(الصفحة 279)
والرابعة والخامسة والسادسة ـ : أ نّ الجمع كان في زمن أبي بكر ، وأ نّه فَرِقَ على القرآن يضيع . وظاهر البعض الآخر ـ كالرواية الثامنة المصرّحة بأنّ عمر أمر بالقرآن فجمع ، وأ نّه أوّل من جمعه في المصحف ، وكذا الرواية الخامسة عشرة ـ أنّ الجامع للقرآن هو عمر . وصريح البعض الآخر الجمع كان في زمن عثمان ، وفي الرواية السابعة : تصريح بأنّه قتل عمر ولم يجمع القرآن .
وهنا رواية اُخرى تدلّ على أنّ الجامع سالم مولى أبي حذيفة :
أخرج ابن أشتة في محكي كتاب «المصاحف» من طريق كهْمس ، عن ابن بُريدة ، قال : أوّل من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة ، أقسم لا يرتدي برداء حتّى يجمعه ، فجمعه ، ثمّ ائتمروا ما يسمّونه ؟ فقال بعضهم سمّوه «السفر» ، قال : ذلك اسم تسمّيه اليهود ، فكرهوه ، فقال : رأيت مثله بالحبشة يسمّى «المصحف» ، فاجتمع رأيهم على أن يسمّوه «المصحف »(1) . ولكنّ الرواية غريبة ، وفيها جهات من الإشكال .
الثاني : ظاهر الرواية الخامسة : أنّ أبا بكر بنفسه كان قد جمع القرآن في قراطيس ، وسأل زيد بن ثابت النظر في ذلك ، فأبى حتّى استعان عليه بعمر . وظاهر الرواية الاُولى وبعض الروايات الاُخر : أنّ الجمع قد وقع بيد زيد بن ثابت ، وأ نّه لم يصدر من أبي بكر في هذه الجهة إلاّ الأمر والمطالبة والاستدعاء ، ويظهر من بعضها : أ نّ المتصدّي لذلك هو زيد بن ثابت وعمر بن الخطّاب .
الثالث : ظاهر الرواية الاُولى : أنّ الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ، وأخبره بأنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن في يوم اليمامة ، هو عمر بن الخطّاب ، وأنّ زيداً امتنع من ذلك أوّلاً . وظاهر الرواية الثانية عشرة : أنّ زيد بن ثابت لقي عمر
- (1) الإتقان في علوم القرآن 1: 205 ، النوع الثامن عشر .
(الصفحة 280)
ابن الخطّاب وأخبره بعزمه على جمع القرآن ، فقال له : انتظر حتّى أسأل أبا بكر ، فمضيا إليه فأخبراه بذلك ، فنهاهما عن العجلة حتّى يشاور المسلمين ، وظاهر الرواية الرابعة : أنّ أبا بكر فَرِقَ على القرآن أن يضيع ، فأمر عمر بن الخطّاب وزيد بن ثابت أن يقعدا على باب المسجد لجمع القرآن .
الرابع : ظاهر الرواية الاُولى : أ نّ الذي جمع القرآن ـ بعدما أمر به ـ هو زيد بن ثابت فقط ، وأ نّه الذي فوّض إليه ذلك وتتبّع القرآن بأجمعه من الرقاع واللخاف والأكتاف والعسب وصدور الرجال . وظاهر مثل الرواية السادسة : أ نّه أمر أبو بكر عمر بن الخطّاب وزيد بن ثابت ، فقال : اجلسا على باب المسجد واكتبا ماشهد به شاهدان .
