(الصفحة 31)
وإنّما يتمّ ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشؤون المذكورة ، وتتضمّن المعرفة والقصّة والحجّة وغير ذلك ، كسورتي الأعراف والأنعام .
والتي نزلت من السور الطويلة القرآنية ممّا يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود ـ على ما ورد في الرواية(1) ـ هي: سورة الأعراف ، وسورة يونس ، وسورة مريم ، وسورة طه ، وسورة الشعراء ، وسورة النمل ، وسورة القصص ، وسورة القمر ، وسورة ص ، فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود ، وهذا هو الوجه في التحدّي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات(2) .
واُورد عليه ـ مضافاً إلى عدم ثبوت الرواية التي عوّل عليها ـ بأنّ ظاهر الآية أنّ رميهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالافتراء قول تقوّلوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنيّة ، طويلتها وقصيرتها ، فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادّة الشبهة بالنسبة إلى كلّ سورة قرآنيّة ، لا خصوص الإتيان بعشر سور طويلة جامعة للفنون القرآنيّة ، مع أنّ الضمير في «مثله» الواقع في الآية الشريفة إن كان راجعاً إلى القرآن ـ كما هو ظاهر هذا القائل ـ أفاد التحدّي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقاً ; سواء في ذلك الطوال والقصار ، فتخصيص التحدّي بعشر سور طويلة جامعة; تقييد من غير مقيّد ، وإن كان عائداً إلى سورة هود كان مستبشعاً من القول ، خصوصاً بعد عدم اختصاص الرمي بالافتراء بسورة هود ; لأنّه كيف يستقيم في مقام الجواب عن الرمي بأنّ مثل سورة الكوثر من الافتراء أن يقال: ائتوا بعشر سور مفتريات مثل سورة هود؟ كما هو واضح(3) .
- (1) لم نعثر عليه عاجلاً .
(2) هذا ما لخّصه صاحب تفسير الميزان: 10 / 169 ـ 170 .
(3) المورد هو العلاّمة الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن: 10 / 170 .
(الصفحة 32)
وقد تفصّى عن هذا الإشكال بعض الأعاظم في تفسيره الكبير ، المعروف بـ «الميزان في تفسير القرآن» بكلام طويل يرجع حاصله إلى: «أنّ كلّ واحدة من آيات التحدّي تؤمّ غرضاً خاصّاً في التحدّي ; لأنّ جهات القرآن وما به تتقوّم حقيقته وهو كتاب إلهيّ ـ مضافاً إلى ما في لفظه من الفصاحة ، وفي نظمه من البلاغة ـ إنّما ترجع إلى معانيه ومقاصده ، لا ما يقصده علماء البلاغة من قولهم: «إنّ البلاغة من صفات المعنى» ; لأنّهم يعنون به المفاهيم من جهة ترتّبها الطبعيّ في الذهن ; من دون فرق بين الصدق والكذب والهزل والفحش وما جرى مجراها ، بل المراد من المعنى ما يصفه تعالى بأنّه كتاب حكيم ، ونور مبين ، وقرآن عظيم ، وهاد يهدي إلى الحقّ ، وإلى طريق مستقيم ، وما يضاهي هذه التعبيرات .
وهذا هو الذي يصحّ أن يتحدّى به بمثل قوله ـ تعالى ـ : ( فَلْيَأْتُوابِحَدِيث مِّثْلِهِ) (1); فإنّا لا نسمّي الكلام حديثاً إلاّ إذا اشتمل على غرض هامّ يتحدّث به ، وكذا قوله ـ تعالى ـ : ( فَأْتُوابِسُورَة مِّثْلِهِ) (2); فإنّ الله لا يسمّي جماعة من آيات كتابه ـ وإن كانت ذات عدد ـ سورةً إلاّ إذا اشتملت على غرض إلهيّ تتميّز به عن غيرها .
