(الصفحة 256)
(الصفحة 257)شبهات القائلين بالتحريف
الشبهة الاُولى
ما جعله المحدّث المعاصر في كتابه الموضوع في هذا الباب أوّل الأدلّة ، واعتمد عليه غاية الاعتماد ، وفصّل القول فيه(1) .
وملخّصه : وقوع التحريف في التوراة والإنجيل ، وقيام الدليل على أنّ كلّ ماوقع في الاُمم السالفة يقع في هذه الاُمّة مثله .
أ مّا وقوع التحريف في الكتابين ، فمن الاُمور المسلّمة التي لا ينبغي الارتياب فيه أصلاً ، وتعدّد الأناجيل مع وجود الاختلاف فيها والتناقض ، حتّى في صفات المسيح ، وأيّام دعوته ، ونسبه ، ووقت صلبه بزعمهم ، كاف في إثبات وقوع التغيير والتحريف فيه ، وإن جعل كلّها في مصحف واحد يعرف بالأناجيل الأربعة .
وأ مّا الدليل على أنّ كلّ ما وقع في الاُمم السالفة يقع في هذه الاُمّة مثله ـ مضافاً إلى دلالة بعض الآيات عليه ، كقوله ـ تعالى ـ : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَق) (2); حيث صرّح جمع من المفسّرين بأنّ المراد : لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم من الأوّلين وأحوالهم ، ونقله في مجمع البيان عن الصادق (عليه السلام) قال : «والمعنى: أ نّه
- (1) فصل الخطاب: 35 ـ 73 ، الباب الأوّل ، الدليل الأوّل .
(2) سورة الانشقاق 84 : 19 .
(الصفحة 258)
يكون فيكم ما كان فيهم ، ويجري عليكم ما جرى عليهم حذو القذّة بالقذّة (1)ـ وقد وردت الروايات الكثيرة من طرق الفريقين الدالّة على ذلك :
1 ـ ما رواه عليّ بن إبراهيم ، في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَق) يقول : . . . قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لتركبنّ سنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة ، ولا تخطئون طريقتهم شبر بشبر ، وذراع بذراع ، وباع بباع ، حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارى تعني يارسول الله؟ قال : فمن أعني ؟ لينقضّ عرى الإسلام عروةً عروةً ، فيكون أوّل ماتنقضون من دينكم الإمامة (الأمانة خ ل) ، وآخره الصلاة (2) .
2 ـ ولعلّها أظهرها; ما رواه الصدوق في «كمال الدين» عن علي بن أحمد الدقّاق (رضي الله عنه) ، عن محمد بن أبي عبدالله الكوفي ، عن موسى بن عمران النخعي ، عن عمّه الحسين بن يزيد النوفلي ، عن غياث بن إبراهيم ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «كلّ ما كان في الاُمم السالفة فإنّه يكون في هذه الاُمّة مثله ، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة» (3) .
3 ـ غير ذلك من الروايات الواردة بمثل هذا المضمون .
قال العلاّمة المجلسي(قدس سره) في «البحار» : تواتر عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّ كلّ ما وقع في الاُمم السالفة يقع في هذه الاُمّة (4) ، فكلّما ذكر سبحانه في القرآن الكريم من
- (1) مجمع البيان في تفسير القرآن: 10 / 275 .
(2) تفسير القمي : 2 / 413 ، وعنه تفسير الصافي 5: 306، والبرهان في تفسير القرآن 5: 617 ذح11491 ، وبحار الأنوار 9: 249 قطعة من ح154 ، و ج 24: 350 بيان ، وج28: 8 ح11 ، وتفسير كنز الدقائق 11: 271 ، وتفسير نور الثقلين 5: 539 ذ ح 9 .
(3) كمال الدين: 576 ب 54 ، وعنه بحار الأنوار: 28 / 10 ح 15 .
(4) بحار الأنوار: 28 / 20 .
(الصفحة 259)
القصص فإنّما هو زجر هذه الاُمّة عن أشباه أعمالهم ، وتحذيرهم عن أمثال ما نزل بهم من العقوبات ، حيث علم وقوع نظيرها منهم وعليهم .
وقد أفرد له بالتصنيف الصدوق (رحمه الله) وسمّاه (كتاب حذو النعل بالنعل) (1) .
وقال المحدِّث الحرّ العاملي (رحمه الله) في «الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة» : إنّه يمكن أن يستدلّ عليه . . . وبإجماع المسلمين في الجملة ; فإنّ الأحاديث بذلك كثيرة من طريق العامّة والخاصّة (2) .
