(الصفحة 268)
واستسقمه(1) العرب بألسنتهم ، فقيل له : ألا تغيّره؟ فقال : دعوه; فإنّه لا يُحلّل حراماً ولا يحرّم حلالاً . وذكر نحو هذا الحديث ابن قتيبة في « كتاب المشكل » في تفسير قوله: ( إِنْ هَـذَ نِ لَسَـحِرَ نِ) .
قال (رحمه الله) : وليت شعري هذا اللحن في المصحف ممّن هو ؟ إن كان عثمان يذكر أ نّه من الله فهو كفر جديد لايخفى على قريب ولا بعيد ، وإن كان من غير الله ، فكيف نزل كتاب ربّه مبدّلاً مغيّراً ، لقد ارتكب بذلك بهتاناً عظيماً ومنكراً جسيماً(2) .
وأ مّا معاوية ، فعدّه جماعة من مخالفينا من كتّاب الوحي ، مع أنّ الجمهور يروون أ نّه أسلم بعد فتح مكّة ، وقبل وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بستّة أشهر تخميناً (3) .
قال في الطرائف : فكيف يقبل العقول أن يوثق في كتّابة الوحي بمعاوية مع قرب عهده بالكفر ، وقصوره في الإسلام حيث دخل فيه (4) .
وقال ابن أبي الحديد : وكان أحد كتّاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، واختُلف في كتابته له كيف كانت ، فالّذي عليه المحقّقون من أهل السيرة أ نّ الوحي كان يكتبه عليّ (عليه السلام) وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم ، وأ نّ حنظلة بن الربيع التيمي ومعاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك وإلى رؤوساء القبائل ، ويكتبان حوائجه بين يديه ، ويكتبان ما يجبى من أموال الصدقات ما يقسّم له في أربابها (5) .
والجواب عن هذه الشبهة :
مضافاً إلى إمكان الدعوى الثانية ، منع الدعوى الاُولى جدّاً . وعليه: فلا تصل النوبة إلى الثانية أصلاً .
- (1) الكشف والبيان ، المعروف بتفسير الثعلبي 6: 250 ، وفيه: «وستقيمه» بدل : واستسقمه ، و«يُحلّ» بدل: يحلّل .
(2) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: 490 ـ 491 . (3 ، 4) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف : 502 .
(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 338 ، بحار الأنوار: 33 / 201 ، قطعة من ح489 .
(الصفحة 269)
ولتوضيح ذلك : لابدّ لنا من إيراد الروايات التي يظهر منها أ نّ جمع القرآن لم يحقّق إلاّ بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والجواب عنها .
فنقول : قد اُوردت هذه الروايات في «كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال»; وهي كثيرة :
1 ـ «من مسند الصدِّيق» عن زيد بن ثابت قال : أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عنده عمر بن الخطّاب ، فقال : إنّ هذا أتاني فأخبرني أنّ القتل قد استحرَّ(1) بقرّاء القرآن في هذا الموطن ; يعني يوم اليمامة (2) ، وإنّي أخاف أن يستحِرَّ القتل بقرّاء القرآن في سائر المواطن ; فيذهب القرآن ، وقد رأيت أن نجمعه ، فقلت له ـ يعني لعمر ـ : كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال لي عمر : هو والله خير ، فلم يزل بي عمر حتّى شرح الله صدري للذي شرح له صدره ، ورأيت فيه مثل الذي رأى عمر . قال زيد وعمر عنده جالس لا يتكلّم .
فقال أبو بكر : إنّك شابّ عاقل لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فاجمعه ، قال زيد : فوالله لئن كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقلَ عليَّ ممّا أمرني به من جمع القرآن ، فقلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟
قال: هووالله خير، فلم يزل أبوبكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، ورأيت فيه الذي رأيا ، فتتبّعت القرآن أجمعه من الرقاع(3)
- (1) استمر: اشتدّ وكثر .
(2) يوم اليمامة ، لم يلقَ العرب حرباً مثلها قطّ ، وهي معركة وقعت سنة 11 هـ بين المسلمين ، والمشركين جند مسيلمة الكذاب ، وقد استلحم من المسلمين حملةُ القرآن حتى فنوا إلاّ قليلاً ، وقيل: قتل منهم سبعمائة . واليمامة: مدينة متّصلة بأرض عمّان من جهة المغرب مع الشمال ، كان اسمها جوّاً ، وسمّيت اليمامة بامرأة; وهي الزرقاء ، زرقاء اليمامة ، المشهورة في الجاهليّة بجودة النظر وصحّة إدراك البصر . الروض المعطار في خبر الأقطار معجم جغرافيّ: 619 ـ 621 .
(3) الرّقاع: جمع رقعة ، وقد تكون من جلد أو رَق أو كاغذ .
(الصفحة 270)
واللّخاف(1) والأكتاف(2) والعُسب(3) وصدور الرجال ، حتّى وجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ) (4) حتّى خاتمة براءة ، فكانت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر حياتَه حتّى توفّاه الله ، ثمّ عند عمر حياتَه حتّى توفّاه الله ، ثمّ عند حفصة بنت عمر (5) .
2 ـ عن صعصعة قال : أوّل من جمع القرآن وورّث الكلالة أبو بكر(6) .
3 ـ عن عليّ (عليه السلام) قال : أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر ، إنّ أبا بكر أوّل من جمع بين اللّوحين . وفي لفظ : أوّل من جمع كتاب الله(7) .
