(الصفحة 247)
وصدق قراءة ما علّق عليه في الخبر عليه(1) .
ويدفعه : ما عرفت(2) من عدم كون ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مقصوراً على زمانه ، ومحدوداً بحياته ، بل هو كسائر الأحكام المشرّعة في زمانه ، الظاهرة في الدوام والاستمرار ، فيشمله مثل قوله : «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(3) ، فلا ينفع عدم وقوع التحريف في زمنه ، ووقوعه بعده ـ على تقديره ـ في قصر الحكم على مدّة حياته .
ومن أنّ كون المراد ممّا ورد عن الأ ئـمّة (عليهم السلام) هو القرآن الموجود ; لبنائهم على التبعيّة يرجع إلى النسخ لا محالة ، وقد عرفت الاتّفاق على عدم تحقّقه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) . وإذن فلا محيص عن القول بأنّ ما ورد في ذلك من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) ظاهر في بقاء الكتاب على ما هو عليه ، وعدم وقوع تحريف فيه ، وأ نّ ما بأيدي الناس نفس ما نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) من دون اختلاف ، وقد عرفت أيضاً(4) في بعض الاُمور السابقة الفرق بين الرجوع إلى الكتاب ، وبين التمسّك بالعترة (عليهم السلام) ، وأ نّه لا مجال لمقايسة أحدهما على الآخر أصلاً ، فراجع .
الدليل السابع : من الاُمور الدالّة على عدم التحريف : الدليل العقلي الذي ذكره بعض الأعلام ، وملخّصه مع تقريب منّا : «أ نّ القائل بالتحريف إمّا أن يدّعي وقوعه وصدوره من الشيخين بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإمّا أن يدّعي وقوعه وتحقّقه من
- (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الثالث : 339 ـ 340 .
(2) في ص239 ـ 240 .
(3) بصائر الدرجات: 148 ، الجزء 3 ب 13 ح 7 ، الكافي: 1 / 58 ، كتاب فضل العلم ب 19 ح 19 عن أبي عبدالله (عليه السلام) . وأخرجه في بحار الأنوار: 11 / 56 قطعة من ح55 و ج68 / 326 قطعة من ح2 عن المحاسن: 1 / 420 قطعة من ح963 ، وفي ج16 / 353 قطعة من ح38 عن الكافي 2 / 18 قطعة من 2 .
(4) فى ص 232 ـ 233 .
(الصفحة 248)
عثمان بعد انتهاء الأمر إليه ووصول النوبة به ، وإمّا أن يقول بصدوره من شخص آخر بعده ، فهذه احتمالات ثلاثة لا رابع لها» وجميعها فاسدة .
أمّا الاحتمال الأوّل : فيدفعه أنّهما في هذا التحريف إمّا أن يكونا غير عامدين ، وإنّما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، نظراً إلى عدم كونه مجموعاً قبل ذلك في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإمّا أن يكونا متعمّدين ، وعلى هذا التقدير ، فإمّا أن يكون التحريف الواقع منهما في الآيات التي لها مساس بزعامتهما لوقوع التصريح فيها ، أو ظهورها في ثبوت الخلافة والولاية لأهلها ; وهو عليّ أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين ، وإمّا أن يكون في غيرها من الآيات .
فالتقادير المتصوّرة ثلاثة :
أمّا التقدير الأوّل : الذي مرجعه إلى عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، وكونهما غير متعمّدين في التحريف .
