(الصفحة 264)
الشبهة الثانية
إنّ كيفيّة جمع القرآن وتأليفه مستلزمة عادةً لوقوع التغيير والتحريف فيه ، وقد أشار إلى ذلك العلاّمة المجلسي(قدس سره) في محكيّ «مرآة العقول» ، حيث قال : والعقل يحكم بأنّه إذا كان القرآن متفرّقاً منتشراً عند الناس ، وتصدّى غير المعصوم لجمعه يمتنع عادةً أن يكون جمعه كاملاً موافقاً للواقع (1) .
وهذه الشبهة تتوقّف :
أوّلاً : على عدم كون القرآن مجموعاً مرتّباً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإنّما كان منتشراً متشتّتاً عند الأصحاب في الألواح والصدور ، مع احتمال أ نّه لم يكن بعضه عند أحد منهم ، كما اُشير إليه في بعض الأخبار . نعم ، جمعت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) نسخة متفرّقة في الصحف والحرير والقراطيس ، ورثها عليّ (عليه السلام) ، ولمّا جمعها بعده بأمره ووصيّته ، وألّفه كما أنزل الله تعالى ، ثمّ عرضها عليهم ، فأعرضوا عنه وعمّا جاء به لدواع كانت ملازمة لدعوى الخلافة وطلب الرئاسة .
وثانياً : على امتناع كون الجمع الصادر من غير المعصوم كاملاً موافقاً للواقع من دون تغيير .
فهنا دعويان :
الاُولى : عدم كون القرآن مجموعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزمانه ، والدليل على إثباتها الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب ، الّتي سيجيء(2) نقلها والجواب عنها .
الثانية : امتناع كون الجمع والتأليف الواقع موافقاً للواقع ، وقد ذكر في إثباتها
- (1) مرآة العقول : 3 / 31 ، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة(عليهم السلام) . واُنظر فصل الخطاب: 73 ـ 82 ، الباب الأوّل ، الدليل الثاني .
(2) في ص 269 ـ 300 .
(الصفحة 265)
أ نّ الذين باشروا هذا الأمر الجسيم ، وضادّوا النبأ العظيم هم أصحاب السقيفة : أبوبكر وعمر ، وعثمان ، وأبو عبيدة ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية ، واستعانوا بزيد بن ثابت .
ومن الواضح أ نّ مضامين القرآن ، ومطالبه ، ومعانيه ، وكيفيّة ترتيب آياته وكلماته وسوره ، لا تشبه كتاب مصنّف ، وتأليف مؤلّف ، وديوان شاعر ، ممّا يسهل جمعه وترتيبه لمن بلغ أدنى مرتبة من مراتب العلم ، وأخذ حظّاً قليلاً منه ، ويعلم نقصانه وتحريفه بأدنى ملاحظة ، ولا يمكن معرفة ترتيب القرآن وتماميّة جمعه من نفسه ; إذ هو موقوف على معرفة مراد الله تعالى ، وحكمة وضع ترتيب السور والآيات بالترتيب المخزون ، وكيفيّة ارتباط الآيات بعضها ببعض .
وهذا من العلوم التي قصرت أيدي المذكورين عن تناول أدنى مراتبه ، بل هم بمعزل عن تصوّر موضوعه ، وعن تصديق المتوقّف على تصديق أصله المفقود فيهم ، بل كانوا قاصرين عن معرفة نفس الآيات ، وأ نّها ممّا جاء به النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو ممّا دسّها المدلّسون ، واختلقها الكذّابون ، فاحتاجوا إلى إقامة الشهود ، فضلاً عن معرفة ارتباط بعضها بالبعض الموقوف .
وكان أعرف هؤلاء بالقرآن : زيد بن ثابت ، الذي قال عمر في حقّه : إنّ زيداً أفرضنا»(1)، مع أنّه روى الشيخ (رحمه الله) في «التهذيب»، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) : «وأشهد على زيد بن ثابت ، لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهليّة»(2) . وأمّا كتابته الوحي فكان يكتبه هو أو أُبيّ إذا لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) أو عثمان حاضراً على
- (1) الاستغاثة: 83 .
