(صفحه 527)
ولكنّ التحقيق: أنّ جعله مسألة الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة أصلاً وعنوانللبحث، وسائر المسائل فرعاً ومقدّمة لهذه المسألة، ممّا لا وجه له، فإنّ جميعالمسائل المبحوث عنها تحت هذا العنوان تكون من المسائل المهمّة، ولا يكونلإحداها عنوان الأصالة وللاُخرى عنوان الفرعيّة كما لا يخفى. ونحن نبحثهبعون اللّه تعالى بحسب الترتيب للتفصّي عن الإشكال:
الأوّل: تقسيم الواجب إلى التعبّدي والتوصّلي، وما يلاحظ في كلماتالاُصوليّين بالنسبة إلى هذا التقسيم عبارة عن نكتتين: إحداهما: أنّ التقسيمثنائي ذو طرفين، والاُخرى: جعل عنوان التوصّليّة في مقابل عنوان التعبّديّة،مع أنّه لا يصحّ الجمع بين هاتين النكتيين في كلمات القوم والأعاظم، ولابدّ منالإعراض عن إحداهما.
والدليل على هذه الدعوى أنّ ما كان له عنوان المقدّمة للبحث، وهو أنّلفظ التعبّدي بحسب الظاهر واللغة عبارة عن عبادة الغير، ومعلوم أنّ صرفالإتيان بالعمل مع قصد القربة لا يوجب صدق عنوان العبادة وإن كان موجبللتقرّب إلى اللّه وترتّب الثواب الزائد عليه، ولذا لا تصدق العبادة على إطاعةالوالدين، وتطهير الثوب وإعطاء الزكاة وأمثال ذلك، وإن تحقّقت هذه الأعمالبقصد القربة، فالعبادة محدودة لحدّ خاصّ، والتضيّق مأخوذ في مفاده ومعناه.
وأمّا البحث عن طريق استكشاف عباديّة العمل فقال البعض: إنّ بعضالأعمال عبادة ذاتاً، مثل السجدة للغير فإنّها ملازمة للعبادة، سواء كانتللإنسان أو للصنم أو للّه تعالى.
ولكنّ التحقيق: أنّ السجدة ليست كذلك، بل قد يكون لها عنوان العباديّة،وقد يكون لها عنوان غير العباديّة، ويشهد على ذلك أمر الباري للملائكة
(صفحه528)
بالسجود لآدم عليهالسلام ، ومعلوم أنّ سجودهم له ليست عبادة وإلاّ لابدّ من القولبالتخصيص في الشرك في العبادة، مع أنّ الآية الشريفة: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنيُشْرَكَ بِهِى»(1) غير قابلة للتخصيص، فالسجدة لآدم ليست بعبادة له، بلكانت عملاً مأمور بها من الباري تعالى، فالطريق المنحصر لاستكشافعباديّة الأعمال عبارة عن بيان الشارع وتصريحه بها.
والحاصل: أنّ كلّ عمل واجب ليس بعبادة وإن كان إتيان العمل بقصدالقربة، ولذا يقال للمصلّي: إنّه مشغول في العبادة، ولا يقال لمن كان في مقامأداء الزكاة أو إطاعة الوالدين: إنّه مشغول في العبادة، ولا دخل لما أضاف إليهكلمة العبادة في معناها فأخذ معنى خاصّاً في مفهوم العبادة زائداً على قصدالقربة، فكانت ههنا ثلاثة عناوين: الأوّل: العنوان التعبّدي، الثاني: العنوانالتقرّبي. الثالث: عنوان الإطاعة.
ولا شكّ في أنّ العنوان التقرّبي أعمّ من العبادة، وعنوان الإطاعة وإناستعمل في لسان الاُصوليّين فيما يعتبر فيه قصد القربة، ولكنّه لغة أعمّ منالعنوان التقرّبي، فإنّ أمر اللّه تعالى بإطاعة الرسول صلىاللهعليهوآله في آية «أَطِيعُواْ اللَّهَوَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ»(2) أمر مولويّ بإطاعته، ولكن لا يعتبر في إطاعته قصدالقربة، وهكذا أمره صلىاللهعليهوآله الأنصاري بقلع نخلة سمرة بن جندب أمر مولويّ ليعتبر فيه قصد القربة.
وبالنتيجة: التقسيم الشائع في كلمات الاُصوليّين للواجب بأنّه إمّا تعبّديوإمّا توصّلي ليس بصحيح، فلابدّ لنا من الإعراض عن أحد الأمرين، إمّا من
(صفحه 529)
ثنائيّة التقسيم، وإمّا من العنوان التعبّدي وتبديله بالتقرّبي حتّى يدخل تحتهمالا يدخل تحت عنوان التعبّدي والتوصّلي، مثل: الخمس والزكاة، وأمّا إنكان القسم الأوّل عبارة عن التعبّدي مع حفظ ثنائيّة التقسيم فلايشمل هذجميع أقسام الواجبات قطعاً.
وقال بعض في مقام التعريف: إنّ الواجب التعبّدي: ما لا نعلم ولا يتعيّنغرضه، والتوصّلي: ما يتعيّن ونعلم غرضه، ولكنّه ليس في محلّه؛ لأنّا نعلمالغرض في كثير من الواجبات التعبّديّة، بل صرّح الشارع به في بعض الموارد،مثل: قوله تعالى في ذيل آية الصوم بـ «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1)، وقوله صلىاللهعليهوآله : «الصلاةمعراج المؤمن»(2)، وقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِوَ الْمُنكَرِ»(3)، وأمثال ذلك.