فيردّه : أ نّ اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأمر القرآن ، والأمر بحفظه وقراءته ، وترتيل آياته ، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته ، يورث القطع بكون القرآن محفوظاً عندهم ، جمعاً أو متفرّقاً ، حفظاً في الصدور ، أو تدويناً في القراطيس ، وقد اهتمّوا بحفظ أشعار الجاهليّة وخطبها ، فكيف لم يكن يهتمّون بأمر الكتاب العزيز الذي عرّضوا أنفسهم للقتل في نشر دعوته ، وإعلان أحكامه ، وهجروا في سبيله أوطانهم ، وبذلوا أموالهم ، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم ؟ وهل يحتمل عاقل مع ذلك كلّه عدم اعتنائهم بالقرآن ، حتّى يضيع بين الناس ، أو يحتاج في إثباته إلى شهادة شهادتين ؟
على أنّ روايات الثقلين دالّة على بطلان هذا الاحتمال ; فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله، وعترتي»(1) لا يصحّ إذا كان بعض القرآن ضائعاً في
- (1) كمال الدين: 234ـ 241 ح44 ـ 64 ، وقد تقدّمت بتفصيلها والبحث فيها في ص228 ـ 237 .
(الصفحة 249)
عصره ; فإنّ المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه ، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن وجمعه في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لأنّ الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرّقات ، ولا على المحفوظ في الصدور .
وأمّا التقدير الثاني : الذي يرجع إلى أ نّهما حرّفا القرآن عمداً في الآيات التي لا تمسّ بالزعامة والخلافة . فهو بعيد في نفسه ، بل مقطوع العدم ; ضرورة أنّ الخلافة كانت مبتنية على السياسة ، وإظهار الاهتمام بأمر الدين ، وحفظ القرآن الذي كان مورداً لاهتمام المسلمين ، وهلاّ احتجّ بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما ، المعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة ؟ ولم يذكر ذلك عليّ (عليه السلام) في خطبته الشقشقيّة(1) ـ المعروفة ـ وغيرها .
وأمّا التقدير الثالث : الذي يرجع إلى وقوع التحريف منهما عمداً في الآيات الواردة في موضوع الخلافة . فهو أيضاً مقطوع العدم ; فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) والصدِّيقة الطاهرة ـ سلام الله عليها ـ وجماعة من الصحابة قد عارضوهما في أمر الخلافة ، واحتجّوا عليهما بما سمعوا من النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والأنصار ، واحتجّوا عليه بحديث الغدير وغيره ، ولو كان في القرآن شيء يمسّ بزعامتهم ; لكان أحقّ بالذكر في مقام الاحتجاج ، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين ، مع أنّه لم يقع ذلك بوجه ، كما يظهر من كتاب «الاحتجاج» المشتمل على احتجاج اثني عشر رجلاً على أبي بكر في أمر الخلافة (2) ، ومن العلاّمة المجلسي ـ رحمة الله تعالى عليه ـ في البحار ، حيث عقد باباً لاحتجاج أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في أمر الخلافة (3) .
- (1) نهج البلاغة للدكتور صبحي صالح: 48، الخطبة 3 .
(2) الاحتجاج: 1 / 186 ـ 203 ، الرقم 37 ، وعنه بحار الأنوار: 28 / 189 ب 4 ح 2 .
(3) بحار الأنوار: 29 / 3 ب5 ، وج31 / 315 ـ 447 ب26 و 27 .
(الصفحة 250)
فانقدح أنّ الاحتمال الأوّل فاسد بجميع تقاديره .
وأمّا الاحتمال الثاني : وهو وقوع التحريف من عثمان ، فهو أبعد من الدعوى الاُولى ; لأنّ الإسلام قد انتشر في زمانه على نحو لم يكن في إمكانه وإمكان من هو أكبر منه أن ينقص من القرآن شيئاً .
ولأنّه لو كان محرِّفاً للقرآن لكان في ذلك أوضح حجّة ، وأكبر عذر لقتلة عثمان علناً ، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين ، وإلى ما سوى ذلك من الحجج .
ولأ نّه كان من الواجب على عليّ (عليه السلام) بعد عثمان أن يردّ القرآن إلى أصله الذي كان يقرأ به في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزمان الشيخين ، ولم يكن عليه في ذلك شيء ينتقد به ، بل ولكان ذلك أبلغ أثراً في مقصوده ، وأظهر لحجّته في الثائرين بدم عثمان ، ولاسيّما أ نّه (عليه السلام) قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان ، وقال في خطبة له : «والله لو وجدته قد تُزُوِّج به النساء ، ومُلك به الإماء لرددته ; فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق»(1) هذا أمر عليّ (عليه السلام) في الأموال ، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرّفاً؟!(2) .
