(الصفحة 275)
إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كلّ أُفق بمصحف من تلك المصاحف التي نَسخوا ، وأمر بسوى ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق(1) .
قال الزهري : وحدّثني خارجة بن زيد أنّ زيد بن ثابت قال : فقدتُ آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرأها : (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوامَاعَـهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ) (2) فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت ، أو ابن خزيمة ، فألحقتها في سورتها(3) .
قال الزهري : فاختلفوا يومئذ في «التابوت» و«التابوه» ، فقال النفر القرشيّون : التابوت ، وقال زيد بن ثابت : التابوه ، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال : اكتبوه «التابوت»; فإنّه بلسان قريش نزل(4) .
18ـ عن أيّوب ، عن أبي قلابة قال : لمّا كان في خلافة عثمان جعل المعلّم يعلِّم قراءة الرجل ، والمعلِّم يعلِّم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يتلقّون (يلتقون خ ل) فيختلفون حتّى ارتفع ذلك إلى المعلّمين ، قال أيّوب: لا أعلمه إلاّ قال: حتّى كفر بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان ، فقام خطيباً فقال : أنتم عندي تختلفون وتلحنون ، فمن نأى عنّي من الأمصار أشدُّ اختلافاً وأشدّ لحناً ، فاجتمعوا يا أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله) فاكتبوا للناس إماماً(5) .
قال أبو قلابة : فحدّثني أنس بن مالك ـ قال أبو بكر بن أبي داود : هذا أنس
- (1) إلى هنا رواه ابن شبّة في تاريخ المدينة المنوّرة 3: 991ـ 992 والنسائي في السنن الكبرى 5: 6 ح7988 والبغوي في شرح السنّة 4: 519 ح1232 باختلاف .
(2) سورة الأحزاب 33 : 23 .
(3) إلى هنا رواه أبو عبيد في فضائل القرآن: 282 والبخاري في صحيحه 6: 120ـ 121 ح4987 و4988 .
(4) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 88 ـ 90 ح67ـ 69 ، سنن الترمذي 5: 284 ح3113 ، جامع الاُصول 2: 503 ـ 506 ح975 .
(5) إماماً: مصحفاً قدوةً لمصاحف الأمصار والبلاد .
(الصفحة 276)
ابن مالك جدّ مالك بن أنس ـ قال : كنت فيمن اُملي عليهم ، فربما اختلفوا في الآية ، فيذكرون الرجل قد تلقّاها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولعلّه أن يكون غائباً ، أو في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها حتّى يجيء أو يُرسِل إليه ، فلمّا فرغ من المصحف كتب إلى أهل الأمصار : إنّي قد صنعت كذا ، وصنعت كذا ، ومحوتُ ما عندي ، فامحوا ما عندكم (1) .
19 ـ عن ابن شهاب قال : بلغنا أ نّه كان أُنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب ، فلمّا جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن ولم يوجد مع أحد بعدهم ; وذلك فيما بلغنا حملهم على أن تتبّعوا القرآن ، فجمعوه في الصحف في خلافة أبي بكر خشية أن يقتل رجال من المسلمين في المواطن معهم كثير من القرآن ، فيذهبوا بما معهم من القرآن ، فلايوجد عند أحد بعدهم ، فوفّق الله عثمان ، فنسخ ذلك المصحف في المصاحف ، فبعث بها إلى الأمصار ، وبثّها في المسلمين(2) .
20ـ عن مصعب بن سعد قال : سمع عثمان قراءة أُبيّ، وعبدالله، ومعاذ ، فخطب الناس ثمّ قال : إنّما قبض نبيّكم (صلى الله عليه وآله) منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القرآن ، عزمتُ على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، لما أتاني به ، فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتف والعسيب فيه الكتاب ، فمن أتاه بشيء قال : أنت سمعتَه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ ثمّ قال : أيّ الناس أفصحُ؟ قالوا : سعيد بن العاص ، ثمّ قال : أيّ الناس أكتب؟ قالوا : زيد بن ثابت ، قال : فليكتب زيد وليمل سعيد . فكتب مصاحف فقسّمها في الأمصار ، فما رأيت أحداً عاب ذلك عليه(3) .
- (1) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 95 ـ 96 ح74 و 75 .
(2) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 100 ح81 ، وتقدّم صدره في ص 210.
(3) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 101 ح83 .
(الصفحة 277)
21ـ عن أبي المليح ، قال : قال عثمان بن عفّان حين أراد أن يكتب المصحف : يملي هذيل ، ويكتب ثقيف(1) .
22ـ عن عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر القرشي ، قال : لمّا فرغ من المصحف أتى به عثمان ، فنظر فيه فقال : قد أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئاً من لحن ستُقِيمُه العرب بألسنتها(2) .
23ـ عن عكرمة قال : لمّا أُتيَ عثمان بالمصحف رأى فيه شيئاً من لحن ، فقال : لو كان المُملي من هُذيل ، والكاتب من ثقيف ، لم يوجد فيه هذا(3) .
24ـ عن عطاء: أ نّ عثمان بن عفّان لمّا نسخ القرآن في المصاحف أرسل إلى أُبيّ بن كعب ، فكان يُملي على زيد بن ثابت وزيدٌ يكتب ومعه سعيد بن العاص يُعربه ، فهذا المصحف على قراءة أُبيّ وزيد .
