(صفحه 99)
فبطلانه من أوضح الواضحات؛ لأنّ لازم ذلك تمكّن كلّ شخصٍ من الإحاطةبتمام اللّغات، فضلاً عن لغة واحدة.
وأمّا لو كان المراد من المناسبة الذاتيّة أن يكون سماع اللّفظ مقتضياً لانتقالالذهن إلى معناه ففيه: أنّ ذلك وإن كان بمكان من الإمكان ثبوتاً وقابلللنزاع، إلاّ أنّه لا دليل على تحقّقها كذلك في مرحلة الإثبات، فلا يمكن الالتزامبها.
ويستفاد من كلمات الأعاظم دليلان لإبطال هذا الاحتمال: أحدهما: منكلمات الإمام ـ دام ظلّه ـ ، والآخر: من كلمات بعض الأعلام.
قال الإمام ـ دام ظلّه ـ(1): ثمّ إن دعوى وجود المناسبة الذاتيّة بين الألفاظومعانيها كافّة قبل الوضع ممّا يبطله البرهان المؤيّد بالوجدان؛ إذ الذات البحتالبسيط التي لها عدّة أسماء متخالفة من لغة واحدة أو لغات، إمّا أن يكونبجميعها الربط بها، أو لبعضها دون بعض، أو لا ذا ولا ذاك. فالأوّل يوجبتركّب الذات وخروجها من البساطة المفروضة، والأخيران يهدمان أساسالدعوى.
وقال بعض الأعلام(2): إنّه لا يعقل تحقّق المناسبة المذكورة بين جميعالألفاظ والمعاني؛ لاستلزام ذلك تحقّقها بين لفظ واحد ومعاني متضادّة أومتناقضة، كما إذا كان للفظ واحد معان كذلك، كلفظ «جون» الموضوع للأسودوالأبيض، ولفظ «القرء» للحيض والطهر، وغيرهما، وهو غير معقول.
وأمّا الدليل الذي أقاموه لنفي مدخليّة الوضع فهو: لولا هذه المناسبة بين
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 32 ـ 33.
(صفحه100)
الألفاظ والمعاني لكان تخصيص الواضع لفظاً مخصوصاً لكلّ معنى بلا مرجّح،وهو محال كالترجح بلا مرجّح، أي وجود حادث من دون سبب وعلّة.
وفيه: أوّلاً: أنّ المحال هو الثاني دون الأوّل؛ إذ لا إشكال في اختيارنا أحدأواني الماء، مع أنّه ترجيح من غير مرجّح، بل لا قبح فيه فضلاً عنالاستحالة.
وثانياً: سلّمنا امتناع الترجيح بلا مرجّح، إلاّ أنّ المرجّح غير منحصربالمناسبة المذكورة، بل يكفي فيه وجود مرجّح ما كسهولة أداء اللفظ أو حُسنتركيبه أو غير ذلك وإن كان أمراً اتّفاقيّاً؛ ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بما لا يلزممعه الترجيح بلامرجّح، سواء كان ذاتيّاً أو اتّفاقيّاً، فلا يكون الارتباط بيناللفظ والمعنى ارتباطاً ذاتيّاً.
إذا عرفت أنّ دلالة الألفاظ على المعاني لا تكون ذاتيّة، بل تحتاج إلى وضعالواضع، فنقول: إنّ العلماء اختلفوا من قديم الأيّام في أنّ الواضع هل هو اللّهتعالى أو البشر؟ وعلى الثاني هل هو واحد أو متعدّد؟ وأكثر علماء العامّةوالمحقّق النائيني قائلون بأنّ الواضع هو اللّه تعالى، ويستفاد من كلمات القائلينبهذا القول نوعان من الأدلّة، يكون لأحدهما لسان الإثبات، وللآخر لساننفي الوضع من البشر، والمهمّ من الأدلّة الإثباتيّة دليلان:
الأوّل: قوله تعالى: «وَ عَلَّمَ ءَادَمَ الاْءَسْمَآءَ كُلَّهَا»(1).
وتقريب الاستدلال: أنّ لازم تعليم الأسماء سبق الوضع عليه؛ إذ لا معنىللأسماء والمسمّيات قبل تحقّق الوضع، وإذا استفيد تقدّم الوضع على التعليمفلابدّ من تحقّق الوضع لجميع الأشياء قبل خِلقة البشر بواسطة اللّه تعالى.
(صفحه 101)
وفيه: أنّ تفسير الآية بهذه السهولة غير صحيح؛ إذ ذكر بعدها ضميرالجمع الذي يرجع إلى ذوي العقول، وهو قوله تعالى: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَىالْمَلَـآلـءِكَةِ فَقَالَ أَ منبِـءُونِى بِأَسْمَآءِ هَـآؤُلاَآءِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ»(1) وإن كان تفسيرالآية عند المفسّرين محلّ خلاف، ولكن هذا المعنى ليس بمراد عندهم، ويحتملقويّاً أن يكون المراد أسامي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام .
والثاني: قوله تعالى: «وَ مِنْ ءَايَـتِهِى خَلْقُ السَّمَـوَ تِ وَ الاْءَرْضِ وَاخْتِلَـفُأَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَ نِكُمْ»(2).
وتقريب الاستدلال بأنّ جعله تعالى اختلاف الألسنة من آياته دليل علىأنّ الواضع هو اللّه تعالى؛ إذ لو كان الواضع هو البشر فكيف يكون من آياتهتعالى؟! مع أنّ عطف الألوان على الألسنة أقوى شاهد على أنّ اختلافالألسنة مربوط به تعالى كاختلاف الألوان.