(2) الكافي 7: 407 ح 2، تهذيب الأحكام: 6 / 218 ح 512 ، وعنهما وسائل الشيعة 27: 23 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب4 ح8. وفي بحار الأنوار 104: 367 ح6 عن تفسير العيّاشي 1: 325 ح132 .
(الصفحة 266)
ما ذكره أرباب السّير ، وقد طعن عليه اُبيّ بن كعب ، وعبدالله بن مسعود (1) .
روى السيّد المرتضى في «الشافي» عن شريك ، عن الأعمش قال : قال ابن مسعود : لقد أخذت من فيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبعين سورة ، وأ نّ زيد بن ثابت لغلام يهوديّ في الكتّاب له ذؤابة (2) .
وأ مّا الخلفاء، فمقامهم في العلم غير خفيّ، حتّى أنّ الأوّل كان جاهلاً بمعنى الكلالة(3) .(4)
وقال السيوطي في «الإتقان» : ولا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلاّ آثاراً قليلة جدّاً ، لا تكاد تجاوز العشرة (5) .
وأمّا عمر ، فذكر الشيخ زين الدين البياضي في «الصراط المستقيم» أنّه اجتهد في حفظ سورة البقرة بسبع سنين،وقيل: اثنتي عشرة، ونحرجزوراًوليمة عند فراغه(6).
وفيه : ورووا أ نّه لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء (7) ، وقد صحّ أ نّه أنكر موت
- (1) فصل الخطاب : 74 ، الباب الأوّل، الدليل الأوّل .
(2) الشافي في الإمامة 4: 284، تلخيص الشافي: 4 / 106 ، تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة 4: 1008 ، وفي سنن الترمذي 5: 285 ذح3113 وجامع الاُصول 2: 506 ، وبحار الأنوار 92: 77 هكذا: «وأنّه لفي صلب رجل كافر» يريد: زيد بن ثابت .
(3) سورة النساء 4: 12 .
(4) المصنّف لعبد الرزّاق 10: 304 ح19191 ، المصنّف في الأحاديث والآثار 7: 402 ب113 ح2 ، سنن الدارمي 2: 249 ب26 ح2968 ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) 4: 356 ح8747 و 8748 ، السنن الكبرى للبيهقي 9: 268 ح12518 وص271 ح12528 ، تفسير الخازن ، المسمّى «لباب التأويل في معاني التنزيل»1: 351 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1: 460 ، بحار الأنوار 30: 506 ـ 507 ، الغدير 7: 140ـ 142 .
(5) الإتقان: 4 / 233 ، النوع الثمانون .
(6) الصراط المستقيم: 3 / 18 .
(7) الصراط المستقيم: 3 / 38 .
(الصفحة 267)
النبيّ (صلى الله عليه وآله) لجهله بالكتاب حتّى قرئ عليه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (1) . وقد جمع الأصحاب أشياء كثيرة ممّا يتعلّق بهذا الباب .
وأمّا عثمان ، فهو وإن كان من كتّاب الوحي ، إلاّ انّه لم يكتب منه إلاّ قليلاً ، فعن مناقب ابن شهرآشوب في ذكر كتّابه (صلى الله عليه وآله) : كان عليّ (عليه السلام) يكتب أكثر الوحي ، ويكتب أيضاً غير الوحي ، وكان اُبيّ بن كعب وزيد بن ثابت يكتبان الوحي ، وكان زيد وعبدالله بن الأرقم يكتبان إلى الملوك ، وعلاء بن عقبة وعبدالله بن الأرقم يكتبان القبالات ، والزبير بن العوام وجهم(2) بن الصلت يكتبان الصدقات ، وحذيفة يكتب صدقات التمر ، وقد كتب له عثمان وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، والحصين بن نمير ، والعلاء بن الحضرمي ، وشرحبيل بن حسنة الطانحي ، وحنظلة بن ربيع الأسدي ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح ; وهو الخائن في الكتابة ، فلعنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد ارتدّ (3) .