25ـ عن مجاهد: أنّ عثمان أمر أُبيّ بن كعب يملي ، ويكتب زيد بن ثابت ، ويُعربه سعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث .
26ـ عن زيد بن ثابت : لمّا كتبنا المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فوجدتها عند خزيمة بن ثابت : (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ـ إلى قوله : ـ تَبديلاً) (4) ، قال: وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين ، أجاز رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهادته بشهادة رجلين(5) . (6)
- (1) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 105 ـ 106 ح91 .
(2) تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة 3: 1013 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 120 ح 102.
(3) فضائل القرآن لأبي عبيد: 340 ـ 341 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 127 ح108 .
(4) سورة الأحزاب 33: 23 .
(5) المصنّف لعبد الرزّاق 8 : 367 ح15568 وج11: 235 ح20416 ، صحيح البخاري 6: 26 ب3 ح4784 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 109 ح92 ، شرح السنّة 4: 515 ح1231 .
(6) كنز العمّال: 2 / 571 ـ 588 جمع القرآن ح 4751 ـ 4762، 4764 ، 4766 ـ 4768 ، 4775 ، 4776 ، 4778 ، 4780 ، 4783 ، 4784 ، 4787 ، 4789 ، 4790 ، 4793 .
(الصفحة 278)
وهنا بعض الروايات الاُخر ، مثل:
ما في المحكي عن الإتقان ، قال : أخرج ابن أشتة في المصاحف ، عن الليث بن سعد ، قال : أوّل من جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد ابن ثابت ، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل ، وأ نّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت ، فقال : اكتبوها; فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب ، وإنّ عمر أُتِىَ بآية الرجم فلم يكتبها ; لأ نّه كان وحده (1) .
وأصرح من الجميع ما حكاه في الإتقان عن «فوائد الديرعاقولي»(2) قال : حدّثنا إبراهيم بن بشّار ، حدّثنا سفيان بن عُيينة ، عن الزهري ، عن عبيد ، عن زيد ابن ثابت ، قال : قبض النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يكن القرآن جمع في شيء (3) .
هذه هي أهمّ الروايات الواردة في باب جمع القرآن ، والظاهرة في أنّه لم يتحقّق في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) المتوافقة على هذه الجهة .
نقد روايات جمع القرآن
وهذه الروايات مخدوشة من جهات مختلفة :
الجهة الاُولى: تناقضها في نفسها
إنّها متناقضة في أنفسها ، فلا تصلح للاعتماد عليها والركون إليها ، والتناقض فيها في اُمور متعدّدة متكثِّرة ، عمدتها ترجع إلى الاُمور التالية :
الأوّل : ظاهر جملة من الروايات المتقدّمة ـ كالرواية الاُولى والثانية والثالثة
- (1) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 206 ، النوع الثاني عشر .
(2) الدير عاقولي: منسوب إلى منطقة دير العاقول القريبة من بغداد .
(3) الإتقان في علوم القرآن 1 / 202 ، النوع الثامن عشر .
(الصفحة 279)
والرابعة والخامسة والسادسة ـ : أ نّ الجمع كان في زمن أبي بكر ، وأ نّه فَرِقَ على القرآن يضيع . وظاهر البعض الآخر ـ كالرواية الثامنة المصرّحة بأنّ عمر أمر بالقرآن فجمع ، وأ نّه أوّل من جمعه في المصحف ، وكذا الرواية الخامسة عشرة ـ أنّ الجامع للقرآن هو عمر . وصريح البعض الآخر الجمع كان في زمن عثمان ، وفي الرواية السابعة : تصريح بأنّه قتل عمر ولم يجمع القرآن .
وهنا رواية اُخرى تدلّ على أنّ الجامع سالم مولى أبي حذيفة :
أخرج ابن أشتة في محكي كتاب «المصاحف» من طريق كهْمس ، عن ابن بُريدة ، قال : أوّل من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة ، أقسم لا يرتدي برداء حتّى يجمعه ، فجمعه ، ثمّ ائتمروا ما يسمّونه ؟ فقال بعضهم سمّوه «السفر» ، قال : ذلك اسم تسمّيه اليهود ، فكرهوه ، فقال : رأيت مثله بالحبشة يسمّى «المصحف» ، فاجتمع رأيهم على أن يسمّوه «المصحف »(1) . ولكنّ الرواية غريبة ، وفيها جهات من الإشكال .
الثاني : ظاهر الرواية الخامسة : أنّ أبا بكر بنفسه كان قد جمع القرآن في قراطيس ، وسأل زيد بن ثابت النظر في ذلك ، فأبى حتّى استعان عليه بعمر . وظاهر الرواية الاُولى وبعض الروايات الاُخر : أنّ الجمع قد وقع بيد زيد بن ثابت ، وأ نّه لم يصدر من أبي بكر في هذه الجهة إلاّ الأمر والمطالبة والاستدعاء ، ويظهر من بعضها : أ نّ المتصدّي لذلك هو زيد بن ثابت وعمر بن الخطّاب .
الثالث : ظاهر الرواية الاُولى : أنّ الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ، وأخبره بأنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن في يوم اليمامة ، هو عمر بن الخطّاب ، وأنّ زيداً امتنع من ذلك أوّلاً . وظاهر الرواية الثانية عشرة : أنّ زيد بن ثابت لقي عمر
- (1) الإتقان في علوم القرآن 1: 205 ، النوع الثامن عشر .