4 ـ عن هشام بن عروة قال : لمّا استحرَّ القتل بالقرّاء فَرِقَ ـ أي جزع ـ أبو بكر على القرآن أن يضيع ، فقال لعمر بن الخطّاب ولزيد بن ثابت : اقُعدا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه(8) .
- (1) اللِّخاف : بكسر اللاّم وبخاء معجمة خفيفة ، آخره فاء ، واحدتها لخفة بفتح اللام وسكون الخاء; وهي الحجارة الرقاق ، أو حجارة بيض رقاق وعلى قول: صفائح الحجارة .
(2) الأكتاف : جمع كتف ، وهو عظم عريض في أصل كتف الحيوان ، فإذا جفّ استعملوه للكتابة .
(3) العُسب: جمع عسيب وهو جريد النخل إذا نزع منه خوصه ، ويكتبون في الطرف العريض منه .
(4) سورة التوبة 9: 128 .
(5) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 52 ـ 56 ح24ـ 28 ، و في فضائل القرآن لأبي عبيد: 281 و 283 ، وصحيح البخاري 5: 250 ح4679 وج6: 120 ح4786 وج8: 151 ح7191 ، وسنن الترمذي 5: 283 ح3112، والسنن الكبرى للنسائي 5: 7 ـ 8 ح7995، والسنن الكبرى للبيهقي 2: 333 ح2424، وشرح السنّة للبغوي 4: 511 ح1230 ، وجامع الاُصول 2: 501 ح974 ، والإتقان في علوم القرآن : 1 / 203 ، النوع الثاني عشر باختلاف .
(6) المصنّف في الأحاديث والآثار 8 : 340 ح134 ، المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 5: 215ـ 216 .
(7) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 48 ـ 50 ح14ـ 20 ، الإتقان في علوم القرآن 1: 204 . (8) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 51 ح23 ، فتح الباري 10: 5849 شرح حديث 4986 ، الإتقان في علوم القرآن 1: 205 .
(الصفحة 271)
5 ـ عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبدالله وخارجة: أ نّ أبا بكر الصدِّيق كان جمع القرآن في قراطيس ، وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك ، فأبى حتّى استعان عليه بعمر ، ففعل ، فكانت الكتب عند أبي بكر حتّى توفّي ، ثمّ عند عمر حتّى توفي ، ثمّ كانت عند حفصة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فأرسل إليها عثمان ، فأبت أن تدفعها حتّى عاهدها ليرُدَّنّها إليها ، فبعثت بها إليه ، فنسخها عثمان هذه المصاحف ، ثمّ ردّها إليها فلم تزل عندها(1) .
قال الزهري : أخبرني سالم بن عبدالله أ نّ مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب فيها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إيّاها ، فلمّا توفّيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبدالله بن عمر ; ليرسل إليه بتلك الصحف ، فأرسل بها إليه عبدالله بن عمر ، فأمر بها مروان فشقّقت ، وقال مروان : إنّما فعلت هذا لأنّ ما فيها قد كتب وحفظ بالصحف (المصحف خ ل) ، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذا المصحف مرتاب ، أو يقول : إنّه قد كان فيها شيء لم يكتب(2) .
6 ـ عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : لمّا قتل أهل اليمامة أمر أبو بكر الصدِّيق عمر بن الخطّاب ، وزيد بن ثابت ، فقال : اجلسا على باب المسجد ، فلا يأتينّكما أحد بشيء من القرآن تُنكرانه ، يشهد عليه رجلان إلاّ أثبتماه ، وذلك لأنّه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جمعوا القرآن .
7 ـ «مسند عمر» عن محمّد بن سيرين ، قال : قتل عمر ولم يجمع القرآن(3) .
8 ـ عن الحسن : أ نّ عمر بن الخطّاب سأل عن آية من كتاب الله ؟ فقيل: كانت
- (1) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 57 ح30 .
(2) مسند الشاميّين 4: 235 ح3168 .
(3) الطبقات الكبرى 3: 294 .
(الصفحة 272)
مع فلان فقتل يوم اليمامة ، فقال : إنّا لله ، وأمر بالقرآن فجمع ، وكان أوّل من جمعه في المصحف(1) .
9 ـ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، قال : أراد عمر بن الخطّاب أن يجمع القرآن ، فقام في الناس فقال : من كان تَلقّى من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعُسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتّى يشهد شاهدان ، فقتل وهو يجمع ذلك .
فقام عثمان فقال : من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتّى يشهد عليه شاهدان ، فجاء خزيمة بن ثابت ، فقال : إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما ، قالوا : ما هما؟ قال : تلقّيتُ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (2) ، إلى آخر السورة ، فقال عثمان : وأنا أشهد أ نّهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما؟ قال : اختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختم بهما براءة(3) .
10 ـ عن عبدالله بن فضالة ، قال : لمّا أراد عمر أن يكتب الإمام أقعد له نفراً من أصحابه ، فقال : إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضَر ; فإنّ القرآن نزل على رجل من مضر (4) .
11 ـ عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت عمر بن الخطّاب يقول : لا يملينَّ في
- (1) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 60 ح32 ، الإتقان في علوم القرآن 1: 204ـ 205 .
(2) سورة التوبة 9 : 128 .
(3) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 62 ح33 وص113 ح96، وروى في الإتقان في علوم القرآن 1: 205 صدره.
(4) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 63 ح34 .