- (1) نهج البلاغة ، للدكتور صبحي الصالح: 57 ، الخطبة 15 .
(2) والإنصاف : أ نّ هذه الجهة بنفسها تكفي لدفع احتمال التحريف الذي يدّعي القائل به وقوعه في زمن الخلفاء الثلاثة ; فإنّ إمضاء عليّ(عليه السلام) للقرآن الموجود في عصره ، وعدم التعرّض لتكميله على تقدير التحريف ، بل وعدم التفوّه بذلك ، دليل على كماله وعدم نقصه ; لأنّه(عليه السلام) لم يتقبّل أمر الخلافة الظاهريّة لأجل حبّها وحبّ الرئاسة ، بل لأجل ترويج الدين وتأييد شريعة سيِّد المرسلين (صلى الله عليه وآله) . ومع هذا الفرض فلم يكن هناك موضوع أهمّ من ردّ القرآن إلى أصله لو كان محرّفاً ، مع كونه هو الثقل الأكبر ، والمعجزة الوحيدة الخالدة إلى يوم القيامة ، واقتداره على ذلك بعد استقرار أمره كان واضحاً ضروريّاً ، وعلى تقدير العدم فالمبارزة لأجله ـ حتّى مع البلوغ إلى مرتبة بذل الخلافة والإعراض عنها ـ كانت لائقة ، فالإنصاف أ نّ هذا الدليل كاف لدفع أصل التحريف وإبطال القول به ، بشرط الخلوّ عن التعصّب ، وعدم الجمود على خلاف إدراك العقل .
(الصفحة 251)
وأمّا الاحتمال الثالث : الذي مرجعه إلى دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء ، فلم يدّعها أحد فيما نعلم ، غير أنّها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادّعى أ نّ الحجّاج لمّا قام بنصرة بني اُميّة أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر والشام والحرمين ، والبصرة والكوفة ، وأ نّ القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف ، وأمّا المصاحف الاُخرى فقد جمعها ولم يُبقِ منها شيئاً ولا نسخة واحدة (1) .
أقول : ولعلّ من هذه الجهة قول بعض القائلين بالتحريف في آية (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر) (2) في سورة القدر : إنّ أصلها كان هكذا : «ليلة القدر خير من ألف شهر» يملكها بنو اُميّة وليس فيها ليلة القدر(3) ، مع أنّ ملاحظة مقدار آيات تلك السورة وقصور معنى هذه الآية الأصليّة ، بل عدم ارتباط موضوع ليلة القدر بأمر خلافتهم يكفي في القطع ، بخلاف ذلك وإن لم يكن هنا دليل على عدم التحريف ، فضلاً عن الأدلّة الكثيرة المتقدّمة الدالّة على ذلك بأقوى دلالة .
وكيف كان ، فالدليل على بطلان الاحتمال الثالث: أ نّ الحجّاج كان واحداً من ولاة بني اُميّة ، وهو أقصر باعاً ، وأصغر قدراً ، وأقلّ وزناً من أن ينال القرآن بشيء ، بل وهو أحقر من أن يغيّر شيئاً من الفروع الإسلامية ، فكيف في إمكانه أن يغيّر ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة ؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها ، مع انتشار القرآن فيها ؟!
وعلى تقديره ، وفرض وقوعه . فكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرّخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده ، مع ما فيه من الأهمّية ، وكثرة الدّواعي إلى نقله ؟! وكيف أغضى المسلمون عن هذه الجناية ـ التي لم يكن مثلها جناية ـ بعد انتهاء أمر
- (1) اُنظر مناهل العرفان في علوم القرآن: 1 / 217 .
(2) سورة القدر 97 : 3 .
(3) تفسير القمّي: 2 / 431 ، سنن الترمذي: 5 / 444 ب 97 ح 3361 .