(الصفحة 72)
الطاعة في حصول الغنى في الدنيا ، والتسلّط على الناس باستعبادهم ، وتأثير المعصية في تحقّق السقوط من عين الربّ ، وسلب الأموال والشؤون المادّية ، ولأجل عدم دلالة التوراة على وجود عالم الآخرة والدعوة إلى ما يؤثّر فيه; نرى التابعين لها في مثل هذه الأزمنة غير متوجّهين إلاّ إلى الجهات الراجعة إلى عالم المادّة والغنى والمكنة ، ولا نظر لهم أصلاً إلى عالم الآخرة ، ولهم في هذا المجال قصص مضحكة مشهورة .
وفي مقابلها: شريعة الإنجيل ناظرة إلى الآخرة فقط ، ولا تعرّض فيها لصلاح حال الدنيا وشؤونها بوجه من الوجوه .
أ مّا القرآن الكريم: فقد نزل في عصر كان الحاكم عليه القوانين الرائجة بين الوثنيّة من ناحية ، وقوانين التوراة والإنجيل المحرّفة من ناحية اُخرى ، وملاحظة نظامه وتشريعه من حيث هو ـ ولا سيّما مع المقايسة لتلك القوانين الحاكمة في ذلك العصر ـ ترشد الباحث إرشاداً قطعيّاً إلى كونه نازلاً من عند الله تبارك وتعالى .
أ مّا من جهة اشتماله على نظام الدنيا ونظام الآخرة ، وتضمّنه لما يصلح في كلا العالمين ، وتكفّله لما يؤثّر في السعادتين; فلا موقع للارتياب في البين ، ويكفي في الدعوة إلى عالم الآخرة ، الذي قد عرفت أ نّه الغرض الأقصى والمطلوب الأهمّ في الأديان والشرائع الإلهيّة ، مثل :
قوله ـ تعالى ـ : (وَ ابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَـئـكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَْخِرَةَ وَ لاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (1) .
بل أنّ هذه الآية تدلّ على كلا النظامين ، وعلى أهمّية النظام الاُخروي ورجحانه على النظام الدنيوي .
(الصفحة 73)
وقوله ـ تعالى ـ : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ * وَ مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ) (1) .
خصوصاً مع ملاحظة ما حكي في شأن هذه الآية عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) من أنّها أحكم آية في القرآن (2) ، ومع ظهورها في أنّ المرئي في عالم الآخرة نفس عمل الخير والشرّ ، الظاهر في تصوّرهما بأنفسهما بالصور الخاصّة المرئيّة في ذلك العالم ، كما يدلّ عليه بعض الآيات الاُخر(3) ، وكثير من الروايات(4) ، وذلك لرجوع الضمير إلى نفس العمل كما هو ظاهر ، فتدبّر!
وأمّا من جهة انطباق قوانينه وشرائعه مع البراهين الواضحة ، والفطرة السليمة ، والأخلاق الفاضلة ، بحيث لا تبقى مع رعايتها بأجمعها وتطبيق العمل عليها ، والالتزام بعدم التخطّي عنها في الأعمال القلبيّة والخارجيّة ، والأفعال الجانحيّة والجارحيّة ، مجالٌ لشائبة النقص والقصور ، وموقعٌ لاحتمال عروض الضعف والفتور ، وبها يمكن التوسّل إلى السعادة المطلوبة ، والوصول إلى الراحة المقصودة في النشأة المادّية والمعنويّة .
فتراه في مواضع متعدّدة يأمر الناس بسلوك العدل ، الذي هي الجادّة الوسطى التي لا انحراف عنها يميناً وشمالاً ; كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
- (1) سورة الزلزلة 99 : 7 ـ 8 .
(2) ذكر في مجمع البيان 10: 375 في تفسير الآية، أنّ عبدالله بن مسعود قال: أحكم آية في القرآن: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ . . .) إلى آخر السورة . ولم أجد فيما تيسّر أنّ هذا القول للإمام زين العابدين(عليه السلام) .
