(الصفحة 33)
خاصّته ، فمجموع القرآن الكريم يختصّ بأنّه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإنسان إلى يوم القيامة من معارف أصليّة ، وأخلاق كريمة ، وأحكام فرعيّة ، والسورة من القرآن تختصّ ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهيّة . . . وهذه خاصّة غير الخاصّة التي يختصّ بها مجموع القرآن الكريم ، والعدّة من السور كالعشر والعشرين منها تختصّ بخاصّة اُخرى ، وهي بيان فنون من المقاصد والأغراض والتنوّع فيها ; فإنّها أبعد من احتمال الاتّفاق ، إلى أن قال:
إذا تبيّن ما ذكرنا ظهر أنّ من الجائز أن يكون التحدّي بمثل قوله ـ تعالى ـ : ( قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ) (1) الآية وارداً مورد التحدّي بجميع القرآن لما جمع فيه من الأغراض الإلهيّة ، ويختصّ بأنّه جامع لعامّة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة . وقوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَة مِّثْلِهِ) (2) لما فيها من الخاصّة الظاهرة ، وهي: أنّ فيها بيان غرض تامّ جامع من أغراض الهدى الإلهي بياناً فصلاً من غير هزل . وقوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِ) (3) تحدّياً بعشر من السور القرآنيّة; لما في ذلك من التفنّن في البيان ، والتنوّع في الأغراض من جهة الكثرة . والعشرة من ألفاظ الكثرة كالمائة والألف ، قال الله ـ تعالى ـ : ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة) (4) . إلى أن قال:
وأمّا قوله ـ تعالى ـ : ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِّثْلِهِ) (5) فكأنّه تحدٍّ بما يعمّ التحدّيات الثلاثة السابقة ; فإنّ الحديث يعمّ السورة ، والعشر سور ، والقرآن كلّه ، فهو تحدٍّ
- (1) سورة الإسراء 17: 88 .
(2) سورة يونس 10: 38 .
(3) سورة هود 11: 13 .
(4) سورة البقرة 2: 96 .
(5) سورة الطور 52: 34 .
(الصفحة 34)
بمطلق الخاصّة القرآنيّة ، وهو ظاهر(1) .
ويرد عليه: أنّ ما أفاده وحقّقه وإن كان في نفسه تامّاً لا ينبغي الارتياب فيه ، إلاّ أنّه يصلح وجهاً لأصل التحدّي بالواحد والكثير ، والتفنّن والتنوّع في هذا المقام . وأمّا التحدّي بالعشر بعد الواحد ، المخالف للترتيب الطبيعي الذي يبتني عليه الإشكال ، فما ذكره لا يصلح وجهاً له ; ضرورة أنّه بعد التحدّي بالواحد بما فيه من الخاصّة الظاهرة الراجعة إلى غرض تامّ جامع من الأغراض الإلهيّة ، كيف تصل النوبة إلى التحدّي بما يتضمّن التفنّن في البيان والتنوّع في الأغراض ؟ فإنّ العاجز من الإتيان بما فيه غرض واحد جامع ، كيف يتصوّر أن يقدر على ما فيه أغراض كثيرة متنوّعة؟ بداهة أنّ التنوّع فرع الواحد ، فمجرّد اختلاف الغرض في باب التحدّي ، وكون كلّ واحدة من الآيات الواردة في ذلك الباب مترتّباً عليها غرض خاصّ في مقام التحدّي ، لا يوجب تصحيح الترتيب والنظم الطبيعي ، أترى أنّ هذا الذي أفاده يسوّغ أن يكون التحدّي بمجموع القرآن متأخِّراً عن التحدّي بسورة واحدة ، مع أنّ الغرض مختلف ؟
فانقدح أنّ مجرّد الاختلاف لا يحسم مادّة الإشكال ، وأ نّ التحدّي بالعشر بعد الواحدة لا يكاد يمكن توجيهه بما ذكر .
