(الصفحة 59)
يعترض على كتاب فقهيّ ـ ككتاب التذكرة للعلاّمة الحلّي ـ : ائت بمثله ، إلاّ إذا كان له حظّ وافر من الفقه ، وسهم كامل من ذلك العلم ، فتوجيه هذا النحو من الخطاب إنّما ينحصر حسنه في مورد خاصّ . وعليه: فدعوة الناس إلى الإتيان «بسورة مثل القرآن» ، أو «بعشر سور مثله» مع انحصار فضيلتهم في البلاغة ، إنّما يكون الغرض منها الدعوة إلى الإتيان بمثله في البلاغة التي كانت العرب تمتاز بها ، فوجه الشبه في الآيتين وإن لم يصرّح به فيهما ، ولم يقع التعرّض له ، إلاّ أنّه بملاحظة ما ذكرنا ينحصر بالبلاغة ليحسن توجيه مثل هذا الخطاب، كما عرفت .
بل قد مرّ سابقاً(1) أ نّه يمكن أن يقال: إنّ توصيف عشر سور بوصف كونها مفتريات ، لا يكاد ينطبق ظاهراً إلاّ على المزايا الراجعة إلى الألفاظ ، من دون ملاحظة المعاني وعلوّها ، وعلى الخصوصيات التي تشتمل عليها العبارات ، من دون النظر إلى المطالب وسموّها ، وبهذا الوجه قد تفصّينا عن إشكال مخالفة الترتيب الطبيعي الواقعة في آيات التحدّي بمقتضى النظر البدوي ، كما عرفته مفصّلاً .
وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في أنّ العناية في الآيتين إنّما هي بموضوع البلاغة فقط، مع أنّ كون البلاغة من أعظموجوه الإعجاز لايحتاج إلى التصريح به في الكتاب، بل يحصل العلم به بالتدبّر في كون الكتاب معجزة عظيمة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وأ نّه لماذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء(2) ، وعيسى بن مريم بآلة الطبّ (3) ، ومحمّداً (صلى الله عليه وآله) بالكلام والخطب؟ (4) ، مع أنّ المعتبر في حقيقة الإعجاز هو كون المعجز أمراً خارقاً للعادة البشريّة ، والنواميس الطبيعيّة ، كما عرفت تفصيل الكلام فيه .
- (1) في ص 34 ـ 35 .
(2) سورة الأعراف 7: 107 ـ 108 ، 115 ـ 117 ، سورة طه 20 : 17 ـ 22 ، 65 ـ 69 ، سورة الشعراء 26 : 43 ـ 45.
(3) سورة آل عمران 3: 49 ، سورة المائدة 5: 110 .
(4) كما في الرواية الآتية في هامش ص 61 ـ 62 .
(الصفحة 60)
وعليه: فتخصيص كلّ واحد منهم بقسم خاصّ ونوع مخصوص إنّما هو لأجل نكتة ; وهي رعاية الإعجاز الكامل ، والمعجزة الفاضلة ذات المزيّة الزائدة على ما يكون معتبراً في الحقيقة والماهيّة ; فإنّ المعجزة إذا كانت مشابهة للكمال الرائج في عصرها ، ومسانخة للفضيلة الراقية في زمانها ، تصير بذلك خير المعجزات ، وتتلبّس لأجله بلباس الكمال والفضيلة الزائدة على ما يعتبر في الحقيقة .
والسرّ في ذلك: أ نّ المعجزة المشابهة توجب سرعة تسليم المعارضين العالمين بالصنعة ، التي تشابه ذلك المعجز ; لأنّ العالم بكلّ صنعة أعرف بخصوصيّاتها ، وأعلم بمزاياها وشؤونها ; فإنّه هو الذي يعرف أ نّ الوصول إلى المرتبة الدانية منها لا يكاد يتحقّق إلاّ بتهيئة مقدّمات كثيرة ، وصرف زمان طويل ، فضلاً عن المراتب المتوسّطة والعالية ، وهو الذي يعرف الحدّ الذي لا يكاد يمكن أن يتعدّى عنه بحسب نواميس الطبيعة والقواعد الجارية .
