(الصفحة 295)
كونها من القرآن وعدم كونها كلام البشر .
مدفوعة بأ نّه على ذلك لا تكون شهادة الشاهدين مصدّقة للآية ، وكونها من كلام الله ، بل كانت الآية مصدّقة لها ، ولكونها شهادة مطابقة للواقع . وعليه: فلاحاجة إلى الشهادة أصلاً ، وهو خلاف مفاد الروايات المتقدّمة (1).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا ـ بطوله وتفصيله ـ بطلان هذه الروايات ، وعدم إمكان الأخذ بمضمونها ، وأ نّه لا محيص عن الالتزام بكون الجمع والتأليف الراجع إلى تميّز الآيات بعضها عن بعض ، وتبيّن كون الآية الفلانية جزءاً من السورة الفلانية ، بل وموقعها من تلك السورة ، وأ نّها هي الآية الثانية منها مثلاً أو الثالثة أو الرابعة وهكذا ، وكذا تميّز السور بعضها عن بعض ، واقعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعصره بأمره وإخباره . غاية الأمر تفرّقها وتشتّتها من جهة الأشياء المكتوبة عليها والمنقوشة فيها ، كالعسيب واللخاف ومثلهما .
نعم ، لا ينبغي إنكار ارتباط جهة من القرآن بأبي بكر وكذا بعثمان:
أمّا ارتباطه بأبي بكر : فهو أ نّه قد جمع تلك المتفرّقات التي كان شأنها مبيّناً من جميع الجهات ، وكانت خالية من نقاط الإبهام والإجمال بتمام المعنى في قرطاس أو مصحف الذي هو بمعنى القرطاس ، أو قطع الجلد المدبوغ ، وقد وقع التصريح في بعض الروايات المتقدّمة(2) بأنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن بين اللّوحين ، وقد عرفت تصريح الحارث المحاسبي بذلك (3) ، وأ نّ جمع أبي بكر بمنزلة خيط ربط الأوراق المتفرّقة الموجودة في بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولا يبعد الالتزام بما في بعض تلك الروايات(4) من كون المصحف الذي جمع أبو بكر فيه القرآن ، هو الذي كان عنده
- (1) في ص 269 ـ 278.
(2) في ص270 .
(3) في ص 287 .
(4) في ص269 ـ 271 ح 1 و 5.
(الصفحة 296)
زمن حياته ، وكان بعده باختيار عمر ، وانتقل منه إلى حفصة بنته زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ الإشكال والاشتباه إنّما نشأ من الخلط ، وعدم تبيّن مفهوم كلمة «الجمع» الواقعة في الروايات المتقدّمة(1) ، وتخيّل كون المراد من هذه الكلمة هو الذي يكون محلّ البحث في المقام ، ومورداً للنقض والإبرام ، ولابدّ من التوضيح وإن كان المتأمِّل قد ظهر له الفرق ممّا ذكرنا، فنقول :
أمّا الجمع الذي هو محلّ البحث في المقام; هو الجمع بمعنى التأليف والتركيب ، وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها ، وفي موضعها من تلك السورة ، والجمع بهذا المعنى لا يكون إلاّ وظيفة النبيّ(صلى الله عليه وآله) بما هو نبيّ ، ولم يتحقّق إلاّ منه ، ولا معنى لصدوره من غيره ، حتّى في عصره وزمن حياته ، ومنه يظهر أنّ الروايات الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص معيّنين في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، لا يكون المراد بها هذا المعنى ; فإنّ مثل اُبيّ بن كعب لا يقدر على ذلك ، وإن كان في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; ضرورة أ نّه من شؤون القرآن وما به تقوم حقيقته ، ولا طريق له إلاّ الوحي .
وأ مّا الجمع الوارد في الروايات المتقدّمة(2) ، أعمّ من الروايات الدالّة على عدم تحقّقه في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والروايات الدالّة على تحقّقه في زمنه من ناحية الأشخاص ، فالمراد به هو جمع المتفرّقات والمتشتّتات من جهة الأشياء المكتوبة عليها ، والمنقوشة فيها . غاية الأمر أنّ الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان بمعنى القدرة على تحصيل القرآن بأجمعه ، وحصوله له كذلك .
وبعبارة اُخرى: كان عنده جميع القرآن في الأشياء المتفرّقة ، والجمع بعد حياته بمعنى جمعه في اللوحين والقرطاس والمصحف .
فقد ظهر أنّ الجمع ـ بمعناه الذي هو محلّ الكلام ـ بعيد عن مفاد جميع الروايات
- (1 ، 2) في ص269 ـ 278 و 283 ـ 287 .
(الصفحة 297)
بمراحل، وأ نّ المتّصف به لا يكون غير النبيّ (صلى الله عليه وآله) بوجه ، فالروايات وكذا التواريخ الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أجنبيّ عن المقام بالمقدار الذي تكون الروايات التي هي مورد لاستدلال القائل بالتحريف كذلك، وعدم الالتفات إلى ذلك صارموجباً للخلط والاشتباه والانحراف عن مسير الحقيقة ، كما عرفت.