وروى عكرمة ، ومجاهد ، والسّدِّي ، والفرّاء ، والزجاج ، والجبائي ، وأبو جعفر الباقر (عليه السلام) : أ نّ عثمان كان يكتب الوحي ويغيّر فيكتب موضع «غفور رحيم» «سميع عليم» وموضع «سميع عليم» «عزيز حكيم» ونحو ذلك ، فأنزل الله ـ تعالى ـ فيه : (وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ) (4) .
قال السيِّد في الطرائف : «ومن طرائف ما ذكروه عن عثمان من سوء إقدامه على القول في ربّهم و رسولهم ما ذكره الثعلبي في تفسير قوله تعالى: (إِنْ هَـذَ نِ لَسَـحِرَ نِ) (5): روي عن عثمان أ نّه قال : إنّ في المصحف لحناً
- (1) الصراط المستقيم 3: 18 ، والآية في سورة الزمر 39 : 30 .
(2) في اُسد الغابة في معرفة الصحابة ج 1 / 423 ، الرقم 828 : جهيم بن الصلت.
(3) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 1: 162 ، وعنه بحار الأنوار 22: 248 قطعة من ح1 .
(4) الصراط المستقيم 3 : 37 ، والآية في سورة الأنعام 6 : 93.
(5) سورة طه 20 : 63 .
(الصفحة 268)
واستسقمه(1) العرب بألسنتهم ، فقيل له : ألا تغيّره؟ فقال : دعوه; فإنّه لا يُحلّل حراماً ولا يحرّم حلالاً . وذكر نحو هذا الحديث ابن قتيبة في « كتاب المشكل » في تفسير قوله: ( إِنْ هَـذَ نِ لَسَـحِرَ نِ) .
قال (رحمه الله) : وليت شعري هذا اللحن في المصحف ممّن هو ؟ إن كان عثمان يذكر أ نّه من الله فهو كفر جديد لايخفى على قريب ولا بعيد ، وإن كان من غير الله ، فكيف نزل كتاب ربّه مبدّلاً مغيّراً ، لقد ارتكب بذلك بهتاناً عظيماً ومنكراً جسيماً(2) .
وأ مّا معاوية ، فعدّه جماعة من مخالفينا من كتّاب الوحي ، مع أنّ الجمهور يروون أ نّه أسلم بعد فتح مكّة ، وقبل وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بستّة أشهر تخميناً (3) .
قال في الطرائف : فكيف يقبل العقول أن يوثق في كتّابة الوحي بمعاوية مع قرب عهده بالكفر ، وقصوره في الإسلام حيث دخل فيه (4) .
وقال ابن أبي الحديد : وكان أحد كتّاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، واختُلف في كتابته له كيف كانت ، فالّذي عليه المحقّقون من أهل السيرة أ نّ الوحي كان يكتبه عليّ (عليه السلام) وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم ، وأ نّ حنظلة بن الربيع التيمي ومعاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك وإلى رؤوساء القبائل ، ويكتبان حوائجه بين يديه ، ويكتبان ما يجبى من أموال الصدقات ما يقسّم له في أربابها (5) .
والجواب عن هذه الشبهة :
مضافاً إلى إمكان الدعوى الثانية ، منع الدعوى الاُولى جدّاً . وعليه: فلا تصل النوبة إلى الثانية أصلاً .
- (1) الكشف والبيان ، المعروف بتفسير الثعلبي 6: 250 ، وفيه: «وستقيمه» بدل : واستسقمه ، و«يُحلّ» بدل: يحلّل .
(2) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: 490 ـ 491 . (3 ، 4) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف : 502 .
(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 338 ، بحار الأنوار: 33 / 201 ، قطعة من ح489 .