(الصفحة 88)
(الصفحة 89)شبهات حول إعجاز القرآن
شبهة غموض الإعجاز
إنّ المعجز لابدّ وأن يعرف إعجازه جميع من يراد بالإعجاز إقناعه ، وكلّ من كان المهمّ اعتقاده بصدق مدّعي النبوّة ; ليخضع في مقابل التكاليف التي يأتي بها ، والوظائف التي هو الواسطة في تبليغها وإعلامها ; ضرورة أنّ كلّ فرد منهم مكلّف بتصديق مدّعي النبوّة ، فلابدّ أن تتحقّق المعرفة ـ معرفة الإعجاز ـ بالإضافة إلى كلّ واحد منهم ، مع أنّه من المعلوم أنّ معرفة بلاغة القرآن تختصّ ببعض البشر ولاتعمّ الجميع ، من دون فرق في ذلك بين زمان النزول وسائر الأزمنة إلى يوم القيامة ، فكيف يكون القرآن معجزاً بالإضافة إلى جميع البشر ، ويكون الغرض منه هداية الناس من الظلمات إلى النور كما بيّنه نفسه ؟
والجواب عن ذلك: أنّه لا يشترط في المعجز أن يدرك إعجازه الجميع ، بل المعتبر فيه هو ثبوت المعجز عندهم ، بحيث لا يبقى لهم ارتياب في ذلك ، وأنّه قد أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بما يعجز الناس عن الإتيان بمثله ، وإن لم يكن حاضراً عن الإتيان به ، أو لم يكن ممّن يحتمل في حقّه الإتيان بالمثل ; لعدم اطّلاعه على اللغة العربيّة ، أو
(الصفحة 90)
لقصور معرفة بخصائصها ، فإذا ثبت لنا بالنقل القطعي تحقّق الانشقاق للقمر بيد النبيّ (صلى الله عليه وآله) (1) تتمّ الحجّة علينا عقلاً ، وإن لم نكن حاضرين عند تحقّقه ، مشاهدين ذلك بأبصارنا ، وكذا إذا ثبت إخضرار الشجر بأمره ، أو تكلّم الحجر بإشارته(2) .
وفي المقام نقول: بعدما لاحظنا أنّ القرآن نزل في محيط بلغت البلاغة فيه الغاية القصوى ، والعناية بالفصاحة وشؤونها الدرجة العليا ، بحيث لم يروا لغيرها قدراً ، ولا رتّبوا عليه فضيلةً وأجراً ، ولعلّ السرّ في ذلك واقعاً هو: أنّه عند نزول القرآن لايكاد يبقى مجال للارتياب في تفوّقه واتّصافه بأنّه السلطان والحاكم في الدولة الأدبيّة ، والحكومة العلميّة ، وبعد ملاحظة أنّ القرآن تحدّاهم إلى الإتيان بمثله(3) ، أو بعشر سور مثله(4) ، أو بسورة مثله(5) ، ولم يقع في جواب ذلك النداء إلاّ إظهار العجز ، والاعتراف بالقصور .
ولذا اختاروا المبارزة بالسنان على المعارضة بالبيان ، ورجّحوا المقابلة بالسيوف على المقاومة بالحروف ، وآثروا بذل الأبدان على القلم واللسان ، مع أنّه كان من الجدير للعرب إذا كان ذلك في مقدرتهم أن يجيبوه ، ويقطعوا حجّته ، ويأتوا ولو بسورة واحدة مثل القرآن في البلاغة ، فيستريحوا بذلك عن تحمّل مشاقّ كثيرة ، وإقامة حروب مهلكة ، وبذل أموال خطيرة ، وتفدية نفوس محرّمة .
- (1) تفسير القمّي: 2 / 341 ، إعلام الورى: 1 / 84 ، مناقب ابن شهرآشوب: 1 / 122 ، مجمع البيان: 9/277 ـ 278 ، وعنها بحار الأنوار: 17 / 347 ـ 358 ح1 ، 11 و 13 ، ورواه البخاري في صحيحه: 6 / 62 ب1 ح4864ـ 4868 ، والترمذي في سننه: 5 / 397 ـ 398 ب54 ح3296 ـ 3300 ، ويراجع ص62 .
