(صفحه 111)
القول الرابع: ما عن بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات(1)، ومحصّلكلامه: أنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهّد بإبراز المعنى الذي تعلّق قصدالمتكلّم بتفهيمه بلفظ مخصوص، فكلّ واحد من الأفراد من أهل أيّ لغة كانمتعهّداً في نفسه، بأنّه متى أراد تفهيم معنى خاصّ أن يجعل مبرزه لفظمخصوصاً، مثلاً: التزم كلّ واحد من أفراد الاُمّة العربيّة بأنّه متى قصد تفهيمجسم سيّال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ «الماء» وهكذا.
وممّا يدلّنا على ذلك بوضوح وضع الأعلام الشخصيّة، فإنّ كلّ شخص إذراجع وجدانه يظهر له أنّه إذا أراد أن يضع اسماً لولده ـ مثلاً ـ يتصوّر أوّلذات ولده، وثانياً لفظاً يناسبه، ثمّ يتعهّد في نفسه بأنّه متى قصد تفهيمه يتكلّمبذلك اللفظ، وليس ههنا شيء آخر ما عدا ذلك، فليس الوضع هو القول بأنّهوضع هذا اللفظ بإزاء هذا المعنى، بل هو مبيّن للوضع والتعهّد النفساني.
ومن ذلك تبيّن ملاك أنّ كلّ مستعمل واضع حقيقةً، وأمّا إطلاق الواضععلى الجاعل الأوّل دون غيره فلأسبقيّته في الوضع لا لأجل أنّه واضع فيالحقيقة دون غيره.
ثمّ إنّ الوضع بذلك المعنى الذي ذكرناه موافقٌ لمعناه اللغوي أيضاً؛ لأنّه كانفي اللغة بمعنى الجعل والإقرار، ومنه وضع اللفظ، ومنه وضع القوانين فيالحكومات الشرعيّة والعرفيّة، فإنّه يكون بمعنى التزام تلك الحكومة بتنفيذهفي الاُمّة.
وفيه: أوّلاً: مع أنّ كون المستعمل واضعاً مخالفٌ للمرتكز الذهني فهو مخالفٌللواقع أيضاً؛ إذ الوجدان أقوى شاهد بأنّ الأب والمخترع والمصنّف أحقّ
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 44 ـ 49.
(صفحه112)
بتسمية ولده ومخترَعه وكتابه ووضع اللّفظ لها، والآخرون يستعملونه فيهاتّباعاً لهم، ولا يطلق عنوان الواضع عليهم في هذه الموارد ولا يشتركون فيالوضع والتسمية منهم، بل هذه الأحقّيّة تقتضي تبعيّتهم لهم في هذه المواردالشخصية كما لا يخفى، وهكذا في موارد وضع ألفاظ عامّة لمعان عامّة؛ إذ لوكان الواضع هو اللّه تعالى ـ وهو الأحقّ بالوضع ويطلق عليه عنوان الواضعوعلى الآخرين عنوان المستعمل ـ كان له المزيّة التي أوجبت إقدامه على ذلك،وهذا يقتضي أحقيّته وتبعيّة الآخرين له، ولذا لا يصحّ إطلاق الواضع على كلّمستعمل.
وثانياً: أنّ أصل مسألة الوضع بماذا تتحقّق؟ فهل تكون الجملة: «وضعتهذا اللفظ لهذا المعنى» محقّقة وموجدةً للوضع، أو تكون حاكية وكاشفة عنه؟وهكذا في باب وضع القانون في الحكومات الشرعيّة والعرفيّة، هل تكونجملة «أقيموا الصلاة» نفس القانون أم تحكى عن القانون؟ وسيأتي تفصيلهذا البحث في باب الأوامر إن شاء اللّه تعالى، ولكن نقول هنا إجمالاً: إنّالوضع والقانون عبارة عن نفس هذه الجملات، لا حاكية عنهما، وأنّ الوضعأمر إنشائي يوجد بنفس هذه الكلمات كإيجاد الزوجيّة بنفس كلمة زوّجت،وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لارتباط الوضع بالتعهّد والالتزام النفساني، فإنّهذا المعنى لا يتحقّق في مورد من الموارد المذكورة.
وثالثاً: إنّ الاستعمالات لا تنحصر في المعاني الحقيقيّة، بل الاستعمالاتالمجازيّة أكثر من الاستعمالات الحقيقيّة كما تحقّق في محلّه. ومن المعلوم أنّه ليكون في هذه الاستعمالات تعهّد والتزام نفساني، لا من الواضع ولا منالمستعملين أصلاً وأبداً.
(صفحه 113)
القول الخامس: ما اختاره المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) في حاشيته على الكفاية،ولا يخفى أنّ أصل كلامه عندنا أصحّ كلام، ولكنّ بعض جزئيّاته التي لاتخدشبأصل الكلام قابلة للمناقشة، ومحصّل كلامه أنّه قال بعنوان المقدّمة:
إنّ حقيقة العلقة الوضعيّة لا تعقل أن تكون من المقولات الواقعيّة، فإنّه لوكانت منها فلابدّ أن تكون من المقولات العرضيّة؛ إذ هي تحتاج في تحقّقه إلىاللّفظ والمعنى، مثل احتياج العرض إلى المعروض، وإن توهّم كذلك قلنا: هومدفوع بدليلين:
الأوّل: أنّ المقولات العرضيّة تحتاج إلى موضوع محقّق في الخارج بداهةلزومه في العرض، مع أنّ طرفي الاختصاص والارتباط ـ وهما اللفظ والمعنى ليسا كذلك، فإنّ الموضوع والموضوع له طبيعي اللفظ والمعنى دون الموجودمنهما، فإنّ طبيعي لفظ «الماء» موضوع لطبيعي ذلك الجسم السيّال، وهذالارتباط ثابتٌ حقيقةً ولو لم يتلفّظ بلفظ «الماء»، ولم يوجد مفهومه في ذهنأحدٍ.