وأ مّا ارتباطه بعثمان الذي اشتهر إضافة القرآن وانتسابه إليه ، واشتهر عنه حرق مصاحف غيره ، حتّى سمّي بحرّاق المصاحف (1) ، وانتقد عليه من هذه الجهة ، فليس لأمر يرجع إلى الجمع والتأليف بالمعنى الذي ذكرنا من تميّز الآيات والسور ، وتبيّن بعض كلّ واحدة منهما عن البعض الآخر ، بل الظاهر ـ كما دلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة(2) ـ أ نّ ارتباطه بعثمان إنّما هو من جهة أنّه جمع المسلمين على قراءة واحدة ، بعد تحقّق اختلاف القراءة بينهم ، من جهة اختلاف القبائل والأمكنة في اللحن والتعبير .
قال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس أ نّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد ، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار ، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ، فأمّا قبل ذلك ، فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي نزل بها القرآن . . .»(3) .
نعم ، يقع الكلام في أنّ القراءة الواحدة التي جمع عثمان المسلمين عليها ماذا؟ وأ نّه اعتمد في ذلك على أيّ شيء؟
- (1) البيان في تفسير القرآن: 257 .
(2) في ص274 ـ 277 .
(3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 211 .النوع الثامن عشر .
(الصفحة 298)
يمكن أن يقال : إنّ تلك القراءة هي القراءة الواحدة المتعارفة بين المسلمين ، التي أخذوها بالتواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لما عرفت(1) في مبحث تواتر القراءات من أنّ استناد جميع القراءات إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر موهوم فاسد ، وأ نّ أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ـ على فرض صحّتها وجواز الالتزام بها ـ لا ارتباط لها بباب القراءات السبع بوجه .
وقد ذكر عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد الطاووس العلوي الفاطمي في محكيّ كتاب «سعد السعود» نقلاً من كتاب أبي جعفر محمّد بن منصور في اختلاف المصاحف ، رواية محمد بن زيد بن مروان: أ نّ القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد ابن ثابت ، وخالفه في ذلك اُبيّ ، وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ثمّ عاد عثمان جمع المصحف برأي مولانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأخذ عثمان مصاحف اُبيّ ، وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، فغسلها ، وكتب عثمان مصحفاً لنفسه ، ومصحفاً لأهل المدينة ، ومصحفاً لأهل مكّة ، ومصحفاً لأهل الكوفة ، ومصحفاً لأهل البصرة ، ومصحفاً لأهل الشام (2) .
وقال الشيخ أبو عبدالله الزنجاني بعد نقل هذه العبارة : إنّ مصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري ، يقول في وصف مسجد دمشق: وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني بخطّ أمير المؤمنين عثمان بن عفّان ، ويظنّ قويّاً أ نّ هذا المصحف هو الذي كان موجوداً في دار الكتب في لنين غراد ، وانتقل الآن إلى انكلترا .
ورأيت في شهر ذي الحجّة سنة 1353 هـ في دار الكتب العلويّة في النجف
- (1) في ص 153 ـ 156.
(2) سعد السعود : 435 .
(الصفحة 299)
مصحفاً بالخطّ الكوفي كتب على آخره: كتبه عليّ بن أبي طالب في سنة أربعين من الهجرة ، ولتشابه «أبي» و «أبو» في رسم الخط الكوفي ، قد يظنّ من لا خبرة له أ نّه : كتب عليّ بن أبو طالب بالواو (1) .
هذا ، ولكنّ الاستناد إلى رأي مولانا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعيد ، خصوصاً مع ملاحظة وجود مصحف له (عليه السلام) لا يحتاج معه إلى شخص آخر أو شيء آخر ، إلاّ أن يكون الاستناد إلى الرأي دون المصحف ، لأجل كون مصحفه زائداً على القرآن وآياته كما سيظهر (2)، فلعلّه (عليه السلام) لم يرضَ أن يجعله باختيارهم ; لعدم صلاحيّتهم لملاحظته والنظر فيه ، كما يساعده الاعتبار .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أ نّ لفظ «الجمع» الذي يستعمل في مسألة جمع القرآن يكون له أربعة معان ، وقد وقع بينها الخلط ، ولأجله تحقّق الانحراف الذي أدّى إلى الالتزام بالتحريف ، الذي يوجب تزلزل الدين ، وضعف المسلمين ، كما عرفت في أوّل المبحث .
وهذه المعاني الأربعة عبارة عن:
1 ـ الجمع بمعنى التأليف والتركيب وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها وفي موضعها من تلك السورة ، وكونها آية ثانية له مثلاً أو ثالثة أو رابعة وهكذا ، والجمع بهذا المعنى هو محلّ البحث والكلام ، وقد عرفت(3) أنّ الجامع بهذا المعنى لايكون إلاّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بما أنّه نبيّ .
وبعبارة اُخرى: لا طريق له إلاّ الوحي ، ولا يصلح إسناده إلى غير النبيّ (صلى الله عليه وآله)
- (1) تاريخ القرآن : 74 ـ 75 ، الفصل الثاني ، القرآن في عهد عثمان .
(2) في ص 301 ـ 309.
(3) في ص 283 ـ 290 و 295 ـ 296.