(الصفحة 37)
قوله ـ تعالى ـ : «ممّا نزّلنا» وأن يكون عائداً إلى العبد الذي هو الرسول الذي نزل عليه القرآن ، فعلى الأوّل يوافق من حيث المدلول مع الآية الكريمة المتقدّمة الواقعة في سورة يونس ، وعلى الثاني تمتاز هذه الآية من حيث ملاحظة من نزل عليه في مقام التحدّي .
والظاهر قوّة الاحتمال الأوّل; لأنّ المناسب بعد فرض الريب في الكتاب المنزل مع قطع النظر عمّن اُنزل عليه ، كما هو الظاهر من قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِن كُنتُمْ فِى رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) الدالّ على أنّ متعلّق الريب نفس ما نزل هو التحدّي بخصوص ما وقع فيه الريب ، مع عدم لحاظ الواسطة أصلاً .
ويؤيّده سائر آيات التحدّي، حيث كان مدلولها اشتمال نفس القرآن على خصوصيّة معجزة للغير عن الإتيان بمثله في جملته أو بسورة من مثله ، مع أنّ لحاظ حال الواسطة ، الذي نزل عليه الكتاب من حيث كونه اُمّيّاً ليس له سابقة تعلّم ، ولم يتربَّ في حِجر معلِّم ومربٍّ أصلاً ، ربّما يشعر بإشعار عرفيّ بأنّ الكتاب من حيث هو لا يكون بمعجز ، بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله وإن كان بالغاً في العلم ما بلغ .
وبالجملة: فالظاهر عود الضمير إلى الكتاب ، لا إلى من نزل عليه ، وعلى تقديره ، فالوجه في التعرّض له في هذه الآية يمكن أن يكون على ما في بعض التفاسير ; من أنّه لمّا كان كفّار المدينة الذين يوجّه إليهم الاحتجاج أوّلاً وبالذات هم اليهود ، وهم يعدّون أخبار الرسل في القرآن غير دالّة على علم الغيب; تحدّاهم بسورة من مثل النبيّ (صلى الله عليه وآله) في اُمّيته ، ليشمل ذلك وغيره ، مع بقاء التحدّي المطلق بسورة واحدة مثله على إطلاقه غير مقيّد بكونه من مثل محمّد (صلى الله عليه وآله) (1) .
- (1) تفسير القرآن العظيم ، المعروف بـ «تفسير المنار»: 1 / 173 .
(الصفحة 38)
ولكن هذا الوجه مبنيّ على كون وجه التحدّي في الآية إرادة نوع خاصّ من الإعجاز ، مع أنّه لم يثبت بل الظاهر من الآية خلافه ، فتدبّر جيّداً .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام : أ نّ اتّصاف القرآن بأنّه معجز ممّا يدلّ عليه الآيات المشتملة على التحدّي ، وأ نّ مقتضاها اتّصاف كلّ سورة من سوره بذلك من دون فرق بين الطويلة والقصيرة ، وأ مّا ما دون السورة فلم يظهر من شيء من هذه الآيات الكريمة كونه كذلك ، وأ مّا وجه الإعجاز ، وأ نّ إعجازه عامّ ومن جميع الجهات ، أو خاصّ ومن بعض الجهات ، فسيأتي(1) التعرّض له إن شاء الله تعالى .
القرآن معجزة خالدة
من الحقائق التي لا يشكّ فيها مسلم ، بل كلّ من له أدنى مساس بعالم الأديان من الباحثين والمطّلعين; أنّ الكتاب العزيز هو المعجزة الوحيدة الخالدة ، والأثر الفرد الباقي بعد النبوّة ، ولابدّ من أن يكون كذلك ; فإنّه بعد اتّصاف الدين الإسلامي بالخلود والبقاء ، وتلبّس الشريعة المحمّدية بلباس الخاتميّة والدوام ، لا محيص من أن يكون بحسب البقاء ـ إثباتاً ـ له برهان ودليل ; فإنّ النبوّة والسفارة كما تحتاج في أصل ثبوتها ابتداءً إلى الإعجاز ، والإتيان بما يخرق العادة وناموس الطبيعة ، كذلك يفتقر في بقائها إلى ذلك ، خصوصاً إذا كانت دائميّة باقية ببقاء الدهر .
ومن المعلوم أنّ ما يصلح لهذا الشأن ليس إلاّ الكتاب ، ويدلّ هو بنفسه على ذلك في ضمن آيات كثيرة :
منها: قوله ـ تعالى ـ : ( قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا ) (2) .
- (1) في ص 41 ـ 42 .
(2) سورة الإسراء 17 : 88 .
(الصفحة 39)
فإنّ التحدّي في هذه الآية عامّ شامل لكلّ من الإنس والجنّ ، أعمّ من الموجودين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل الظاهر الشمول للسابقين عليه أيضاً ، وعموم التحدّي دليل على خلود الإعجاز كما هو ظاهر .
ومنها: قوله ـ تعالى ـ : (الر كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَ طِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (1) .
فإنّ إخراج الناس الظاهر في العموم من الظلمات إلى النور بسبب الكتاب النازل ، كما تدلّ عليه لام الغاية ، لا يكاد يمكن بدون خلود الإعجاز ; فإنّ تصدّي الكتاب للهداية بالإضافة إلى العصور المتأخّرة إنّما هو فرع كونه معجزة خالدة ; ضرورة أنّه بدونه لا يكاد يصلح لهذه الغاية أصلاً .
