(الصفحة 82)
وربّما يؤيّد ذلك بالآية الشريفة المتقدّمة المقتصر فيها على تثنيّة المشرق فقط ; نظراً إلى أنّ الظاهر منها أنّ البُعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة ، فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ، ولا على مشرقي الصيف والشتاء ; لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة ، فلا يمكن حملها على مشرق الشمس والقمر ، ولا على مشرق الصيف والشتاء ; لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة ، فلابدّ من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب ، ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر من الكرة الأرضيّة ليصحّ هذا التعبير .
ولكن في التأييد نظر; لاحتمال أن يكون لفظ «المشرقين» في هذه الآية تثنية للمشرق والمغرب ، لا تثنية للمشرق فقط ; ليدلّ على تعدّد المشرق ، مع قطع النظر عن المغرب ، ولعلّ هذا الاحتمال أقوى ; من جهة أنّ البُعد والفصل إنّما يناسب مع الشروق والغروب ، لا مع تعدّد المشرق كما هو غير خفيّ .
هذا ، ولكن ذلك لا يضرّ بدلالة الآية المتقدّمة المشتملة على تثنية المشرق والمغرب معاً ; فإنّ ظهورها فيما ذكرنا من تعدّد المشرق والمغرب لخصوص الشمس في كلّ يوم وليلة ممّا لا ينبغي أن ينكر ، فدلالتها على كرويّة الأرض ووجود قارّة اُخرى واضحة لا ريب فيها .
وأمّا ما ورد فيه ذلك بصيغة الجمع; فدلالته على كرويّة الأرض واضحة ; فإنّ طلوع الشمس على أيّ جزء من أجزاء كرة الأرض يلازم غروبها عن جزء آخر ، فيكون تعدّد المشارق والمغارب واضحاً لا تكلّف فيه ولا تعسّف .
والمحكيّ عن بعض المفسِّرين(1) حمل ما ورد فيه ذلك على مطالع الشمس
- (1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 27 / 158 ، الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي : 15 / 27ـ 28 و64 ، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان : 6 / 360 ، مجمع البيان في تفسير القرآن: 10 / 115 .
(الصفحة 83)
ومغاربها باختلاف أيّام السنة وتعدّد الفصول ، ولكنّه ـ مع أنّه تكلّف لا ينبغي أن يصار إليه ـ لا يتلاءم مع التأمّل في الآيات الدالّة على ذلك ; فإنّ الظاهر من الآية الاُولى أنّ مشارق الأرض ومغاربها كناية عن مجموع الأرض وأجزائها ; فإنّه الذي ينبغي أن يكون القوم المستضعفون وارثين له (1) ، وأ مّا مجرّد المشارق والمغارب المختلفة باختلاف الفصول وأيّام السنة ، فلا يتلاءم مع الوراثة أصلاً ، كما أنّها لا تتلاءم مع الحلف والقسم ، فتدبّر . ويؤيّد ذلك ما ورد في أخبار الأ ئـمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين .
وممّا يدلّ على كرويّة الأرض مثل ما رواه في الوسائل ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر ، وكنت أنا اُصلّي المغرب إذا غربت الشمس ، واُصلّي الفجر إذا استبان لي الفجر . فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ; فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا ، وتغرب عنّا وهي طالعة على قوم آخرين بعد؟ قال : فقلت: إنّما علينا أن نُصلّي إذا وجبت الشمس عنّا ، وإذا طلع الفجر عندنا ، ليس علينا إلاّ ذلك ، وعلى أولئك أن يصلّوا إذا غربت عنهم»(2) .
ومثله قول أبي عبدالله (عليه السلام) في رواية اُخرى: «إنّما عليك مشرقك ومغربك»(3) .
فإنّهما ظاهران في أ نّ اختلاف المشرق والمغرب إنّما هو باختلاف أجزاء الأرض الناشئ عن استدارتها وكرويّتها . غاية الأمر أنّه يجب على كلّ قوم رعاية
- (1) إشارة إلى الآية 137 من سورة الأعراف ، الميزان في تفسير القرآن: 8 / 228 ـ 229 .