الخامس : ظاهر الرواية الخامسة والسابعة عشرة : أنّ الذي استند إليه عثمان في جمعه واعتمد عليه هي الصحف التي كانت عند حفصة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وهي التي كتبت في زمن أبي بكر ، وكانت عنده في حياته ، ثمّ عند عمر زمن حياته ، ثمّ انتقلت إلى حفصة . وظاهر مثل الرواية التاسعة : أ نّه قام عثمان بعد عمر فقال : من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتّى يشهد عليه شاهدان ، وقد وقع التصريح في بعض الروايات ـ وهي الرواية العشرون ـ بأنّه اعتمد في ذلك على ما أتاه به الرجل من اللّوح والكتف والعسيب ، وعلى إخباره بأنّه سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
السادس : صريح الرواية السابعة عشرة ، والسادسة والعشرين : أنّ الآية التي فقدها زيد بن ثابت ، ووجدها عند خزيمة بن ثابت ، هي آية واحدة من سورة الأحزاب ; وهي قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـهَدُوااللَّهَ عَلَيْهِ . . .) (1) . وصريح مثل الرواية الاُولى : أ نّ ما وجِد عند خزيمة آيتان من
- (1) سورة الأحزاب 33: 23 .
(الصفحة 281)
البراءة ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية الاُولى : أ نّ إلحاق ما جاء به خزيمة كان في زمن أبي بكر ، وظاهر الرواية التاسعة : أ نّ الإلحاق كان في زمن عثمان ، وظاهر البعض الآخر كالرواية الثالثة : أ نّ الإلحاق كان في زمن عمر .
مضافاً إلى أنّ ظاهر بعض الروايات : أ نّه قَبِلَ ما جاء به خزيمة من دون أن يقترن بشهادة شاهدين ; نظراً إلى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجاز شهادته بشهادة رجلين ، وفي بعضها : أ نّه قَبِلَ لاقترانه بشهادة عمر ، وتصديقه إيّاه في كون ما جاء به من القرآن ، مع أنّ كلاًّ منهما يتناقض مع ما يدلّ على أنّه لا يقبل إلاّ ما شهد به شاهدان ; لأنّ الظاهر أنّ الشاهدين غير المدّعي ، فهما بضميمة المدّعي ثلاث نفرات ، فإجازة رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهادته بشهادة رجلين لا تدلّ إلاّ على كونه قائماً مقام اثنين في مقام الشهادة ، لا قبول دعواه من دون بيّنة ، أو كونه معدوداً من الشاهدين ، فيكفي الشاهد الواحد كما لا يخفى .
ومضافاً إلى عدم احتياج الأمر إلى الشهادة أصلاً ; وذلك; لأنّ المفروض بحسب تعبير الرواية كون الموجود عند خزيمة هو الذي فقده زيد ، ومع وضوح كون المفقود هو الموجود عنده لا حاجة إلى الشهادة ، كما لا يخفى على اُولي الدراية .
السابع : ظاهر الرواية الخامسة عشرة : أ نّ الذي أرسل المصاحف إلى البلاد هو عمر بن الخطّاب ، وظاهر البعض الآخر ، كالرواية السابعة عشرة : أ نّ الذي بعث مصحفاً إلى كلّ اُفق هو عثمان .
الثامن : ظاهر بعض الروايات ـ كالرواية السابعة عشرة ـ أ نّ عثمان عيّن للكتابة والنسخ زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبدالله بن الزبير . وظاهر الرواية العشرين : أ نّه عيّن زيداً للكتابة ; لأنّه أكتبُ الناس ، وسعيداً للإملاء ; لأ نّه أفصحُ الناس ، وظاهر الرواية الواحدة والعشرين : أ نّه أمر بأن يملي هذيل ، ويكتب ثقيف . وظاهر الرواية الثالثة
(الصفحة 282)
والعشرين : أ نّه لم يتحقّق إملاء هذيل ، وكتابة ثقيف ، وظاهر الرواية الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين: أنّ الإملاء كان من اُبيّ بن كعب ، والكتابة من زيد بن ثابت ، والإعراب من سعيد بن العاص ، كما في الاُولى منهما ، وزيادة عبدالرحمن بن الحارث ، كما في الثانية منهما .
هذه هي عمدة الاُمور التي تكون الروايات المتقدّمة متناقضة فيها ، وهنا بعض الاُمور الاُخر يظهر بالتأمّل ودقّة النظر ، ومع هذه المتناقضات ، كيف تصلح هذه الروايات للركون والاعتماد عليها في هذا الأمر الخطير ، الذي لا يساعده شيء من العقل والنقل ، كما سيظهر عن قريب إن شاء الله تعالى ؟!
