ولا يخفى أنّ هذا الإشكال يتوجّه إلى احتمال كون تمايز العلوم بتمايزالمحمولات أيضاً، فإنّ المحمولات متعدّدة ومتكثّرة ولا يكون لها قدر جامع أولا يتصوّر لها قدر جامع، فههنا يكون محلاًّ للإشكال بأنّه لا يكون للمرفوعيّةوالمنصوبيّة والمجروريّة ـ مثلاً ـ وجه مشترك، فيلزم أن تكون كلّها علممستقلاًّ، ولكنّه مع غضّ النظر عن السنخيّة التي نقول بها. والحاصل: أنّ كلامالمشهور ليس بصحيح.
والرأي الآخر في المسألة ما يستفاد من ظاهر كلام صاحب الكفاية قدسسره فإنّهبالرغم من موافقته المشهور في أصل الاحتياج إلى الموضوع ووحدته لكنّهخالفهم في هذه المسألة، وقال: «قد انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو
باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين».
والتزم بهذا المعنى قبله المرحوم مير سيّد شريف الجرجاني(1) وتبعه عدّةٌمن العلماء، منهم المحقّق الخراساني قدسسره ، ولا يذهب عليك أنّه يستفاد من صدركلامه وذيله مطالب ونكات، وهي كالآتي:
الأوّل: أنّ كلام المشهور عنده محلّ إشكال، فإنّ لازم كلامهم كون كلّمسألة علماً على حدة كما بيّنا آنفاً.
الثاني: أنّ نفس العلم عنده عبارة عن جملة من قضايا متشتّة يجمعهالاشتراك في الدخل في الغرض الذي لأجله دوّن هذا العلم، فمسائل علم النحوـ مثلاً ـ متعدّدة ومتكثّرة، ولكن يكون لها قدر مشترك، وهو مدخليّة الجميعفي صون اللسان عن الخطأ في المقال.
ومعلوم أنّه إذا كان مقصوده بيان معنى العلم فهذه مقدّمة لرأيه بأنّ تمايزالعلوم تكون بتمايز الأغراض؛ لأنّه إذا كان الجامع بين المسائل المدخليّة فيالغرض فالجامع المشترك بينها هو الغرض الواحد، وإذا كان الأمر كذلك فلمحالة يكون تمايز العلوم بتمايز الأغراض.
والحاصل: أنّ الملاك في اتّصاف مسألة بأنّها من مسائل علم النحو ـ مثلاً مدخليّتها في تحقّق الغرض، فإن كان لها دخل في تحقّق الغرض فهي منمسائل علم النحو، وإن لم يكن لها دخل فيه فلا تكون من مسائله.
الثالث: أنّ مقصوده من الغرض الواحد هو غرض التدوين الذي يوجبتحقّق المركّب الاعتباري، لا غرض التعلّم والمتعلّم.
الرابع: أنّ العلم يتحقّق بالتدوين، وإلاّ لم يكن قبله إلاّ مجموعة مسائل
(صفحه 49)
ولا تسمّى بالعلم، فإذا دوّنت مسائل علم النحو نقول: هذا علم النحو.
وفيه: أوّلاً: أنّ الغرض من علم النحو ـ مثلاً ـ عبارة من صون اللسان عنالخطأ في المقال، ولاشكّ في أنّ هذا متأخّرٌ عن العلم بمراحل، فإنّ اللازم أوّلاً:وجود نفس المسائل، وثانياً: التعلّم والاطّلاع عليها، وثالثاً: التقيّد بمراعاةالقواعد والمسائل حين التكلّم، فإن لم تكن مرحلة من هذه المراحل لم يحصلالغرض، مع أنّ اللازم وجود التمايز في مرحلة نفس العلم إن لم يكن قبله،فكيف يكون التمايز بالأغراض مع تأخّرها عن العلوم بمراحل؟
وجوابه: أنّه اختلطت عليك العلّة الغائيّة في مقام الخارج مع العلّة الغائيّة فيمقام الذهن؛ إذ لاشكّ في أنّ كلّ عمل خارجي يتأخّر وقوع غرضه، وأمّالوجود الذهني للعلّة الغائيّة فهو موجودٌ قبل العمل.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره : «إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلىالتدوين»(1). ومعلوم أنّ نفس هذا التعبير هو جواب عن هذا الإشكال.
وثانياً: أنّ العلوم من حيث الأغراض مختلفة؛ إذ يترتّب على أكثرهأغراض خارجيّة، مثل: علم الفقه والاُصول والنحو والصرف ونحوها، وأمّبعضها فلا يترتّب عليه غرض خارجي سوى العرفان والإحاطة به، مثل:علم الفلسفة والتأريخ والجغرافيا؛ إذ لا يترتّب عليها إلاّ الإيصال إلى الحقائقوالواقعيّات، فإن كانت العلوم من سنخ الأوّل سلّمنا أنّ تمايزها بتمايزالأغراض، وإن كانت من سنخ الثاني لم يكن الأمر كذلك؛ لعدم غرضخارجي لها ماعدا العرفان والإحاطة به.
وجوابه: أنّه إذا كان تمايز العلوم بتمايز الأغراض فلا فرق بين كونها علميّةً