والثاني: أنّ المقولات اُمور واقعيّة لا تختلف باختلاف الأنظار ولا تتفاوتبتفاوت الاعتبار، ومع أنّه لا يرتاب أحدٌ في أنّ طائفة يرون الارتباط بين لفظخاصّ ومعنى مخصوص، ولا يرونه بينهما طائفة اُخرى بل يرونه بين لفظ آخروذلك المعنى، ولازم ذلك وقوع معنى واحد في آن واحد معروضاً لعرضين،وهو محال، فالوضع لا يكون من المقولات الواقعيّة.
فإن قلت: لا ريب في صدق حدّ مقولة الإضافة على الملكيّة والاختصاصونحوهما من النسب المتكرّرة.
- (1) نهاية الدراية 1: 44 ـ 45.
(صفحه114)
قلت: فرق بين كون المفهوم من المفاهيم الإضافيّة وبين صدق حدّ مقولةالإضافة على شيء، ألاترى صدق العالميّة والقادريّة عليه تعالى، مع تقدّسوجوده عن الاندراج في العرض والعرضي لمنافاة العروض مع وجوبالوجود، بل تلك الإضافات إضافات عنوانيّة لا إضافات مقوليّة فكذلكالملكيّة والاختصاص.
فالتحقيق في أمثال هذه المفاهيم: أنّها غير موجودة في المقام وأشباههبوجودها الحقيقي، بل موجودةٌ بوجودها الاعتباري، بمعنى: أنّ الشارع أوالعرف أو طائفة خاصّة يعتبرون هذا المعنى لشيء أو لشخص لمصلحة دعتهمإلى ذلك، وأمّا نفس الاعتبار فهو أمر واقعي قائم بالمعتبر، وأمّا المعنى المعتبرفهو على حدّ مفهوميّته وطبيعيّته ولم يوجد في الخارج.
ثمّ إنّ هذا المعنى قد يكون من الاُمور التسببيّة فيتسبّب المتعاقدانبالإيجاب والقبول الّذين جعلهما الشارع سبباً يتوصّل به إلى اعتبار الشارعللملكيّة، فالملكيّة توجد بوجودها الاعتباري من الشارع بالمباشرة ومنالمتعاقدين بالتسبّب، وقد لايكون المعنى المعتبر تسببيّاً كالاختصاصالوضعي، فإنّه لا حاجة في وجوده إلاّ إلى اعتبار من الواضع، ومن الواضح أنّاعتبار كلّ معتبر قائم به بالمباشرة لا بالتسبيب، فتخصيص الواضع ليس إلاعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاصّ ومعنى خاصّ، ولا فرق بيناللفظ والإشارة في هذا المعنى؛ إذ الإشارة أيضاً تدلُّ على هذا المعنى باعتبارمعتبر، فلذا دلالة الإشارة على المعاني مختلفة بين الأقوام والملل.
وأشكل عليه: بأنّ تفسير الوضع بهذا المعنى على فرض صحّته في نفسهتفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان عامّة الواضعين، مع أنّ حقيقة الوضع
(صفحه 115)
حقيقة عرفيّة سهلة التناول والمأخذ، فلا تكون بهذه الدقّة التي تغفل عنهأذهان الخاصّة فضلاً عن العامّة.
وجوابه: أنّ هذه الدقّة التي تراها بلحاظ اصطلاحات مأخوذة هنا،ولاشكّ في أنّ لبّ هذا المعنى من المرتكز الذهني العرفي، مع أنّه لا ربط لدركهموعدم دركهم لواقعيّة المطلب، وإلاّ يجري هذا الإشكال في المعاملات أيضاً.
ثمّ ذكر قدسسره تنظيراً لهذا المعنى وقال: ثمّ إنّه لا شُبهة في اتّحاد حيثيّة دلالة اللفظعلى معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثيّة دلالة سائرالدوال كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي،وفي اللفظ اعتباري، بمعنى: أنّ كون العلم موضوعاً على رأس الفرسخ واقعيّةخارجيّة، وليس باعتبار معتبر(1).
وأشكل عليه بعض الأعلام(2) بأنّ وضع اللفظ ليس من سنخ الوضعالحقيقي كوضع العلم، والوجه في ذلك أنّ وضع العَلَم يتقوّم بثلاثة أركان: أوّلاً:الموضوع وهو العلم، ثانياً: الموضوع عليه وهي ذات المكان، ثالثاً: الموضوع لهوهي الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ.
وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ، فإنّه يتقوّم بركنين: أوّلاً: الموضوعوهو اللفظ، ثانياً: الموضوع له وهي دلالته على معناه، ولا يحتاج إلى شيءثالث ليكون ذلك الثالث الموضوع عليه، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لميكن من الأغلاط الظاهرة، فلا أقلّ من أنّه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفةوالاستعمالات الشائعة، مع أنّ لازم ما أفاده قدسسره هو أن يكون المعنى هو
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 44.