وأ مّا الجاهل ، فبسبب جهله بمراتب تلك الصنعة ، وبالحدّ الذي يمتنع التجاوز عنه ، لا يكاد يخضع في قبال المعجز إلاّ بعد خضوع العالم بتلك الصنعة المشابهة ، وبدونه يحتمل أ نّ المدّعي قد أتى بما هو مقدور للعالم ، ويتخيّل أ نّه اعتمد على مبادئ معلومة عند أهلها . وعليه: فإذا كانت المعجزة مشابهة للصنعة الرائجة والفضيلة الشائعة ، يوجب ذلك أي التشابه والمسانخة سرعة تسليم العالمين بتلك الصنعة ، وبتبعهم الجاهلون ، فيتحقّق الغرض من الإعجاز بوجه أكمل ، وتحصل النتيجة المطلوبة بطريق أحسن .
إذا ظهر لك ذلك يظهر الوجه في اختصاص كلّ نبيّ بمعجزة خاصّة ، وقسم مخصوص ، وأ نّه حيث كان الشائع في زمان موسى ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ السحر ، وكان القدر والفضيلة إنّما هو للعالم العارف بذلك العلم ، وبلغ ارتقاؤهم في
(الصفحة 61)
هذا العلم إلى مرتبة وصف الله تعالى سحرهم بالعظمة (1); لأ نّه كاشف عن بلوغهم إلى المراتب العالية ، والدرجات الكاملة ، بعث الله ـ تبارك وتعالى ـ رسوله بمعجزة مسانخة للعلم الشائع الرائج ، وعبّر الكتاب العزيز عن تأثير تلك المعجزة بمجرّد الرؤية والمشاهدة ، بأنّه ( وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـجِدِينَ ) (2) ، فخضعوا قبالها لمّـا رأوها ، ورأوا أنّ ذلك فائق على القدرة البشريّة ، وخارق للقواعد والنواميس الجارية .
وحيث كان الشائع في زمان عيسى ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ ومحلّ دعوته الطبّ ، ومعالجة المرضى ، وتوجّه الناس إلى هذا العلم توجّهاً كاملاً وصار هذا ملاكاً للقدر والفضيلة ، ومناطاً للكمال والمزيّة ; بعث الله نبيّه بمعجزة مشابهة فائقة ، وهو إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى(3) .
وحيث كان الرائج في محيط الدعوة الإسلاميّة علم البلاغة ـ على ما عرفت ـ في الأمر الأوّل(4) ، بعث الله نبيّه الخاتم (صلى الله عليه وآله) بكتاب جامع كامل ، مسانخ للعلم الرائج ، فائق على جميع المراتب التي في إمكانهم ، وتمام المدارج المقدورة لهم ; ليخضعوا دونه بعد ملاحظة تفوّقه على المستوي المقدور ، وخروجه عن دائرة الإحاطة البشريّة والعلم الإنساني (5) .
- (1) سورة الأعراف 7 : 116 .
(2) سورة الأعراف 7 : 120 .
(3) سورة آل عمران 3 : 49 ، سورة المائدة 5 : 110 .
(4) في ص 57 ـ 58 .
(5) روي عن ابن السكيت أنّه قال لأبي الحسن الرضا(عليه السلام) : «لماذا بعث الله موسى بن عمران(عليه السلام) بالعصا ، ويده البيضاء ، وآلة السحر ، وبعث عيسى بآلة الطب ، وبعث محمداًـ صلّى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء ـ بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن(عليه السلام) : إنّ الله لمّا بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجّة عليهم . وإنّ الله بعث عيسى(عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج الناس إلى الطب ، فأتاهم من عند الله بمالم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجّة عليهم . وإنّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال: الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجّة عليهم . .» ، الكافي 1: 24 كتاب العقل والجهل ح20 ، وعنه بحار الأنوار: 17 / 210 ح15 .
(الصفحة 62)
فانقدح من جميع ذلك: أنّ العناية بخصوص البلاغة لا تحتاج في الاستدلال عليها إلى وقوع التحدّي بها في نفس الكتاب العزيز ، كسائر المزايا التي وقع التحدّي بها فيه ، بل تظهر بالتأمّل في تخصيص النبيّ (صلى الله عليه وآله) بهذه المعجزة ، مع ملاحظة معجزات سائر الأنبياء المتقدّمين .
