة على عرض أخبارهم على الكتاب ، وتشخيص الحقّ عن الباطل بسببه .
وأمّا ما ورد عنهم (عليهم السلام) في ذلك ، فدلالته على عدم وقوع التحريف والتبديل في الكتاب ، وكونه حجّة مستقلّة مبتنية على ملاحظة أ نّ الغرض من هذه الأخبار هو بيان الميزان الذي به يتحقّق تمييز الحقّ عن الباطل من الروايات الصادرة المنقولة عنهم (عليهم السلام) ، وأ نّ الملاك والمناط في ذلك هو موافقة الكتاب ، وعدم مخالفته ، ففي الحقيقة تكون الموافقة قرينة على الصدق ، وأمارة على الصدور منهم (عليهم السلام) ، ولايتحقّق ذلك إلاّ بكون الكتاب حجّة مستقلّة غير متوقّفة على شيء ; ضرورة أنّ الكتاب الذي يحتاج إلى التصويب والإمضاء كيف يكون ميزاناً لتمييز الحقّ عن الباطل ، ممّا ورد عنهم ، ونسب إليهم (عليه السلام) ؟! .
وبالجملة : غرض الأ ئـمّة (عليهم السلام) من هذه الأخبار نفي كون أقوالهم ، وما ورد عنهم (عليهم السلام) من أحكام مخالفة الكتاب الذي هو الثقل الأكبر ، والميزان الذي لا يرتاب فيه مسلم ، ولا يلائم ذلك أصلاً مع توقّف حجّيته على تصويبهم وإمضائهم ، فأخبار العرض على الكتاب من أعظم الشواهد على عدم وقوع التحريف في الكتاب ، وبقائه على الحجّية المستقلّة إلى يوم القيامة .
- (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع : 340 .
(الصفحة 241)
وممّا ذكرنا ينقدح النظر فيما ذكره المحدّث المعاصر من أنّ ما جاء عنهم (عليهم السلام) فهو قرينة على أنّ الساقط لم يضرّ بالموجود ، وتمامه من المنزل للإعجاز ، فلا مانع من العرض عليه (1); فإنّك عرفت أ نّ العرض على الكتاب لتمييز الحقّ عن الباطل ، وتشخيص السقيم عن الصحيح ، ولا يلائم ذلك مع توقّف حجّية الكتاب على إمضائهم (عليهم السلام) أصلاً .
كما أنّ دعوى اختصاص ذلك بخصوص آيات الأحكام ، فلا يعارض ما ورد في النقص فيما يتعلّق بالفضائل والمثالب ، بل صريح المحدّث البحراني (رحمه الله) في الدرر النجفيّة : «أ نّه لم يقع فيها (آيات الأحكام) شيء من ذلك ; لعدم دخول النقص عليهم (على الخلفاء) من جهتها»(2) .
مدفوعة ـ مضافاً إلى عدم ثبوت ذلك في خصوص تلك الآيات ـ بأنّ الاختصاص بها لا وجه له ، بعد ملاحظة أنّ الكتاب كما مرّ(3) مراراً ليس كتاباً فقهيّاً يتعرّض لخصوص القوانين التشريعيّة ، والأحكام العمليّة ، وبعد ملاحظة عدم اختصاص تلك الأخبار الدالّة على العرض بخصوص الروايات المتعرّضة للأحكام ، كما هو واضح .
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا : تماميّة الاستدلال بأخبار العرض على الكتاب ; لعدم تحريفه وعدم وقوع النقص فيه . كما أنّ الاستدلال بالروايات الحاكية لاستشهاد الأ ئـمّة (عليهم السلام) في موارد متعدّدة بالكتاب لذلك ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلاً ; ضرورة أنّه لو لم يكن الكتاب حجّة مستقلّة ، ودليلاً تامّاً غير متوقّف على
- (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع: 340 .
(2) الدرر النجفيّة ، للعلاّمة المحدّث الشيخ يوسف البحراني : 4 / 69 ، وعنه فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع: 340 .
(3) في ص106 و 229 ـ 230 .