ويمكن أن يقال في مقام التفصّي عن الإشكال: إنّ تقييد العشر بكونها مفتريات ، الوارد في هذه الآية فقط ، يوجب الانطباق على ما يوافق النظم الطبيعي .
توضيح ذلك: أ نّ الافتراء المدلول عليه بقوله ـ تعالى ـ : ( مُفْتَرَيَـت) يغاير الافتراء الواقع في صدر الآية في قوله ـ تعالى ـ : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَئهُ) ; فإنّ الافتراء
- (1) الميزان في تفسير القرآن: 10 / 171 ـ 174 تفسير الآية 13 من سورة هود .
(الصفحة 35)
هناك افتراء بحسب نظر المدّعي ، ولا يقبله الطرف الآخر بوجه ، وفي الحقيقة يكون الافتراء المدّعى افتراءً واقعيّاً غير مطابق للواقع بوجه ، ولكنّ الافتراء هنا افتراء مقبول للطرفين ، والغرض ـ والله أعلم ـ أ نّ اتّصاف القرآن بالإعجاز وإن كان ركنه الذي يتقوّم به إنّما هو المقاصد الإلهية ، والأغراض الربوبيّة التي تشتمل عليها ألفاظه المقدّسة ، وعباراته الشريفة ، إلاّ أ نّه لا ينحصر بذلك ، بل لو فرض كون المطالب غير واقعيّة والقصص كاذبة، لكان البشر عاجزاً عن التعبير بمثل تلك الألفاظ ، مع النظم الخاصّ والاُسلوب المخصوص .
ففي الحقيقة: يكون التحدّي في هذه الآية ـ بعد الإغماض عن علوّ المطالب ، وسموّ المعاني ، وصدق القصص ، وواقعيّة المفاهيم ـ بخلاف التحدّي الواقع في الآية الكريمة في سورة يونس ; بالإتيان بسورة مثل سور القرآن ; فإنّ ظاهره المماثلة من جهة المزايا الراجعة إلى المعنى والخصوصيّات المشتملة عليها الألفاظ معاً .
نعم ، يبقى الكلام ـ بعد ظهور عدم كون المراد بالعشرة إلاّ الكثرة لا العدد الخاصّ ـ في حكمة العناية بالكثرة ، ولعلّها عبارة عن التنبيه على اشتمال الكتاب العزيز على خصوصيّة مفقودة في غيره ، ولا يكاد يقدر عليها البشر ، وإن بلغ مابلغ ، وهي الإتيان بقصّة واحدة بأساليب متعدّدة وتعبيرات مختلفة متساوية من حيث الوقوع في أعلى مرتبة البلاغة ، وبذلك ترتفع الشبهة التي يمكن أن تخطر بالبال ، بل بعض الناس أوردها على الإعجاز بالبلاغة والاُسلوب .
وهي: أنّ الجملة أو السورة المشتملة على القصّة يمكن التعبير عنها بعبارات مختلفة تؤدّي المعنى ، ولابدّ أن تكون عبارة منها ينتهي إليها حسن البيان ، مع السلامة من كلّ عيب لفظيّ أو معنويّ ، فمن سبق إلى هذه العبارة أعجز غيره عن الإتيان بمثلها ; لأ نّ تأليف الكلام في اللغة لا يحتمل ذلك ، ولكنّ القرآن عبّر عن بعض المعانيوبعض القصص بعبارات مختلفة الاُسلوب والنظم، من مختصر ومطوّل،
(الصفحة 36)
والتحدّي في مثله لا يظهر في قصّة مخترعة مفتراة ، بل لابدّ من التعدّد الذي يظهر فيه التعبير عن المعنى الواحد والقصّة الواحدة بأساليب مختلفة وتراكيب متعدّدة .
رابعها : ومن الآيات الدالّة على التحدّي قوله ـ تعالى ـ : ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَـدِقِينَ) (1) .
والظاهر: أ نّها ناظرة إلى التحدّي بمجموع القرآن ; لأنّ المنساق من «الحديث» في مثل هذه الموارد هو الكتاب الكامل الجامع ، ويؤيّده توصيفه بالمثل المضاف إلى القرآن الظاهر في مجموعه .