(3) مثل الآية 30 من سورة آل عمران: 3 ، والآية 160 من سورة الأنعام: 6 ، والآية 17 من سورة غافر: 4 .
(4) توحيد المفضّل بن عمر: 92 ، أوّل المجلس الثاني ، الكافي 8: 72 ح29 ، تفسير القمّي 2: 433 ـ 434 ، وعنها تفسير كنز الدقائق 11: 479ـ 480 . وفي بحار الأنوار: 3 / 90 عن توحيد المفضّل ، وفي ج6 / 223 ح24 عن أمالي الصدوق: 593 ح822 ، وفي ج78 / 143 ـ 146 ح6 عن أمالي الصدوق وتحف العقول: 249 ـ 259 .
(الصفحة 74)
وَ الاِْحْسَـنِ وَ إِيتَآىِ ذِى الْقُرْبَى) (1) .
وكذا يأمرهم بأن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم ; كما في قوله ـ تعالى ـ : (اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ ) (2) .
وكذا ملاحظة سائر قوانينه المؤثّرة في تحصيل السعادة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، والخالية عن وصفي الكلفة والحرج ، بحيث أخبر الله ـ تعالى ـ بأنّ ما يكون حرجيّاً لم يكن مجعولاً في الدين والشريعة ، وأ نّه تعلّقت إرادته باليسر ولم تتعلّق بالعسر .
وبالجملة: ملاحظة نظام القرآن وتشريعه ترشد الباحث غير المتعصّب إلى عدم كونه مصنوعاً للبشر ، وأ نّه كيف يمكن له الإحاطة بجميع الخصوصيّات الدخيلة في سعادة الدارين ، حتّى يضع قانوناً منطبقاً عليها ، فضلاً عن القوانين الكثيرة الثابتة في جميع الوقائع والحوادث المبتلى بها ؟
ومن باب المثال: اُنظر إلى قانوني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اللذين هما من الواجبات المسلّمة في الشريعة ، الدالّ عليها الكتاب العزيز والسنّة الشريفة ، وقايس هذا القانون مع التشكيلات العصريّة الكاملة تدريجاً ، التي يكون الغرض من تأسيسها ، والغاية الباعثة على جعلها حفظ القوانين البشريّة ولزوم تطبيق العمل عليها ; فإنّها ـ مع سعتها المحيّرة ، وعظمتها المعجبة ، واستلزامها لصرف مؤنة كثيرة ـ لا تقدر على تحصيل هذا الغرض كما نراه بالوجدان ، فلا تكاد تقدر على الردع عن مخالفتها ، وسدّ باب نقضها مع جعل عقوبات عجيبة ، وتعذيبات شديدة ، لفرض صورة المخالفة ، والفرار عن الموافقة .
وأ مّا قانون القرآن ، فمضافاً إلى عدم افتقاره إلى تشكيلات مخصوصة ومؤنة زائدة ، وما يتضمّن لحفظ القوانين من طريق لزوم مراقبة كلّ فرد بالإضافة إلى
- (1) سورة النحل 16: 90 .
(2) سورة الفاتحة 1: 6 .
(الصفحة 75)
آخر ، وكونه عيناً عليه، ناظراً له ، فهو ـ أي كلّ واحد من المسلمين ـ يتّصف بأنّه مراقب ـ بالكسر ـ ومراقب ـ بالفتح ـ ولا يتصوّر فوق هذا المعنى شيء ; ضرورة أنّ أعضاء تلك التشكيلات محدودة لا محالة ، وهي لا تتّصف إلاّ بعنوان المراقبة ـ بالكسر ـ بخلاف قانون القرآن .
