(الصفحة 337)
الشبهة الخامسة
للقائل بالتحريف ما سمّي ـ كما في كلام بعض(1) ـ بدليل الاعتبار ، والغرض منه أ نّ الاعتبار يساعد على التحريف; نظراً إلى أنّ ملاحظة بعض الآيات،وعدم ارتباط أجزائها ـ صدرها وذيلها ، أو شرطها وجزائها ـ تشعر بل تدلّ على وقوع التحريف وتحقّق النقص بين الأجزاء ; لوضوح أ نّه لا يمكن الالتزام بعدم الارتباط بين أجزاء آية واحدة ، فعدمه يكشف لا محالة عن نقص كلمة أو جملة مصحّحة للارتباط ومكمّلة للتناسب بين الأجزاء ، والتلائم بين الصدر والذيل أو الشرط والجزاء .
ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَـمَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـثَ وَرُبَـعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَ حِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ ذَ لِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ) (2); فإنّ خوف عدم رعاية القسط في اليتامى لا يرتبط بنكاح النساء وتعدّد الأزواج بوجه ، فلابدّ من الالتزام بوقوع السقط بين هذا الشرط والجزاء .
ويؤيّده ما رواه في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب الزنديق الذي سأله عن ذلك ، قال (عليه السلام) : وأ مّا ظهورك على تناكر قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ . . .) الآية . وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء ، ولا كلّ النساء أيتام ، فهو ممّا قدّمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن ، وبين القول في اليتامى ، وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن . . .(3) .
- (1) كفاية الاُصول: 284 ـ 285 ، حجّية ظاهر الكتاب .
(2) سورة النساء 4 : 3 .
(3) الاحتجاج 1 : 598 ، وعنه بحار الأنوار 92: 47 وج93: 107ـ 121 . وانظر فصل الخطاب للمحدّث النوري ، الورقة السادسة ما قبل نهاية كتابه هذا: 369 ، حيث يقول: ولنختم الكتاب بذكر كلام إلخ، ثمّ أورد هذه الشبهة.
(الصفحة 338)
والجواب عن هذه الشبهة: يظهر بالمراجعة إلى التفاسير ; فإنّه بسببها يظهر أنّه لم ينقل عن أحد من المفسِّرين من الصدر الأوّل إلى الأزمنة المتأخّرة إنكار الارتباط في مثل الآية المذكورة ، وينبغي نقل ما أفاده الطبرسي في «مجمع البيان» في شأن نزول الآية ، وكيفيّة الارتباط بين صدرها وذيلها وشرطها وجزائها ممّا نقله عن أعلام المفسّرين .
فنقول: قال فيه:
«اختلف في سبب نزوله وكيفيّة نظم محصوله واتّصال فصوله على أقوال:
أحدها: أ نّها نزلت في اليتيمة تكون في حِجر وليّها ، فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها ، فنُهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ في إكمال مهور أمثالهنّ ، واُمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء إلى أربع ، عن عائشة.
وروي ذلك في تفسير أصحابنا وقالوا: إنّها متّصلة بقوله: ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـبِ فِى يَتَـمَى النِّسَآءِ الَّـتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ(1)* وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوافِى الْيَتَـمَى) الآية ، وبه قال الحسن والجبائي والمبرّد .
ثانيها: أ نّها نزلت في الرجل منهم كان يتزوّج الأربع أو الخمس أو الستّ والعشر ويقول : ما يمنعني أن أتزوّج كما يتزوّج فلان ، فإذا فني مالُه مالَ على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه ، فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلاّ يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ، وإن خافوا ذلك مع الأربع أيضاً اقتصروا على واحدة ، عن ابن عبّاس وعكرمة .
(الصفحة 339)
ثالثها : أ نّهم كانوا يشدّدون في أموال اليتامى ولا يشدّدون في النساء ، ينكح أحدهم النسوة فلا يعدل بينهنّ ، فقال ـ تعالى ـ : كما تخافون ألاّ تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا واحدة إلى أربع ، عن سعيد بن جبير والسدّي وقتادة والربيع والضحّاك ، وفي إحدى الروايتين عن ابن عبّاس .
رابعها : أ نّهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيماناً وتصديقاً ، فقال ـ سبحانه ـ : إن تحرّجتم من ذلك فكذلك تحرّجوا من الزناء وانكحوا النكاح المباح من واحدة إلى أربع ، عن مجاهد .
خامسها : ما قالها الحسن : إن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتيمة المربّاة في حجوركم ، فانكحوا ما طاب لكم من النساء ممّا أحلّ لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع ، وبه قال الجبائي : الخطاب متوجّه إلى وليّ اليتيمة إذا أراد أن يتزوّجها .
سادسها : ما قاله الفرّاء: إن كنتم تتحرّجون عن مواكلة اليتامى فتحرّجوا من الجمع بين النساء وأن لا تعدلوا بين النساء ، ولا تتزوّجوا منهنّ إلاّ من تأمنون معه الجور . قال القاضي أبو عاصم: القول الأوّل أولى وأقرب إلى نظم الآية ولفظها(1) . انتهى ما في مجمع البيان .