ومنها: قوله ـ تعالى ـ : (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَــلَمِينَ نَذِيرًا ) (2) .
فإنّ صلاحيّة الفرقان للإنذار كما هو ظاهر الآية بالنسبة إلى العالمين ، الظاهرة في الأوّلين والآخرين ، لا تتحقّق بدون الاتّصاف بخلود الإعجاز ، كما هو واضح .
ودعوى انصراف لفظ «العالمين» إلى خصوص الموجودين ، كما في قوله ـ تعالى ـ في وصف مريم: (وَاصْطَفَـئـكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَــلَمِينَ ) (3) ; ضرورة عدم كونها مصطفاة على جميع نساء الأوّلين والآخرين ، الشاملة لمن كان هذا الوصف مختصّاً بها ، وهي فاطمة الزهراء سلام الله عليها .
مدفوعة : بكون المراد بالعالمين في تلك الآية أيضاً هو الأوّلين والآخرين ،
- (1) سورة إبراهيم 14 : 1 .
(2) سورة الفرقان 25 : 1 .
(3) سورة آل عمران 3 : 42 .
(الصفحة 40)
غاية الأمر أنّ المراد بالاصطفاء فيها ـ كما تدلّ عليه الرواية المعتبرة(1) ـ هو الولادة من غير بعل ، ومن الواضح اختصاص هذه المزيّة بمريم ، وانحصارها بها ، وعدم مشاركة أحد من النساء لمريم فيها .
وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في كون المراد من العالمين في آية الفرقان ليس خصوص الموجودين في ذلك العصر .
ومنها: غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يستفاد منها ذلك ، ولا حاجة إلى التعرّض لها بعد وضوح الأمر وظهور المطلوب .
عدم اختصاص إعجاز القرآن بوجه خاصّ
لا يرتاب ذو مسكة في اختلاف طبقات الناس وتنوّع أفراد البشر في اجتناء الكمالات العلميّة المختلفة ، وحيازة الفنون المتشتّتة . والوجه في ذلك ـ مضافاً إلى افتقار تحصيل كلّ واحدة منها إلى صرف مؤونة الزمان ، وغيره من المقدّمات الكثيرة والأسباب المتعدّدة ـ اختلافهم بحسب النظر والتفكّر وتفاوتهم بلحاظ الذوق والعلاقة ، فترى بعضهم يشتري بعمره الطويل الوصول إلى العلوم الصناعيّة ، وبعضاً آخر يتحمّل مشقّات فوق الطاقة العاديّة لتحصيل علم الفلسفة مثلاً ، وهكذا سائر العلوم والمعارف المادّية والمعنويّة ، بل اتّساع دائرة جميع العلوم اقتضى انقسام كلّ واحدة منها إلى شعب وأقسام ، بحيث لا يكاد يوجد من حازه بجميع شعبه وناله بتمام أقسامه .
وهذا كما في علم الطبّ في هذه الأزمنة والعصور المتأخِّرة ; فإنّه لا يوجد واحد مطّلع على جميع شؤونه المتكثّرة وشعبه المتعدّدة ، بل بعد صرف زمان طويل
- (1) تفسير القمي: 1 / 102 ، التبيان في تفسير القرآن: 2 / 456 ـ 457 ، وفي بحار الأنوار: 14/12 قطعة من ح8 عن تفسير القمّي .
(الصفحة 41)
وتهيئة مقدّمات كثيرة قد يقدر على الوصول إلى بعض شعبه ، وحصول المهارة الكاملة في خصوص تلك الشعبة ، كما نراه بالوجدان .
وبالجملة: ما ذكرناه في اختلاف طبقات البشر ، واتّساع دائرة كلّ واحد من العلوم ، بحيث لا يكاد يمكن الوصول إلى واحد بتمام شؤونه ، فكيف الجميع ممّا لا حاجة في إثباته إلى بيِّنة وبرهان ، بل يكفي في تصديقه مجرّد ملاحظة الوجدان؟!
وحينئذ نقول: إنّ الكتاب العزيز ، والقرآن المجيد حيث يكون الغرض من إنزاله ، والغاية من إرساله اهتداء عموم الناس ، وخروجهم من الظلمات إلى النور ، كما صرّح هو بذلك في الآية المتقدّمة من سورة إبراهيم .
والظاهر كما عرفت عدم اختصاص الناس بخصوص الموجودين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لأ نّه كما تقدّم معجزة خالدة إلى يوم القيامة ، مضافاً إلى أ نّه كتاب جامع لجميع الكمالات المعنويّة ، والفضائل الروحيّة ، والقوانين العمليّة ، والدستورات الكاملة الدنيويّة ، حيث إنّه يتضمّن البحث عن الاُصول الاعتقاديّة المطابقة للفطرة السليمة ، وعن الفضائل الأخلاقيّة ، والقوانين الشرعيّة ، والقصص الماضية ، والحوادث الآتية ، وبالتالي عن جميع الموجودات الأرضيّة والسماويّة ، وجميع الحالات والعوالم ، وكلّ ما له دخل في سعادة الإنسان في الدار الفانية والدار الباقية ، فمثل هذا الكتاب الذي ليس كمثله كتاب كيف يمكن أن يكون إعجازه من وجه خاصّ ، مع كونه واقعاً قبال جميع البشر ، بل والجنّ أيضاً ؟!
والذي ينادي بذلك بأعلى صوته قوله ـ تعالى ـ :
( قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا ) (1)
- (1) سورة الإسراء 17 : 88 .