(الصفحة 79)
فإنّه تعالى قد استعار لفظ «الذلول» للأرض ، مع أنّه عبارة عن نوع خاصّ من الإبل ، ويكون امتيازه بسهولة انقياده ، ففيه إشارة إلى أنّ الخصوصيّة الموجودة ، والذلول التي ليست لغيره ، ثابتة في الأرض ، فهي أيضاً متحرّكة بحركة ملائمة للراكب عليها ، الماشي في مناكبها . ومن البيّن أنّه مع قطع النظر عن هذه الخصوصيّة ـ وهي خصوصيّة الحركة ـ يكون إطلاق لفظ الذلول على الأرض واستعارته لها ليس له وجه ظاهر حسن ، خصوصاً مع تفريع الأمر بالمشي عليه ، وإطلاق لفظ المنكب كما هو غير خفيّ .
وقوله ـ تعالى ـ : (وَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء) (1) .
فإنّه بقرينة وقوعها في سياق الآيات الواردة في القيامة وأهوالها ، ربما يقال كما قيل بأنّ هذه الآية أيضاً ناظرة إلى أحوال القيامة وأهوالها ، مع أنّه لا وجه للحمل على ذلك المقام ، خصوصاً مع قوله ـ تعالى ـ في الذيل: (صُنْعَ اللهِ . . .) الظاهر في ارتباط الآية بشؤون الخلقة وابتدائها ، وحسنها وجمالها ، مع أنّها في نفسها أيضاً ظاهرة في أنّ المرور والحركة ثابت للجبال فعلاً ، كما أنّ حسبان كونها جامدة أيضاً كذلك ، فالآية تدلّ على ثبوت المرور والحركة للأرض من بدو خلقتها ومصنوعيّتها ، وأ نّ الحركة دليل بارز على إتقانها .
وفيها إشارات لطيفة ودقائق ظريفة :
من جهة أ نّه تعالى جعل الدليل والأمارة على حركة الأرض حركة الجبال التي هي أوتاد لها ، ولم يثبت الحركة في هذه الآية لنفس الأرض من دون واسطة ، ولعلّه للإشارة إلى أنّ حركة الجسم الكروي بالحركة الوضعيّة دون الانتقاليّة ،
(الصفحة 80)
حيث لا تكون محسوسة إلاّ بسبب النقوش والألوان ، أو الارتفاعات الثابتة عليه وفي سطحه ; فلذا يكون الدليل على حركته حركة ذلك النقش واللون أو الارتفاع .
ومن جهة التعبير عن حركتها بالمرور الذي فيه إشارة إلى بطء حركة الأرض وملائمتها ، حسب القانون الطبيعي الذي أودعه الله فيها .
ومن جهة أ نّ التشبيه بالسحاب ـ مع كون حركتها مختلفة ، فإنّها قد تمرّ إلى جانب المشرق ، وقد تتحرّك إلى سائر الجوانب من الجوانب الأربعة ـ يدلّ على عدم اختصاص حركة الأرض بحركة خاصّة ، بل لها حركات مختلفة ربما تتجاوز عشرة أنواع . ومن غير تلك الجهات .
4 ـ ما ورد في شأن كرويّة الأرض ; مثل قوله ـ تعالى ـ : (يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ) (1) .
تقول العرب: «كار الرّجل العِمامة على رأسه إذا أدارها ولفّها ، وكوّرها بالتشديد صيغة مبالغة وتكثير»(2) فالتكوير في اللغة إدارة الشيء عل الجسم المستدير كالرأس بالإضافة إلى العمامة ، فتكوير الليل على النهار ظاهر في كرويّة الأرض ، وفي بيان حقيقة الليل والنهار على الوجه المعروف في الجغرافية الطبيعيّة .
وقوله ـ تعالى ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (3) .
وتوضيح المراد من هذه الآية الشريفة: أنّ الكتاب العزيز قد استعمل فيه لفظ المشرق والمغرب :
تارةً بصيغة الإفراد ; كقوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ) (4) .
- (1) سورة الزمر 39 : 5 .
(2) المصباح المنير : 2 / 543 كور . لسان العرب: 5 / 449 . كور .
(3) سورة الرحمن 55 : 17 .
(4) سورة البقرة 2 : 115 .
(الصفحة 81)
واُخرى بصيغة التثنية; كهذه الآية التي نحن بصدد التوضيح للمراد منها . وقوله ـ تعالى ـ : (يَــلَيْتَ بَيْنِى وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (1) .
وثالثة بصيغة الجمع ; كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـرِقَ الأَْرْضِ وَمَغَـرِبَهَا) (2) .
وقوله ـ تعالى ـ : (فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَـرِقِ وَ الْمَغَـرِبِ إِنَّا لَقَـدِرُونَ ) (3) .
أمّا ما ورد فيه هذان اللفظان بصيغة الإفراد : فهو مع قطع النظر عن الآيات الظاهرة في التعدّد يلائم مع وحدتهما ، وأ مّا بعد ملاحظتها فلا محيص عن أن يكون المراد منه هو النوع المنطبق على المتعدّد من أفرادهما .
وأ مّا ما ورد فيه هذان اللفظان بصيغة المثنّى: فقد اختلف المفسِّرون في معناه ، فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغربهما (4) ، وحمله بعضهم على أنّ المراد منه مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما (5) ، ولكن بعد اهتداء البشر إلى كرويّة الأرض وأ نّها فلك مستدير كرويّ ، واستكشافهم لوجود قارّة اُخرى على السطح الآخر للأرض ، يكون شروق الشمس عليها غروبها عن قارّتنا; ظهر أنّ المراد بالآية هو تعدّد المشرق بالإضافة إلى الشمس في كلّ يوم وليلة ، لا أنّ التعدّد بلحاظ الشمس والقمر ، ولا بالنظر إلى اختلاف الفصول ، بل لها في كلّ أربع وعشرين ساعة مشرقان: مشرق بالإضافة إلى قارّتنا ، ومشرق بلحاظ القارّة الاُخرى المكتشفة (6) . وياليتها لم تُكتَشف ! .