(2) الخرائج والجرائح: 1 / 98 ح 159، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : 1 / 37 ـ 38، العدد القويّة: 122 ، الرقم 24 ، التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري(عليه السلام) : 599 ، وعنها بحار الأنوار: 15/336 قطعة من ح5 وص340 ح12، و ج16 / 226 ح32، وج17 / 379 ح47 وص383 ح51 .
(3) سورة البقرة 2: 23 ، وسورة الإسراء 17: 88 .
(4) سورة هود 11: 13 .
(5) سورة يونس 10: 38 .
(الصفحة 91)
ولكنّهم ـ مع أنّه كان فيهم الفصحاء النابغون والبلغاء المتبحِّرون ـ خضعوا عند بلاغة القرآن ، وأذعنوا بقصورهم ، بل قصور من لم يكن له ارتباط إلى مبدإ الوحي ، ومنبع الكمال من جميع أفراد البشر ، فعند ملاحظتنا ذلك تتمّ الحجّة علينا عقلاً وإن لم نكن من تلك الطبقة النابغة في الفصاحة ، والجماعة الممتازة في الفصاحة ، بل وإن لم نكن عارفين باللغة العربيّة أصلاً ، كما هو واضح من أن يخفى .
شبهة التناقض والاختلاف
إنّ القرآن مع أنّه قد وصف نفسه بعدم وجود الاختلاف فيه(1) ، وعدم اشتماله على المناقضة بوجه ـ ولابدّ من أن يكون كذلك ـ فإنّ الاختلاف لا يتناسب مع كونه من عند الله الذي لا يغيب عنه شيء ، والمناقضة لا تتلاءم مع كونه من عند من هو عالم بكلّ شيء ، قد وقعت فيه المناقضة في موردين:
أحدهما: قوله ـ تعالى ـ : (قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَـثَةَ أَيَّام إِلاَّ رَمْزًا) (2) ; فإنّه يتناقض مع قوله ـ تعالى ـ : (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَـثَ لَيَال سَوِيًّا ) (3) .
والجواب عن هذه الشبهة واضح ; فإنّ لفظ «اليوم» قد يستعمل ويراد منه النهار ، وهو ما يقابل الليل ، وقد يطلق ويراد به المجموع منهما ، وكذلك لفظ «الليل»; فإنّه أيضاً قد يطلق ويراد به ما يقابل النهار ، وقد يستعمل ويراد منه المجموع من النهار والليل ، ولا يختصّ هذا الإطلاق والاستعمال بالكتاب العزيز ،
- (1) سورة النساء 4: 82 .
(2) سورة آل عمران 3 : 41 .
(3) سورة مريم 19 : 10 .
(الصفحة 92)
بل هو استعمال شائع في لغة العرب (1) ، بل لا ينحصر بتلك اللغة ; فإنّ ما يرادف اليوم في الفارسيّة مثلاً قد يطلق ويراد به بياض النهار ، وقد يطلق ويراد به المجموع منه ومن مدّة مغيب الشمس وإشراقها على القارّة الاُخرى ، وكذلك ما يرادف الليل .
ومن الموارد التي استعمل فيها لفظ «اليوم» . وكذا «الليل» واُريد بكلّ واحد ما يقابل الآخر ما جمع فيه بين اللّفظين ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَال وَ ثَمَـنِيَةَ أَيَّام حُسُومًا) (2) .
وممّا استعمل فيه لفظ اليوم واُريد به المجموع قوله ـ تعالى ـ : (تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَـثَةَ أَيَّام) (3) .
وكذا الآية المبحوث عنها في المقام ، المشتملة على لفظ «اليوم» .
وممّا استعمل فيه لفظ الليل واُريد به المجموع قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِذْ وَ عَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (4)، وكذا الآية المبحوث عنها في المقام المشتملة على كلمة «الليل» .
فانقدح أنّه لا منافاة بين الآيتين ، ولا مناقضة بين الكريمتين ، فلا موقع للشبهة في البين .
ثانيهما: أنّ الكتاب كثيراً ما يسند الفعل إلى العبد واختياره ، فيدلّ ذلك على عدم كونه مجبوراً في أفعاله ، وقد يسنده إلى الله تبارك وتعالى ، وهذا ظاهر في أنّ العبد مجبور في أفعاله ، وأنّه ليس له اختيار إلاّ اختياره تعالى .
- (1) لسان العرب : 6 / 525 .
(2) سورة الحاقة 69 : 7 .
(3) سورة هود 11 : 65 .
(4) سورة البقرة 2 : 51 .