(2) الأمالي للصدوق: 140 ح142 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 179 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ب16 ح 22 ، وبحار الأنوار: 83 / 58 ح17 .
(3) تهذيب الأحكام: 2 / 264 ح1053 ، الاستبصار: 1 / 266 ح961 ، الفقيه: 1 / 142 ح661 ، الأمالي للصدوق: 139 ح139 ، وعنها وسائل الشيعة : 4 / 198 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ب 20 ح 2 . وفي بحار الأنوار: 83 / 57 ح14 عن الأمالي ، وفي ملاذ الأخيار: 4 / 333 ح90 عن التهذيب. وفي روضة المتّقين: 2 / 69ـ 70 عن الفقيه .
(الصفحة 84)
مشرق أرضه ومغربها .
5 ـ من الأسرار التي دلّ عليها الكتاب العزيز تعدّد السماوات والأرضين ، مع أنّ الحسّ الذي كان هو الطريق المنحصر للبشر في ذلك العصر لا يكاد يهدي إلاّ إلى وحدتهما ; ولذا كان جمهور المتقدّمين متّفقين على وحدة الأرض ، وأنّه ليس غير هذه الأرض التي نحن نعيش فيها ونمشي في مناكبها أرض اُخرى (1) .
لكنّه قد استقرّ رأي الفلاسفة ـ بعد القرن العاشر من الهجرة ـ على تعدّد الأرضين وعدم اختصاص الأرض بهذه الكرة المحسوسة لنا(2) . نعم ، المحكي عن الشيخ الرئيس أبي علي(3) أنّه حكى القول بكثرة الأرضين ، وتعدّدها عن حكماء قديم الفرس (4) ،(5) . وأشار إلى ذلك الشاعر المعروف الفارسي المشهور بـ «نظامي»(6) في قوله:
شنيدستم كه هر كوكب جهانيست *** جداگانه زمين و آسمانيست(7)
وكيف كان ، فالثابت عند المتأخّرين أنّ كلّ كوكب سيّار أرض مستقلّ ، مشتمل على ما في أرضنا من الجبال والبحار والسحاب والحيوانات وغيرها ، وقد
- (1) اُنظر الهيئة والإسلام لهبة الدين الشهرستاني : 84 ـ 85 .
(2) المصدر نفسه: 79 ـ 80 و 105 ، وهم الفلاسفة الغربيّون بعد اختراع الميكروسكوب والتليسكوب . . .
(3) أبو علي الحسين بن سينا ، الفيلسوف الحكيم الشاعر الملقّب بالشيخ الرئيس ، له مؤلّفات مشهورة:
منها: القانون والشفاء والإشارات ، توفّي بهمذان سنة 428 أو 427 هـ . (الكنى والألقاب للشيخ عبّاس القمّي 1 : 320 ـ 323 .) (4) الشفاء للشيخ الرئيس ، الطبيعيّات: 2 / 54 ، الفنّ الثاني ، الفصل السابع .
(5) الهيئة والإسلام: 104 .
(6) وهو الشيخ أبو محمد الشاعر الحكيم المشهور بالنظامي ، له كتاب مخزن الأسرار ، خسرو وشيرين ، ليلى ومجنون ، هفت پيكر ، اسكندرنامه ، وله شعر في معراج النبيّ (صلى الله عليه وآله) . ريحانة الأدب: 6 / 211 ـ 215 .
(7) كلّيات خمسة حكيم نظامي ، أواخر خسرو وشيرين: 379 ، إجرام كواكب ، الهيئة والإسلام: 104ـ 105 .
(الصفحة 85)
دلّ الكتاب على تعدّد السماوات والأرضين بقوله ـ تعالى ـ : (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـوَ ت وَ مِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ) (1) .
فإنّ ظاهرها تعدّد الأرضين كالسماوات ، وبلوغها سبعاً مثلها ، وقد وقع التصريح بالأرضين السبع في الدعاء المعروف: «سبحان الله ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع ، وما فيهنّ وما بينهنّ ، وربّ العرش العظيم»(2) .