- (1) سورة الزخرف 43 : 38 .
(2) سورة الأعراف 7 : 137 .
(3) سورة المعارج 70 : 40 . (4، 5) جامع البيان عن تأويل آي القرآن : 27 / 157 ـ 158 وج29 / 107 ، التبيان في تفسير القرآن : 9 / 467 ، التفسيرالكبيرللفخرالرازي:10/350، تفسيرغرائب القرآنورغائب الفرقان:6/229، مجمع البيان: 9/ 299.
(6) البيان في تفسير القرآن : 74 ـ 77 ، القرآن وأسرار الخليقة .
(الصفحة 82)
وربّما يؤيّد ذلك بالآية الشريفة المتقدّمة المقتصر فيها على تثنيّة المشرق فقط ; نظراً إلى أنّ الظاهر منها أنّ البُعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة ، فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ، ولا على مشرقي الصيف والشتاء ; لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة ، فلا يمكن حملها على مشرق الشمس والقمر ، ولا على مشرق الصيف والشتاء ; لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة ، فلابدّ من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب ، ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر من الكرة الأرضيّة ليصحّ هذا التعبير .
ولكن في التأييد نظر; لاحتمال أن يكون لفظ «المشرقين» في هذه الآية تثنية للمشرق والمغرب ، لا تثنية للمشرق فقط ; ليدلّ على تعدّد المشرق ، مع قطع النظر عن المغرب ، ولعلّ هذا الاحتمال أقوى ; من جهة أنّ البُعد والفصل إنّما يناسب مع الشروق والغروب ، لا مع تعدّد المشرق كما هو غير خفيّ .
هذا ، ولكن ذلك لا يضرّ بدلالة الآية المتقدّمة المشتملة على تثنية المشرق والمغرب معاً ; فإنّ ظهورها فيما ذكرنا من تعدّد المشرق والمغرب لخصوص الشمس في كلّ يوم وليلة ممّا لا ينبغي أن ينكر ، فدلالتها على كرويّة الأرض ووجود قارّة اُخرى واضحة لا ريب فيها .
وأمّا ما ورد فيه ذلك بصيغة الجمع; فدلالته على كرويّة الأرض واضحة ; فإنّ طلوع الشمس على أيّ جزء من أجزاء كرة الأرض يلازم غروبها عن جزء آخر ، فيكون تعدّد المشارق والمغارب واضحاً لا تكلّف فيه ولا تعسّف .
والمحكيّ عن بعض المفسِّرين(1) حمل ما ورد فيه ذلك على مطالع الشمس
- (1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 27 / 158 ، الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي : 15 / 27ـ 28 و64 ، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان : 6 / 360 ، مجمع البيان في تفسير القرآن: 10 / 115 .
(الصفحة 83)
ومغاربها باختلاف أيّام السنة وتعدّد الفصول ، ولكنّه ـ مع أنّه تكلّف لا ينبغي أن يصار إليه ـ لا يتلاءم مع التأمّل في الآيات الدالّة على ذلك ; فإنّ الظاهر من الآية الاُولى أنّ مشارق الأرض ومغاربها كناية عن مجموع الأرض وأجزائها ; فإنّه الذي ينبغي أن يكون القوم المستضعفون وارثين له (1) ، وأ مّا مجرّد المشارق والمغارب المختلفة باختلاف الفصول وأيّام السنة ، فلا يتلاءم مع الوراثة أصلاً ، كما أنّها لا تتلاءم مع الحلف والقسم ، فتدبّر . ويؤيّد ذلك ما ورد في أخبار الأ ئـمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين .
وممّا يدلّ على كرويّة الأرض مثل ما رواه في الوسائل ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر ، وكنت أنا اُصلّي المغرب إذا غربت الشمس ، واُصلّي الفجر إذا استبان لي الفجر . فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ; فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا ، وتغرب عنّا وهي طالعة على قوم آخرين بعد؟ قال : فقلت: إنّما علينا أن نُصلّي إذا وجبت الشمس عنّا ، وإذا طلع الفجر عندنا ، ليس علينا إلاّ ذلك ، وعلى أولئك أن يصلّوا إذا غربت عنهم»(2) .
ومثله قول أبي عبدالله (عليه السلام) في رواية اُخرى: «إنّما عليك مشرقك ومغربك»(3) .
فإنّهما ظاهران في أ نّ اختلاف المشرق والمغرب إنّما هو باختلاف أجزاء الأرض الناشئ عن استدارتها وكرويّتها . غاية الأمر أنّه يجب على كلّ قوم رعاية
- (1) إشارة إلى الآية 137 من سورة الأعراف ، الميزان في تفسير القرآن: 8 / 228 ـ 229 .
(2) الأمالي للصدوق: 140 ح142 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 179 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ب16 ح 22 ، وبحار الأنوار: 83 / 58 ح17 .
(3) تهذيب الأحكام: 2 / 264 ح1053 ، الاستبصار: 1 / 266 ح961 ، الفقيه: 1 / 142 ح661 ، الأمالي للصدوق: 139 ح139 ، وعنها وسائل الشيعة : 4 / 198 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ب 20 ح 2 . وفي بحار الأنوار: 83 / 57 ح14 عن الأمالي ، وفي ملاذ الأخيار: 4 / 333 ح90 عن التهذيب. وفي روضة المتّقين: 2 / 69ـ 70 عن الفقيه .