ولو تنزّلنا عن ذلك ، فثبوت الإطلاق له بحيث يشمل ما دون سورة واحدة كجملة ونحوها في غاية الإشكال ; وإن كان مقتضى ما حكيناه عن المفسّر المتقدّم ذلك ، إلاّ أ نّه يبعّده ـ مضافاً إلى بعده في نفسه; فإنّ جملة واحدة من القرآن مشتملة على معنى ومقصود ، كيف يكون البشر عاجزاً عن الإتيان بمثلها؟! وقد عرفت(2)أ نّ بعض المفسِّرين أنكر كون بعض السور كذلك ، وإن استظهرنا من الكتاب خلافه ـ أ نّ التحدّي بسورة واحدة بعد ذلك ، كما وقع في سورة البقرة المدنيّة ، لا يبقى على هذا الفرض له مجال ، فالإنصاف أ نّ تعميم «الحديث» بحيث يشمل ما دون سورة واحدة ممّا لا يرتضيه الذوق السليم ، ولا يقتضيه التأمّل في آيات التحدّي في القرآن الكريم .
خامسها: قوله ـ تعالى ـ : ( وَ إِن كُنتُمْ فِى رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوابِسُورَة مِّن مِّثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ) (3) .
واحتمل في ضمير «مثله» أن يكون راجعاً إلى «ما» الموصولة في
- (1) سورة الطور 52 : 33 ـ 34 .
(2) في ص 28 ـ 29 .
(3) سورة البقرة 2 : 23 .
(الصفحة 37)
قوله ـ تعالى ـ : «ممّا نزّلنا» وأن يكون عائداً إلى العبد الذي هو الرسول الذي نزل عليه القرآن ، فعلى الأوّل يوافق من حيث المدلول مع الآية الكريمة المتقدّمة الواقعة في سورة يونس ، وعلى الثاني تمتاز هذه الآية من حيث ملاحظة من نزل عليه في مقام التحدّي .
والظاهر قوّة الاحتمال الأوّل; لأنّ المناسب بعد فرض الريب في الكتاب المنزل مع قطع النظر عمّن اُنزل عليه ، كما هو الظاهر من قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِن كُنتُمْ فِى رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) الدالّ على أنّ متعلّق الريب نفس ما نزل هو التحدّي بخصوص ما وقع فيه الريب ، مع عدم لحاظ الواسطة أصلاً .
ويؤيّده سائر آيات التحدّي، حيث كان مدلولها اشتمال نفس القرآن على خصوصيّة معجزة للغير عن الإتيان بمثله في جملته أو بسورة من مثله ، مع أنّ لحاظ حال الواسطة ، الذي نزل عليه الكتاب من حيث كونه اُمّيّاً ليس له سابقة تعلّم ، ولم يتربَّ في حِجر معلِّم ومربٍّ أصلاً ، ربّما يشعر بإشعار عرفيّ بأنّ الكتاب من حيث هو لا يكون بمعجز ، بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله وإن كان بالغاً في العلم ما بلغ .
وبالجملة: فالظاهر عود الضمير إلى الكتاب ، لا إلى من نزل عليه ، وعلى تقديره ، فالوجه في التعرّض له في هذه الآية يمكن أن يكون على ما في بعض التفاسير ; من أنّه لمّا كان كفّار المدينة الذين يوجّه إليهم الاحتجاج أوّلاً وبالذات هم اليهود ، وهم يعدّون أخبار الرسل في القرآن غير دالّة على علم الغيب; تحدّاهم بسورة من مثل النبيّ (صلى الله عليه وآله) في اُمّيته ، ليشمل ذلك وغيره ، مع بقاء التحدّي المطلق بسورة واحدة مثله على إطلاقه غير مقيّد بكونه من مثل محمّد (صلى الله عليه وآله) (1) .
- (1) تفسير القرآن العظيم ، المعروف بـ «تفسير المنار»: 1 / 173 .