ويؤيّده ما رواه جماعة عن الرضا ـ صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتجبين ـ في جواب السؤال عن ترتيب السماوات السبع والأرضين السبع ، ممّا مرجعه إلى أنّ الأرض التي نحن فيها أرض الدنيا ، وسماءها سماء الدنيا ، والأرض الثانية فوق سماء الدنيا ، والسماء الثانية فوقها ، وهكذا(3) .
وبالجملة: دلالة الكتاب على مثل هذا الأمر غير المحسوس ـ الذي كان مخالفاً لآراء البشر في عصر النزول ـ تهدي الباحث هداية واضحة ، وترشد الطالب إرشاداً بيّناً إلى نزوله من عند الله الخالق للسماوات السبع ، ومن الأرض مثلهنّ .
6ـ ومن تلك الأسرار ما بيّنته الآيات الدالّة على حركة الشمس أوّلاً ، وكونها أصلاً في الحركة ثانياً ، وعلى تعدّدها ثالثاً ، وأ نّها بمرور الدهور يعرض لها التكوير ، ويبلغ إلى حدٍّ يصدق قوله ـ تعالى ـ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) (4) الموافق للرأي
- (1) سورة الطلاق 65 : 12 .
(2) الكافي: 3 / 122 ح3 وص124 ح7 و 9 ، الفقيه: 1 / 77 ح346 ، تهذيب الأحكام 1 : 288 ح 839 و 840 ، وعنها وسائل الشيعة: 2 / 459ـ 460 ، كتاب الطهارة ، أبواب الاحتضار ب 38 ح 1 ـ 3 ، وفي بحار الأنوار: 81 / 233 ح9 عن الفقه المنسوب للإمام الرضا(عليه السلام) : 165 ، وفي ص239 ح25 عن الهداية للصدوق: 104 ، وفي ص240 قطعة من ح26 عن الدعوات للراوندي: 245 ، الرقم 693 ، وفي ج84 / 206 ح23 عن فلاح السائل: 134 ، وفي ص260 ح4 عن مصباح المتهجّد: 200 ، الرقم 287 .
(3) مجمع البيان : 10 / 44 ، الهيئة والإسلام : 90 .
(4) سورة التكوير 81 : 1 .
(الصفحة 86)
الجديد في باب الشمس ونقصان نورها وحرارتها تدريجاً .
وغير ذلك من الأسرار التي دلّ عليها الكتاب تصريحاً أو تلويحاً ، التي ينبغي أن تؤلّف في كتاب واحد ، مع أنّ العلم بتوفّره ، والاكتشاف بتكثّره لم يبلغ إلى مرتبة يحيط لأجلها بجميع الأسرار الكونيّة ، والرموز الخلقيّة المذكورة في الكتاب العزيز .
نسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ لأن يهدينا سبيل الرشاد ، وهو الهادي إلى ما يتعلّق بالمبدإ والمعاد .
ثمّ إنّ هنا وجوهاً اُخر في باب إعجاز القرآن ، ولكن ما ذكرنا من النواحي التي كانت أعمّ ممّا أشار إليها الكتاب وما لم يشر إليه ، يكون فيه غنى وكفاية للطالب غير المتعصِّب ، والباحث غير العنود ، ولا يبقى بعد ملاحظة ما ذكرنا شكّ وارتياب في أنّ القرآن وحي إلهيّ ، وكلام الله الخارج عن حدود القدرة البشريّة .
ولكن هنا أوهام وشبهات حول إعجاز القرآن لا بأس بالإشارة إليها بأجوبتها ، وإن كان بعضها ـ بل كلّها ـ من السخافة والبطلان بمكان لا ينبغي إضاعة الوقت ، وإعمال القوّة العاقلة في دركها وإبطالها ، إلاّ أنّه لأجل إمكان إيراثها الارتياب في بعض العقول الناقصة ، والنفوس غير الكاملة لا مانع من التعرّض لمهمّاتها .