(الصفحة 49)
فمن هذه الخصوصيّة التي لا يعقل أن تتحقّق في البشر ، والكتاب الذي من عنده تستكشف خصوصيّة اُخرى ; وهي نزوله من عند الله العالم القادر المحيط ، كما هو واضح .
نعم ، ربما يمكن أن يتوهّم أ نّ القرآن لا يكون تبياناً لكلّ شيء ; لأنّا نرى عدم تعرّضه لكثير من المسائل المهمّة الدينيّة ، والفروع الفقهيّة العمليّة ، فضلاً عمّا ليس له مساس بالدين ، وليس بيانه من شأن الله ـ تبارك وتعالى ـ بما هو شارع وحاكم ; فإنّ مثل أعداد ركعات الصلاة التي هي عمود الدين(1)، معراج المؤمن ـ على ما روي ـ لا يكون مذكوراً في الكتاب العزيز ، مع أنّها من الأهمّية بمثابة تكون الزيادة عليها والنقص عنها قادحة مبطلة ، فضلاً عن خصوصيّات سائر العبادات والأعمال من الصوم والزكاة والحجّ وغيرها . وعليه: فكيف يصف القرآن نفسه ويعرّفه بأنّه تبيان كلّ شيء؟!
والجواب عن هذا التوهّم : أ نّ شأن الكتاب إنّما هو بيان الكلّيات ورؤوس المطالب . وأ مّا الجزئيّات والخصوصيّات، فإنّما تستكشف من طريق الرسول ، الذي فرض القرآن نفسه الأخذ بما آتاهم ، والانتهاء عمّا نهاهم بقوله ـ تعالى ـ : (وَ مَآ ءَاتَـئـكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَـئـكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (2) ، ففي الحقيقة أ نّ كون القرآن تبياناً أعمّ من أن يكون تبياناً للشيء بنفسه ، أو بواسطة الرسول الذي نزّل عليه القرآن .
- (1) المحاسن: 1 / 116 ح117 عن أبي جعفر (عليه السلام) ، وعنه وسائل الشيعة: 4 / 27 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ب 7 ح 12 ، وبحار الأنوار: 82 / 218 ح36 ، ومستدرك الوسائل: 3 / 31 ب8 ح2943 ، وفي وسائل الشيعة: 4 / 34 ب8 ح13 عن تهذيب الأحكام: 2 / 237 ح936 ، وفي بحار الأنوار: 82 / 232 ح57 ومستدرك الوسائل: 3 / 29 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ب7 ح2935 ، عن دعائم الإسلام: 1 / 133 ، ورواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 10 / 206 مرسلاً .
(2) سورة الحشر 59 : 7 .
(الصفحة 50)
ومن الآيات التي يمكن أن يستدلّ بها على التحدّي بالعلم ، قوله ـ تعالى ـ : (وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين) (1) بناءً على كون المراد بالكتاب المبين هو القرآن المجيد ، وكون المراد بالرطب واليابس المنفيّين هو علم كلّ شيء بحيث تكون الآية كناية عن الإحاطة العلميّة ، والبيان الكامل الجامع ، فيرجع المراد إلى ما في الآية المتقدّمة من كون الكتاب جامعاً لعلم الأشياء ، وحاوياً لبيان كلّ شيء .
لكنّ الظاهر أ نّه ليس المراد بالكتاب المبين هو القرآن ، بل شيئاً آخر يكون فيه جميع الموجودات والأشياء بأنفسها ، ويؤيّده صدر الآية ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ) (2) وكذا تعلّق النفي بنفس الرطب واليابس الظاهرين في أنفسهما ، لا في العلم بهما ، وكذا عدم اختصاص النفي بهما ، بل تعلّقه بالحبّة التي في ظلمات الأرض ; لأنّ الاستثناء يتعلّق به أيضاً ، فلابدّ من الالتزام بكون المراد بها هو العلم بالحبّة أيضاً ، وهو خلاف الظاهر جدّاً .
وعليه: يكون مفاد الآية أجنبيّاً عمّا نحن بصدده ; لأنّ مرجعه إلى ثبوت الأشياء الموجودة بأنفسها في الكتاب الذي هو بمنزلة الخزينة لها .
نعم ، يبقى الكلام في المراد من ذلك الكتاب ، وأ نّه هل هو عبارة عن صفحة الوجود المشتملة على أعيان جميع الموجودات ، أو أمر آخر يغاير هذا الكون ، ثابتة فيه الأشياء نوعاً من الثبوت ، كما يشير إليه قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِن مِّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَّعْلُوم ) ؟(3) .
وعلى أيٍّ لا يرتبط بالمقام الذي يدور البحث فيه حول الكتاب بمعنى القرآن المجيد الذي يكون معجزة .
- (1) سورة الأنعام 6 : 59 .
(2) سورة الأنعام 6 : 59 .
(3) سورة الحجر 15: 21 .
(الصفحة 51)التحدّي بالإخبار عن الغيب
قد وقع في الكتاب التحدّي بالإخبار عن الغيب في آيات متعدّدة ، ونفس الإخبار بالغيب في آيات كثيرة ، ففي الحقيقة الآيات الواردة في هذا المجال على قسمين:
قسم وقع فيها التحدّي بنفس هذا العنوان ، وهو الإخبار والإنباء بالغيب .
وقسم وقع فيها مصاديق هذا بعنوان من دون الاقتران بالتحدّي .