نعم ، لا ينحصر وجه التخصيص فيما ذكر ; لأنّ له وجهاً آخر يعرف ممّا تقدّم ; وهو: أنّ معجزة الخاتم لابدّ وأن تكون باقية إلى يوم القيامة ; لأنّه كما أنّ الحدوث يحتاج إلى الإثبات من طريق الإعجاز كذلك البقاء يفتقر إليه أيضاً ، لا بمعنى أنّ الحدوث والبقاء أمران يحتاجان إلى المعجزة ، ولابدّ من الإتيان بها لكلّ منهما ، بل بمعنى أنّ النبوّة الباقية لابدّ وأن تكون في بقائها غير خالية عن الإعجاز ; ليصدّقها من لم يدرك النبيّ ولم يشاهده .
ومن الواضح: أنّ ما يمكن أن يكون باقياً إنّما هو من سنخ الكتاب ; ضرورة أ نّ مثل انشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ، وما يشابههما من المعجزات(1) ـ ممّا لا يتّصف بالبقاء ، بل يوجد وينعدم ـ لا يمكن أن يكون معجزة بالإضافة إلى البقاء ، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ التواتر القطعي بالنسبة إلى كلّ طبقة وكلّ فرد ، ومع ذلك لا يكاد يترتّب عليه الغرض المهمّ ، فالكتاب المستظهر بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّـا لَهُو لَـحَـفِظُونَ ) (2) معجـزة وحيـدة بالإضافـة إلى البقـاء والخلود ، كما
- (1) اُنظر حول معجزاته (صلى الله عليه وآله) كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى: 1 / 55 ـ 59 ب 2 في ذكر آياته ومعجزاته ، والسيرة النبويّة لابن هشام 1: 250 ، وج2 / 16 ـ 17 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17 :126 ، وبحار الأنوار: 17 / 225ـ 421 ، الميزان فى تفسير القران 19 : 55 . في تفسير سورة القمر ، ويراجع ص89 ـ 91 .
(2) سورة الحجر 15 : 9 .
(الصفحة 63)
مرّ(1) البحث في ذلك في توصيف القرآن بخلود الإعجاز .
ثمّ إنّ ها هنا إشكالاً ; وهو: أنّ البلاغة لا يمكن أن تكون من وجوه الإعجاز ، ولا ينطبق عليها المعجز بما اعتبر في معناه الاصطلاحي المتقدّم في أوائل البحث; لأنّه كما عرفت يتقوّم بكونه خارقاً للعادة ، فائقاً على ناموس الطبيعة ، والبلاغة ليس فيها هذه الخصوصيّة التي بها قوام الإعجاز .
وتوضيح ذلك يتوقّف على أمرين:
أحدهما : أ نّ دلالة الألفاظ على المعاني وأماريّتها لها وكشفها عنها ليس لأمر يرجع إلى الذات ، بحيث يكون الاختصاص والدلالة ناشئاً عن ذات الألفاظ بلا مدخليّة جاعل وواضع ، بل هذه الخاصّة اعتباريّة جعليّة ، منشؤها جعل الواضع واعتبار المعتبر ، والغرض منه سهولة تفهيم الإنسان ما في ضميره ، والاستفادة منه في مقام الإفادة ، فالاختصاص إنّما ينشأ من قبل وضع الواضع ، و بدونه لامسانخة بين الألفاظ والمعاني ولادلالة لهاعليها ،وتحقيق هذاالأمر في محلّه .
ثانيهما : أ نّ الواضع ـ على ما هو التحقيق ـ هو الإنسان لا خالقه وبارؤه ; فإنّه هو الذي جعل اللفظ علامة دالّة على المعنى ; لضرورة الحاجة الاجتماعيّة ، وسهولة الإفادة والاستفادة ، والتفهيم والتفهّم .
إذا ظهر لك هذان الأمران ، ينقدح الإشكال في كون البلاغة من وجوه الإعجاز ; فإنّه إذا كان الوضع راجعاً إلى الإنسان ، مجعولاً له ، مترشّحاً من قريحته ، فكيف يمكن أن يكون التأليف الكلامي بالغاً إلى مرتبة معجزة للإنسان ، مع أنّ الدلالة وضعيّة اعتباريّة جعليّة ، ولا يمكن أن يتحقّق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة ؟!
مضافاً إلى أنّه على تقدير ثبوته وتحقّقه ، كيف يمكن تعقّل التعدّد والتنوّع للنوع