ولكنّ الحقّ كما قال به صاحب الكفاية قدسسره : إنّ الواجب التعبّدي: ما لايحصلالغرض منه بدون قصد القربة، والواجب التوصّلي: ما يحصل الغرض منهبمجرّد تحقّقه في الخارج، سواء تحقّق مع الالتفات والمباشرة وقصد القربة أم لا.
وأشكل عليه بأنّ الواجب التوصّلي لو كان كذلك فكيف يصدق عليهعنوان الواجب والتكليف، وعلى المخاطب عنوان المكلّف والمأمور؟!
وجوابه يظهر بعد ملاحظة أمرين في الواجب التوصّلي: الأوّل: أنّ الغرضمنه يحصل من أيّ طريق حصل الواجب؛ إذ الغرض في قول الشارع: «اغسلثوبك من أبوال مالا يؤكل لحمه» حصول الطهارة من أيّ طريق حصل.
الثاني: أنّ المفروض فيما كان المكلّف قادراً على إتيان المأمور به، فحينئذٍ
- (2) اعتقادات المجلسي: 29.
(صفحه530)
لا إشكال ههنا، لا من ناحية توجّه التكليف ولا من ناحية سقوط التكليف.
البحث الثاني: في أنّه هل يمكن أخذ قصد القربة في المتعلّق أم لا؟ وإذفرغنا من تعريف الواجب التعبّدي والتوصّلي فلنشرع في مسألة مهمّة في هذالبحث، وهي: أنّه كانت للواجبات التعبّديّة أجزاء وشرائط، وما كان ملحوظللآمر ومتعلّقاً للأمر هو عبارة عن الأجزاء والشرائط، والنزاع في أنّ قصدالقربة المعتبرة فيها هل كانت كسائر الأجزاء والشرائط متعلّقاً للأمروملحوظاً في مقام تعلّق الأمر أم لا؟
قال بعض العلماء بالأوّل، وقال جمع آخر بالثاني، وكان على رأسهم الشيخالأعظم الأنصاري(1) المبتكر لهذا البحث، وتبعه في ذلك أكثر تلامذته ومنهمصاحب الكفاية قدسسره (2).
ولكن قبل الخوض في البحث لابدّ لنا من بيان أمر مهمّ، وهو أنّه ربّميتوهّم أنّه لا يترتّب على هذا البحث ثمرة عمليّة، مع أنّه لا محلّ له؛ إذ قدتترتّب عليه ثمرة عمليّة مهمّة في صورة الشكّ، فإنّا لو شككنا في أنّ القنوتـ مثلاً ـ جزء للصلاة أم لا، والمرجع لنفي الجزئيّة قبل جريان الاُصول العمليّةهو التمسّك بالإطلاق اللفظي بعد فرض كون المولى في مقام البيان، وأمّا بعدفقدان الإطلاق لدليل وجوب الصلاة واليأس من الدليل اللفظي تصل النوبةإلى الاُصول العمليّة من البراءة أو الاشتغال، وهكذا الشكّ في شرطيّة شيءلها.
وأمّا إن شككنا في اعتبار قصد القربة في واجب من الواجبات واخترن
- (2) كفاية الاُصول 1: 107 ـ 112.
(صفحه 531)
قول الشيخ وتلامذته في المقام فلايمكن التمسّك بإطلاق دليل الوجوب، فإنّهلايجري في مورد كان التقييد مستحيلاً، كما سيأتي تفصيله، وإن اخترنا القولالأوّل في المسألة فيمكننا التمسّك به كالشكّ في سائر الأجزاء والشرائط.
إذا عرفت هذا فلنشرع البحث بذكر أدلّة القولين
قال الشيخ الأعظم قدسسره : إنّ القيود والأوصاف الدخيلة في المأمور به علىقسمين: الأوّل: ما يمكن اتّصاف المأمور به والواجب به قبل تعلّق الأمر، مثلالسورة والطهارة للصلاة؛ إذ يمكن تحقّق الصلاة ـ مع قطع النظر عن تعلّقالأمر ـ معهما وبدونهما لا مانع من الجزئيّة والشرطيّة لهذا السنخ من القيود فيمقام تعلّق الأمر. الثاني: مالا يمكن اتّصاف المأمور به والواجب به قبل تعلّقالأمر، مثل عنوان المأمور به والواجب والمستحبّ؛ إذ لا يمكن إطلاقه علىالمركّب من الأجزاء والشرائط قبل توجّه الأمر إليه، وقصد القربة أيضاً منقبيل هذه الأوصاف، فإنّ معناه إتيان العمل بداعي الأمر والامتثال بقصدالأمر كما هو المشهور، ولا يمكن إتيان الصلاة المقيّدة بداعي الأمر قبل تعلّقالأمر بها، بل هذا أمر مستحيل.
نعم، قد يكون المراد من قصد القربة إتيان العمل بداعي كونه محبوبللمولى، وقد يكون بمعنى إتيان العمل بداعي المصلحة الملزمة، وقد يكونبمعنى إتيان العمل بداعي كونه حسناً، وقد يكون بمعنى إتيان العمل بداعيحصول التقرّب بسببه إلى المولى، ولكن مراد الشيخ وتلامذته هو الأوّل،وأنّهم من القائلين بالاستحالة في المقام، مع اختلافهم في أنّ المقصود منالاستحالة الاستحالة بالذات أو الاستحالة بالغير.
وتوضيح ذلك: أنّه كما في باب الواجب قسم منه واجب الوجود بالذات