وفيه: أنّه إذا قلنا بأنّ واضع اللغات هو البشر ـ مثلاً: المعروف عند العلماءأنّ واضع لغة العرب هو يعرب بن قحطان ـ مع أنّ البشر عين الربط لا وجودله سوى الربط وفانيّ في اللّه، فكان أيضاً من آياته تعالى. هذا تمام الكلام فيالنوع الأوّل من الأدلّة.
وأمّا النوع الثاني من الأدلّة فيستفاد من كلام المحقّق النائيني قدسسره (3) دليلان:
أحدهما: أنّ الوضع مع أنّه من أهمّ مسائل البشر على وجه يتوقّف عليهحفظ نظامهم؛ إذ التفهيم والتفهّم بينهم يكون بواسطة اللسان، ولكن لا يعرفأنّهم عقدوا مجلساً لوضع الألفاظ.
(صفحه102)
وثانيهما: أنّ الألفاظ والمعاني غير متناهية؛ إذ اللفظ يتركّب من الحروف،وكلّما تركّب على كيفيّة تتصوّر فيه كيفيّة اُخرى، والمعاني أيضاً كذلك؛ إذالمعاني الممتنعة والواجبة أيضاً تحتاج إلى وضع الألفاظ لها، فكيف يمكنللبشر المتناهي وضع الألفاظ الغير المتناهيّة للمعاني كذلك؟! فلابدّ من انتهاءالوضع إليه تعالى، وهو على كلّ شيء قدير.
ثمّ ذكر تأييداً لهذا بأنّه لو سلّم إمكان ذلك للبشر فتبليغ ذلك التعهّدوإيصاله إلى عامّة البشر دفعةً محال عادةً.
ودعوى أنّ التبليغ والإيصال يكون تدريجاً ممّا لا ينفع؛ لأنّ الحاجة إلىتأدية المقاصد بالألفاظ ضروريّة للبشر على وجهٍ يتوقّف عليه حفظ نظامهم،فيسأل عن كيفيّة تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهّد إليهم، بل يسأل عنالخلق الأوّل كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ، مع أنّه لم يكن بعدُ وضعوتعهّد من أحد؟ وكيف كلّم يعرب بن قحطان ـ مثلاً ـ الحاضرين لمجلسالوضع؟ إذ المفروض أنّهم لا يعلمون بوضع الألفاظ للمعاني، فالواضع هو اللّهتعالى، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلّقاتها وضعتشريعيّاً، ولا كوضعه الكائنات وضعاً تكوينيّاً، فإنّ ذلك ممّا نقطع بخلافه، بلالمراد من كونه تعالى واضعاً أنّ حكمته البالغة لمّا اقتضت تكلّم البشر بإبرازمقاصدهم بالألفاظ فلابدّ من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شأنهبوجهٍ، إمّا بوحي منه إلى نبيّ من أنبيائه، أو بإلهام منه إلى البشر، أو بإيداعذلك في طباعهم، بحيث صاروا يتكلّمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسبفطرتهم حسب ما أودعه اللّه في طباعهم، فدعوى أنّ مثل يعرب بن قحطانأو غيره هو الواضع ممّا لا سبيل إليه؛ لما عرفت من عدم إمكان إحاطة البشر
(صفحه 103)
بذلك.
أقول: للتأمّل في هذا المقال مجالٌ من جهات مختلفة:
الأوّل: أنّه لو قلنا بأنّ الواضع هو اللّه تعالى وينتقل هذا إلى الناس بواسطةوحي إلى الأنبياء فإنّه كاشف عن أهمّيّة مسألة الوضع، فلابدّ من تصدّيالتواريخ أو أحد الكتب السماويّة لضبطه ولو بصورة قصّة من قصص الأنبياءالسالفة، مع أنّه لم تذكر هذه المسألة في أيّ عصر وزمان ولم يرد في من تصدّىلها خبرٌ ولا أثر.
الثاني: أنّ دعوى انتقال الوضع من اللّه تعالى إلى الناس بصورة الإلهام أوإيداع ذلك في طباعهم مدفوعٌ، بأنّ المراد من الإلهام أو الإيداع هل هو الإلهامأو الإيداع إلى كلّ النفوس إلى يوم القيامة، أو إلى عدّة من الناس في أوّلالخلقة؟ فلو كان المراد هو الأوّل فلا يناسب هذا جهلنا باللّغات، ولو كانالمراد هو الثاني فلا يناسب هذا تكثّر اللغات.
وإن قلنا: إنّ مسألة تكثّر اللغات أيضاً منتسب إلى اللّه تعالى، بأنّ نبيّاً منالأنبياء بلّغ أحكام اللّه باللسان العربي، والآخر بلسان سّرياني، وهكذا فيجميع اللغات والألسنة، أو أنّ اللّه تعالى ألهم أو أودع إلى عدّة من الناس اللغةالعربيّة، وإلى عدّة اُخرى اللغة الفارسيّة، وهكذا في جميع اللغات.
ولكنّه لا يناسب غاية الوضع وغرضه الذي كان عبارة عن السهولة فيالتفهيم والتفهّم والسهولة في انتقال الأغراض والمقاصد، ومعلوم أنّ أصل تكثّراللّغات مبعّد عن هذا الغرض، ولا يخفى على أحد أولويّة وحدة اللغة واللّسانفي العالم، وأنّ تكثّر اللغات أوجب التعب والألم الشديد للمحقّقين والتلامذة.
وأمّا قوله تعالى: «وَ مِنْ ءَايَـتِهِى خَلْقُ السَّمَـوَ تِ وَ الاْءَرْضِ وَاخْتِلَـفُ