وقبل الورود في ذكر القسمين والتعرّض لمدلول النوعين لابدّ من التنبيه على أمرين:
الأمر الأوّل : أ نّ المراد بالغيب في هذا المقام هو ما لايدركه الإنسان ولا يناله من دون الاستعانة من الخارج ، ولو أعمل في طريق الوصول إليه جميع ما أعطاه الله ـ تعالى ـ من القوى الظاهرة والباطنة ، فهو شيء بينه وبين الإنسان بنفسه حجاب ، ولابدّ من الاستمداد من الغير في رفع ذلك الحجاب ، وكشف ذلك الستار . وعليه: فالحادثة الواقعة الماضية ، والقضيّة الثابتة المتصرّمة تعدّ غيباً بالإضافة إلى الإنسان ; لأ نّه لا يمكن له أن يطّلع عليها ، ويصل إليها من طريق شيء من الحواسّ والقوى ، حتّى القوّة العاقلة المدركة ; فإنّ وجود تلك الحادثة وعدمها بنظر العقل سواء; لعدم كون حدوثها موجباً لانخرام شيء من القواعد العقليّة ، كما هو المفروض ، ولا كون عدمها مستلزماً لذلك كذلك ، وإلاّ لا يكاد يمكن أن تتحقّق على الأوّل ، أو لا تتحقّق على الثاني .
كما أنّه بناءً على ما ذكر في معنى الغيب في المقام لا يكون ما يدركه العقل السليم والفطرة الصحيحة من الحقائق من الغيب بهذا المعنى الذي هو المقصود في المقام ، فوجود الصانع ـ جلّ وعلا ـ لا يعدّ من المغيبات هنا ; لأنّ للعقل إليه طريقاً بل طرقاً كثيرة ، ولا حاجة له في الوصول إليه تعالى، والاعتقاد بوجوده إلى الاستمداد
(الصفحة 52)
من الغير ، والاستعانة من الخارج .
وبالجملة: فالغيب في المقام ليس المراد به هو الغيب في مثل قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (1) ، بل المراد به هو الغيب في مثل قوله ـ تعالى ـ : (وَعِندَهُو مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ) (2) .
لا أقول: إنّ للغيب معان مختلفة ; فإنّه من الواضح الذي لا يرتاب فيه عدم كون لفظ الغيب مشتركاً بين معان متعدّدة ; فإنّه في مقابل الشهود الذي لا يكون له معنى واحد ، غاية الأمر اختلاف موارد الاستعمال باختلاف الأغراض والمقاصد بحسب المصاديق والأفراد ، كما لا يخفى .
الأمر الثاني: أنّ دلالة الإخبار بالغيب على الإعجاز تظهر ممّا ذكرناه في معنى الغيب ; فإنّه بعدما لم يكن للإنسان سبيل إلى الاطّلاع على المغيبات من قبل نفسه; لعدم الملاءمة بينه بقواه الظاهرة والباطنة ، وبين الاطّلاع عليها بدون الاستعانة والاستمداد ، فإذا فرضنا إنساناً أتى بكتاب مشتمل على الإخبار بالغيب ، وعلمنا عدم اطّلاعه عليها من قبل نفسه ، والجماعة التي هو فيهم ومعهم; نعلم جزماً بانحصار طريق الوصول إليه في مبدإ الوحي ، ومخزن الغيب ، ومن عنده مفاتيحه ولا يعلمها إلاّ هو ، وبه يتحقّق التحدّي الموجب للإعجاز .
إذا عرفت ما ذكرنا من الأمرين ، فنقول:
من القسم الأوّل من الآيات: قوله ـ تعالى في قصّة مريم ـ : (ذَ لِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَـمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (3)، وقوله ـ تعالى ـ : (تِلْكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا
- (1) سورة البقرة 2 : 3 .
(2) سورة الأنعام 6 : 59 .
(3) سورة آل عمران 3 : 44 .
(الصفحة 53)
كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَ لاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا) (1) ، وقوله ـ تعالى ـ بعد ذكر قصة يوسف : (ذَ لِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ ) (2) .
ومن القسم الثاني : آيات كثيرة متعدّدة واقعة في موارد مختلفة:
منها: قوله ـ تعالى ـ : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَـكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (3) .
فإنّ هذه الآيات نزلت بمكّة في ابتداء ظهور الإسلام ، وبدء دعوة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والسبب في نزولها ـ على ما حكي ـ أنّه مرّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) على اُناس بمكّة فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون: هذا الذي يزعم أنّه نبيّ ، ومعه جبرئيل . . .(4)، فأخبرت الآية عن نصرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) في دعوته ، وكفاية الله المستهزئين والمشركين في زمان كان من الممتنع بحسب العادة انحطاط شوكة قريش ، وانكسار سلطانهم ، وغلبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين وعلوّهم ، وقد كفاه الله أشرف كفاية ، وبان للمستهزئين ، وعلموا ما في قوله ـ تعالى في آخر الآية ـ: ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) .
ومن هذا القبيل قوله ـ تعالى ـ في سورة الصفّ المكّية ـ الواردة في مثل الحال المذكور ، والشأن الذي وصفناه من طغيان الشرك ، وسلطان المشركين في بدء الدعوة الإسلامية ـ : (هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُو بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِوَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (5) .
- (1) سورة هود 11 : 49 .
(2) سورة يوسف 12 : 102 .
(3) سورة الحجر 15 : 94 ـ 96 .
(4) جامع البيان في تفسير القرآن: 14 / 88 ـ 92 ح21418ـ 21431 ، الكشّاف: 2 / 591 ، مجمع البيان في تفسير القرآن: 6 / 124ـ 125 ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 1 / 547 .
(5) سورة التوبة 9 : 33 ، وسورة الصف 61 : 9 .