ومن طريق العامّة : روى البخاري في صحيحه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : «لتتبَعُنَّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً ، وذراعاً بذراع ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم ، قلنا : يارسول الله (صلى الله عليه وآله) اليهود والنصارى؟ قال : فمن ؟»(3) .
ورواه غير أبي سعيد ، كأبي هريرة(4) ، وابن عبّاس(5) ، وحذيفة(6) ، وابن مسعود (7) ، وسهل بن سعد (8) ، وعمرو بن عوف (9) ، وشدّاد بن أوس (10) ،
- (1) رجال النجاشي: 391 ـ 392 ، الرقم 1049 ، الفهرست للشيخ الطوسي: 237 ، الرقم 710 ، معالم العلماء: 112 ، الرقم 764 .
(2) الإيقاظ من الهجعة: 113 ، الباب الرابع .
(3) صحيح البخاري: 8 / 191 ، كتاب الاعتصام ب 14 ح 7320 .
(4) صحيح البخاري: 8 / 191 ، كتاب الاعتصام ب14 ح7319 ، المصنّف في الأحاديث والآثار 8: 434 ، كتاب 40 ح268 .
(5) المستدرك على الصحيحين 4: 502 ح8404 .
(6) المصنّف في الأحاديث والآثار 8: 636، كتاب 40 ح379 .
(7) المعجم الكبير للطبراني 2: 39 ح9882 . (8) المسند لابن حنبل 8 : 443 ح22941 ، المعجم الكبير للطبراني 6: 186 ح5943 وص204 ح6017 . (9) المعجم الكبير للطبراني 17: 13 ، مجمع الزوائد 7: 259 ـ 260 . (10) مسند أبي داود الطيالسي: 153 ح1121 ، مسند ابن حنبل 6: 80 ح17135 ، مسند ابن الجعد: 491 ح3424 ، المعجم الكبير للطبراني 7: 281 ح7140 ، مجمع الزوائد 7: 261 .
(الصفحة 260)
ومستورد بن شدّاد(1) ، وعبدالله بن عمرو بن العاص(2) بألفاظ متقاربة ، وعبارات متشابهة .
والجواب أوّلاً : فلأنّ بلوغ هذه الروايات إلى مرحلة التواتر غير معلوم ، بل الظاهر أ نّها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ; ولذا لم يذكر شيء من هذه الروايات في الكتب الأربعة ، ولا ادّعى أحد من المحدّثين تواترها ، بل غايته دعوى الصحّة .
قال الصدوق في «كمال الدين» : صحّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أ نّه قال : «كلّ ما كان في الاُمم السالفة يكون في هذه الاُمّة مثله ، حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة »(3) .
ثانياً : فلأنّ مفاد هذه الروايات إن كان الوقوع في هذه الاُمّة ولو بعد هذه الأعصار إلى يوم القيامة ; أي إن كان مفادها الإخبار عن الوقوع ولو فيما بعد ، فلا دلالة فيها على وقوع التحريف فعلاً كما هو المدّعى ، ولا مطابقة حينئذ بين الدليل والمدّعى ; فإنّ المدّعى وقوعه في صدر الإسلام في زمن الخلفاء الثلاثة ، والدليل يدلّ على وقوعه في زمان آخره يوم القيامة . وإن كان مفادها الوقوع في الصدر الأوّل ، فلازمه الدلالة على وقوع التحريف بالزيادة في القرآن ، كما وقع في التوراة والإنجيل ، مع أنّ القائل بالتحريف ينفيه في جانب الزيادة ، كما عرفت .
ثالثاً ـ وهو العمدة في الجواب ـ : فلأنّ هذه الكلّية المذكورة في رواية الصدوق التي هي العمدة في الاستدلال ، إن كانت بنحو تقبل التخصيص ، ولا تكون آبية عنه كسائر العمومات الواردة في سائر الموارد ، القابلة للتخصيص وعروض الاستثناء
- (1) المعجم الأوسط للطبراني 1: 213 ح315 ، مجمع الزوائد 7: 261 .
(2) سنن الترمذي 5: 26 ح2646 ، جامع الاُصول 10: 33 ح7491 ، الجامع الصغير للسيوطي: 461 ح7532 .
(3) كمال الدين: 530 ، وعنه بحار الأنوار 52: 200 .