ولولا ذلك لم يتمّ التحدّي بالآيات القرآنيّة ، وكان للخصم أن يختار من مفردات الآيات عدداً ذا كثرة . . . ثمّ يقابل كلاًّ منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض .
فالذي كلّف به الخصم في هذه التحدّيات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن ، مضافاً إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإلهيّة .
والكلام الإلهي ـ مع ما تحدّى به في آيات التحدّي ـ يختلف بحسب ما يظهر من
- (1) سورة الطور 52: 34 .
(2) سورة يونس 10: 38 .
(الصفحة 33)
خاصّته ، فمجموع القرآن الكريم يختصّ بأنّه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإنسان إلى يوم القيامة من معارف أصليّة ، وأخلاق كريمة ، وأحكام فرعيّة ، والسورة من القرآن تختصّ ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهيّة . . . وهذه خاصّة غير الخاصّة التي يختصّ بها مجموع القرآن الكريم ، والعدّة من السور كالعشر والعشرين منها تختصّ بخاصّة اُخرى ، وهي بيان فنون من المقاصد والأغراض والتنوّع فيها ; فإنّها أبعد من احتمال الاتّفاق ، إلى أن قال:
إذا تبيّن ما ذكرنا ظهر أنّ من الجائز أن يكون التحدّي بمثل قوله ـ تعالى ـ : ( قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ) (1) الآية وارداً مورد التحدّي بجميع القرآن لما جمع فيه من الأغراض الإلهيّة ، ويختصّ بأنّه جامع لعامّة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة . وقوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَة مِّثْلِهِ) (2) لما فيها من الخاصّة الظاهرة ، وهي: أنّ فيها بيان غرض تامّ جامع من أغراض الهدى الإلهي بياناً فصلاً من غير هزل . وقوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِ) (3) تحدّياً بعشر من السور القرآنيّة; لما في ذلك من التفنّن في البيان ، والتنوّع في الأغراض من جهة الكثرة . والعشرة من ألفاظ الكثرة كالمائة والألف ، قال الله ـ تعالى ـ : ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة) (4) . إلى أن قال:
وأمّا قوله ـ تعالى ـ : ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِّثْلِهِ) (5) فكأنّه تحدٍّ بما يعمّ التحدّيات الثلاثة السابقة ; فإنّ الحديث يعمّ السورة ، والعشر سور ، والقرآن كلّه ، فهو تحدٍّ
- (1) سورة الإسراء 17: 88 .
(2) سورة يونس 10: 38 .
(3) سورة هود 11: 13 .
(4) سورة البقرة 2: 96 .
(5) سورة الطور 52: 34 .
(الصفحة 34)
بمطلق الخاصّة القرآنيّة ، وهو ظاهر(1) .
ويرد عليه: أنّ ما أفاده وحقّقه وإن كان في نفسه تامّاً لا ينبغي الارتياب فيه ، إلاّ أنّه يصلح وجهاً لأصل التحدّي بالواحد والكثير ، والتفنّن والتنوّع في هذا المقام . وأمّا التحدّي بالعشر بعد الواحد ، المخالف للترتيب الطبيعي الذي يبتني عليه الإشكال ، فما ذكره لا يصلح وجهاً له ; ضرورة أنّه بعد التحدّي بالواحد بما فيه من الخاصّة الظاهرة الراجعة إلى غرض تامّ جامع من الأغراض الإلهيّة ، كيف تصل النوبة إلى التحدّي بما يتضمّن التفنّن في البيان والتنوّع في الأغراض ؟ فإنّ العاجز من الإتيان بما فيه غرض واحد جامع ، كيف يتصوّر أن يقدر على ما فيه أغراض كثيرة متنوّعة؟ بداهة أنّ التنوّع فرع الواحد ، فمجرّد اختلاف الغرض في باب التحدّي ، وكون كلّ واحدة من الآيات الواردة في ذلك الباب مترتّباً عليها غرض خاصّ في مقام التحدّي ، لا يوجب تصحيح الترتيب والنظم الطبيعي ، أترى أنّ هذا الذي أفاده يسوّغ أن يكون التحدّي بمجموع القرآن متأخِّراً عن التحدّي بسورة واحدة ، مع أنّ الغرض مختلف ؟
فانقدح أنّ مجرّد الاختلاف لا يحسم مادّة الإشكال ، وأ نّ التحدّي بالعشر بعد الواحدة لا يكاد يمكن توجيهه بما ذكر .