والإنصاف أ نّ التدبّر في كلّ واحد من القوانين الثابتة في القرآن ـ فضلاً عن جميعها ـ لا يبقي للمرتاب شكّ ولا للمريب وهم ، ويقضي إلى الحكم الجازم ، والتصديق القطعي ، الذي لا ريب فيه بأنّه كتاب نازل من عند الله العالم الخبير ، والحكيم البصير ; كما قال الله ـ تعالى ـ : (ذَ لِكَ الْـكِتَـبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (1) .
ولكنّ الاهتداء بهدايته والاستضاءة بنوره يحتاج إلى تقوى القلب ، وسلامته عن مرض العناد والتعصّب واللجاج ، وبقائه على الفطرة الأصليّة السليمة القابلة لنور الهداية ، غير المنحرفة عن الجادّة المستقيمة ، التي يكون السالك فيها مطيعاً للفعل ، ومجتنباً عن الضلالة والجهل .
القرآن وأسرار الخلقة
من جملة وجوه الإعجاز الهادية إلى أنّ القرآن قد نزل من عند الله تبارك وتعالى; اشتماله على التعرّض لبعض أسرار الخلقة ، ورموز عالم الكون ، ممّا لا يكاد يهتدي إليه عقل البشر في ذلك العصر ، ولا سيّما من كان في جزيرة العرب ، البعيدة عن التمدّن العصري بمراحل كثيرة ، وهذه الأنباء في القرآن كثيرة ، ولعلّ مجموعها يتجاوز عن كتاب واحد ، وكما أنّ جملة ممّا أخبر به القرآن لم تتّضح إلاّ بعد توفّر
(الصفحة 76)
العلوم والاكتشافات ، وتكثّر الفنون والاختراعات ، كذلك يمكن أن يكون وضوح البعض الآخر متوقّفاً على ارتقاء العلم ، وتكامل البشر في هذا المجال الحاصل بالتدريج ومرور الأزمنة .
ومن المناسب إيراد بعض الآيات الواردة في هذا الشأن ، فنقول:
1 ـ ما ورد في شأن النبات ، وثبوت سنّة الزواج بينها كما في الحيوانات ، وأ نّ اللقاح الذي يفتقر إليه في انتاج الزوجين إنّما يحصل بسبب الرياح ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (سُبْحَـنَ الَّذِى خَلَقَ الاَْزْوَ جَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاَْرْضُ وَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) .
وقوله ـ تعالى ـ : (وَ أَرْسَلْنَا الرِّيَـحَ لَوَ قِحَ) (2) .
فإنّ الكريمة الاُولى دلّت على عدم اختصاص سنّة الزواج بالحيوانات ، بل تعمّ النباتات وما لا يعلمه الإنسان من غيرها أيضاً ، بل قدّم ذكر النبات على الإنسان في هذه السنّة ، ولعلّه إشعار بكون هذه السنّة في النباتات قهريّة بخلاف الإنسان الذي يكون الأمر فيه على طبق الاختيار والإرادة .
والآية الثانية تدلّ على أنّ اللقاح الذي يتوقّف عليه إنتاج الشجر والنبات إنّما يتحقّق بسبب الرياح ، وهذا هو الذي اكتشفه علماء معرفة النبات ، ولم يكن يدرك هذا الأمر غير المحسوس من قبل أفكار السابقين ، ولذا التجأوا إلى حمل اللقاح في الآية عل معنى الحمل الذي هو أحد معانيه ، وفسّروا الآية الشريفة بأنّ الرياح تحمل السحاب الممطرة إلى المواضع التي تعلّقت المشيئة بالإمطار فيها(3) .
- (1) سورة يس 36 : 36 .
(2) سورة الحجر 15: 22 .
(3) التفسير الكبير للفخر الرازي: 7 / 134 ـ 135، مجمع البيان : 6 / 101ـ 102 و104 ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 : 15 ـ 16 . حيث ذكروا أقوالاً في معنى (لواقح)، منها: قول ابن عباس: «الرياح لواقح للشجر وللحساب» .