وقد ظهر لك من ذلك اتّفاق المفسِّرين من الصدر الأوّل على تحقّق الارتباط والاتّصال بين الشرط والجزاء في الآية الكريمة ، وإن اختلفوا في وجهه وبيان كيفيّته ، ولكن أصله مفروغ عنه عندهم .
ثمّ لو سلّم عدم إحاطتنا على الارتباط بينهما ، فهو لا يلازم القول بالتحريف ، فلِمَ لا تكون الآية حينئذ من المتشابهات التي يكون علمها عند أهلها ; الذين هم
- (1) مجمع البيان: 3 / 13ـ 14 .
(الصفحة 340)
الراسخون في العلم؟ لعدم قيام دليل على كون الآية من المحكمات التي تتّضح دلالتها ويفهم مرادها ، كما لا يخفى .
فانقدح من جميع ذلك بطلان هذا الدليل الذي سُمّي بدليل الاعتبار ، بل الاعتبار يساعد بل يدلّ على عدم التحريف (1); لما مرّ مراراً(2) من أنّ القرآن هي المعجزة الخالدة الوحيدة ، وكان من حين النزول متّصفاً بهذه الصفة ، معروفاً بين المسلمين بهذه الجهة ; للتناسب بين استمرار الشريعة إلى يوم القيامة ، وبين كون المعجزة هو الكتاب الصالح للبقاء والقابل للدوام ، ومن الواضح في مثل ذلك الذي ليس له مثل ، اهتمام المسلمين بحفظه في الصدور والكتب ; ليبقى الدين ببقائه ، وتحفظ الشريعة في ظلِّه ، فكيف يمكن مع ذلك وصول يد التحريف إلى مقامه الشامخ وبلوغ الجناية إلى محلّه الرفيع ؟! بل وكيف يمكن مع حفظ الله الذي نزّله لغرض الهداية إلى يوم القيامة لجميع الاُمّة ؟! وكيف يرتضي المسلمون بذلك؟
فالاعتبار دليل قطعيّ على عدم التحريف .
النتيجة:
وقد ظهر ـ بحمد الله ـ من جميع ما ذكرنا في هذا البحث أ نّ دعوى التحريف ـ بالمعنى الذي عرفت(3) أنّه محلّ البحث ومورد الكلام ـ مع أنّها مجرّد خيال ناشئ عن الاغترار بظواهر بعض الروايات من دون التأمّل في الدلالة ، أو التتبّع والتفحّص في السند ، أو عن بعض الجهات الاُخر الذي مرّت الإشارة
- (1) وقد ذكره المحدث النوري ثالث أدلّة القائلين بعدم تطرّق التغيير مطلقاً ، في الباب الثاني من كتابه بعد دليلي الآيات والأخبار[ 339 ـ 340] ، وإنّما ذكر أدلّتهم مقدّمة لردّها .
(2) في ص 38 ـ 40 و 146، 149، 172 و 289.
(3) في ص 199.
(الصفحة 341)
إليه ، قد قامت الأدلّة القاطعة والحجج الواضحة والبراهين الساطعة على بطلانها .
وهنا نختم البحث في هذه المسألة مع الاطمئنان بأنّه مع ملاحظة ما ذكرنا والدقّة فيه ـ خالياً عن العناد والتعصّب ، مراعياً للمنطق والإنصاف ـ لا يبقى شكّ ولا ارتياب ; وذلك لما عرفت من الأجوبة المتعدّدة الشافية الكافية عن الشبهات الخمس المتقدّمة ، مضافاً إلى الأدلّة السبعة القاطعة القائمة على عدم التحريف ، وبطلان هذا القول السخيف ، الذي يوجب تزلزل أساس الدين وتضعيف المسلمين من جهة ، وابتلاء الطائفة المحقّة والفرقة الناجية من الفرق المتعدّدة منهم بالافتراء والبهتان من جهة اُخرى .
وبتمام هذا البحث يتمّ البحث في باب ظواهر الكتاب، وبتمام البحث فيها يتمّ البحث في الأمر الأوّل من الاُمور التي يبتني عليها التفسير ، وتعدّ اُصولاً له ، كما سبق البحث في الأمرين الآخرين .
وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق ـ بعد أن كانت النسخة الأصليّة باقية في السواد سنين ـ بيد العبد المفتاق إلى رحمة ربّه الغنيّ محمّد الموحّدي اللنكراني ، الشهير بالفاضل ، ابن العلاّمة الفقيه الفقيد آية الله فاضل الموحّدي اللنكراني قدّس سرّه الشريف ، في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب المرجب من شهور سنة 1394 من الهجرة النبويّة ، المصادف لمبعثه الشريف ، وتناسب المصادفة له لا يكاد يخفى ، فإنّ غرض هذا الكتاب إثبات إعجاز الكتاب العزيز ، وكونه هي المعجزة الوحيدة الباقية المحفوظة على ما كان ، من دون حدوث تغيير فيه وتحريف عليه ، وبقائه على غرضه من إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة ، وصلاحيّته للاستناد إليه والاستضاءة بنوره والاهتداء بهدايته .
وذلك كلّه هو الغرض من البعثة ، وثبوت النعمة العظيمة التي منَّ الله بها على المؤمنين ، مع أنّ الكريم لا يمنّ بإنعامه والعظيم لا ينظر إلى إعطائه ، ولكنّ الاعتناء