ويمكن أن يقال في مقام التفصّي عن الإشكال: إنّ تقييد العشر بكونها مفتريات ، الوارد في هذه الآية فقط ، يوجب الانطباق على ما يوافق النظم الطبيعي .
توضيح ذلك: أ نّ الافتراء المدلول عليه بقوله ـ تعالى ـ : ( مُفْتَرَيَـت) يغاير الافتراء الواقع في صدر الآية في قوله ـ تعالى ـ : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَئهُ) ; فإنّ الافتراء
- (1) الميزان في تفسير القرآن: 10 / 171 ـ 174 تفسير الآية 13 من سورة هود .
(الصفحة 35)
هناك افتراء بحسب نظر المدّعي ، ولا يقبله الطرف الآخر بوجه ، وفي الحقيقة يكون الافتراء المدّعى افتراءً واقعيّاً غير مطابق للواقع بوجه ، ولكنّ الافتراء هنا افتراء مقبول للطرفين ، والغرض ـ والله أعلم ـ أ نّ اتّصاف القرآن بالإعجاز وإن كان ركنه الذي يتقوّم به إنّما هو المقاصد الإلهية ، والأغراض الربوبيّة التي تشتمل عليها ألفاظه المقدّسة ، وعباراته الشريفة ، إلاّ أ نّه لا ينحصر بذلك ، بل لو فرض كون المطالب غير واقعيّة والقصص كاذبة، لكان البشر عاجزاً عن التعبير بمثل تلك الألفاظ ، مع النظم الخاصّ والاُسلوب المخصوص .
ففي الحقيقة: يكون التحدّي في هذه الآية ـ بعد الإغماض عن علوّ المطالب ، وسموّ المعاني ، وصدق القصص ، وواقعيّة المفاهيم ـ بخلاف التحدّي الواقع في الآية الكريمة في سورة يونس ; بالإتيان بسورة مثل سور القرآن ; فإنّ ظاهره المماثلة من جهة المزايا الراجعة إلى المعنى والخصوصيّات المشتملة عليها الألفاظ معاً .
نعم ، يبقى الكلام ـ بعد ظهور عدم كون المراد بالعشرة إلاّ الكثرة لا العدد الخاصّ ـ في حكمة العناية بالكثرة ، ولعلّها عبارة عن التنبيه على اشتمال الكتاب العزيز على خصوصيّة مفقودة في غيره ، ولا يكاد يقدر عليها البشر ، وإن بلغ مابلغ ، وهي الإتيان بقصّة واحدة بأساليب متعدّدة وتعبيرات مختلفة متساوية من حيث الوقوع في أعلى مرتبة البلاغة ، وبذلك ترتفع الشبهة التي يمكن أن تخطر بالبال ، بل بعض الناس أوردها على الإعجاز بالبلاغة والاُسلوب .
وهي: أنّ الجملة أو السورة المشتملة على القصّة يمكن التعبير عنها بعبارات مختلفة تؤدّي المعنى ، ولابدّ أن تكون عبارة منها ينتهي إليها حسن البيان ، مع السلامة من كلّ عيب لفظيّ أو معنويّ ، فمن سبق إلى هذه العبارة أعجز غيره عن الإتيان بمثلها ; لأ نّ تأليف الكلام في اللغة لا يحتمل ذلك ، ولكنّ القرآن عبّر عن بعض المعانيوبعض القصص بعبارات مختلفة الاُسلوب والنظم، من مختصر ومطوّل،