إن قلت : هذه الروايات مع كونها متكثّرة جدّاً ـ وإن لم تكن متّصفة بوصف التواتر; لما ذكر من ثبوت المناقضة والمعاندة بينها ـ إلاّ أنّ اتّصافها بوصف التواتر المعنوي ـ الذي مرجعه في المقام إلى اتّفاقها على عدم تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووقوعه بعده إجمالاً وإن لم تعلم كيفيّته وخصوصيّاته ، وأ نّه وقع بيد الأوّل أو الثاني ، أو الثالث ، أو غيرهم ـ ممّا لا يكاد ينبغي أن يُنكر ، ولو نوقش في هذا الاتّصاف ، فلا أقلّ من اتّصافه بالتواتر الإجمالي الذي يرجع إلى العلم الإجمالي بمطابقة إحداها للواقع ونفس الأمر ، وهو يكفي للقائل بالتحريف بعد اتّفاقها على عدم تحقّق الجمع في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
قلت : الاتّصاف بالتواتر الإجمالي ـ كما اعترف به ـ فرع تحقّق العلم الإجمالي بمطابقة إحداها للواقع ، أو بصدورها عن المعصوم (عليه السلام) ، وبدون تحقّق هذا العلم لامجال لهذا الاتّصاف أصلاً ، ونحن نمنع تحقّقه ; لعدم ثبوت العلم واليقين وجداناً ، لابصدورها عن المعصوم (عليه السلام) ; لعدم كون شيء من تلك الروايات منسوبة إليه وحاكية لقوله (عليه السلام) ونحوه ، ولا بالمطابقة للواقع ; لأنّ الوجدان يقضي بعدمه ، فدعوى التواتر ولو إجمالاً ممّا لا يدّعيها المنصف .
(الصفحة 283)الجهة الثانية: تعارضها مع روايات اُخرى
إنّ هذه الروايات معارضة بما يدلّ على أنّ القرآن كان قد جمع وكتب في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وهذه الروايات أيضاً كثيرة:
1 ـ روى البخاري في إحدى رواياته ، عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: مَنْ جمع القرآن على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ؟ قال: أربعة كلّهم من الأنصار: اُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (1) . وروى في موضع آخر مكان اُبيّ بن كعب، أبا الدرداء (2) .
2 ـ روى الخوارزمي في محكيّ مناقبه عن عليّ بن رباح قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) واُبيّ بن كعب (3) .
3 ـ روى الحاكم في «المستدرك» بسند صحيح على شرط الشيخين ، عن زيد ابن ثابت قال: كنّا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) نؤلِّف القرآن من الرقاع . . . (4) .
4 ـ وفي «الإتقان»: أخرج أحمد(5) وأبو داود(6) ، والترمذي(7) ، والنسائي(8) ، وابن حبّان(9) ، والحاكم(10) عن ابن عبّاس ، قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ،
- (1 ، 2) صحيح البخاري: 6 / 125 ، كتاب فضائل القرآن ب 8 ح 5003 و 5004 ، جامع الاُصول 2: 507 ح976 ، الإتقان في علوم القرآن 1: 244 ـ 245 .
(3) المناقب للخوارزمي: 93 ح 91 ، ورواه أيضاً في شواهد التنزيل 1: 35 ح22 .
(4) المستدرك على الصحيحين : 2 / 249 ح 2901 .
(5) المسند لابن حنبل 1: 126 ح399 .
(6) سنن أبي داود: 128 ح786 و 787 .
(7) سنن الترمذي 5: 272 ح3095 . (8) السنن الكبرى للنسائي 5: 10 ح8007 . (9) صحيح ابن حبّان 1: 230 ح43 ، موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبّان: 125 ح452 . (10) المستدرك على الصحيحين 2: 241 ح2875 وص360 ح3272 .