(صفحه436)
يحمل على اللّه تعالى غير العالم المحمول علينا؛ إذ لا إشكال في كون المبدأ عينفي الواجب وزائداً في الممكن، بناءً على مذهب الحقّ.
الأمر الرابع: في كيفيّة حمل صفات البارئ على ذاته المقدّسة
وأمّا في الجهة الثانية من المسألة فتتحقّق أقوال متعدّدة:
منها: ما نسب إلى الأشاعرة، وهو أن تكون كيفيّة ارتباط المبدأ بالذاتبنحو القيام الحلولي كقيام البياض بالجسم، ثمّ لاحظوا أنّ صفة المتكلّم ممّيكون إطلاقه عليه تعالى صحيحاً في جميع الشرائع، ولاحظوا أيضاً أنّ قياممبدئه ـ يعني الأصوات الخاصّة ـ على ذات الباري لو كان بنحو القيام الحلولييستلزم أن يقع الباري مع كونه قديماً معروضاً للحوادث؛ إذ لا شبهة في أنّالأصوات من الاُمور الحادثة. ولذا التزموا بأنّ مبدأ المتكلّم إذا أطلق على اللّهسبحانه فهو كلام النفس، وهو قديم وقائم على ذات الباري بنحو الحلول.
ويمكن أن يُجاب عنه بأنّ قيام المبدأ بالذات بنحو القيام الحلولي في جميعالمشتقّات واضح البطلان، فإنّه سلّمنا أنّ قيام الضرب بالمضروب ـ مثلاً حلولي، ولكنّه بالضارب صدوري لا حلولي، فليس ارتباط المبدأ بالذاتبنحو القيام الحلولي أبداً.
ومنها: ما قيل بعدم اعتبار القيام في ارتباط المبدأ بالذات أصلاً، فإنّه توهّمأنّ كلمة «القيام» ملازمة لكلمة «الحلول»، وإشكاله أوضح من أن يخفى.وللتفصّي عن هذا الاشكال التزم بعدم اعتبار القيام رأساً.
ومنها: ما عن ظاهر الفصول(1) من اعتبار القيام بالمعنى الأعمّ من الحلول
(صفحه 437)
والصدور فيما لم يكن المبدأ ذاتاً، مثل: الضارب والمضروب ونحو ذلك، وعدماعتبار القيام فيما كان المبدأ ذاتاً كالابن، وإذا كان المبدأ عين الذات كصفاتالواجب تعالى فالتزم بالنقل أو التجوّز؛ للتفصي عن الإشكال؛ بأنّ قيام مبدالعالم ـ مثلاً ـ بذات الباري لا يكون بنحو الحلول والصدور، فقولنا: «اللّه تعالىعالم» ليس بصحيح.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني قدسسره (1) بأنّه إذا قلنا: «اللّه تعالى عالم» إمّا أننعني أنّه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العامّ الشامل للواجبوالممكن، أو أنّه مصداقٌ لما يقابل ذاك المعنى المعبّر عنه بالجهل، فمعنى العالمحينئذٍ هو الجاهل، فتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
وإمّا أن لا نعني شيئاً فتكون صرف لقلقة لسان وألفاظ بلا معنى، فلابدّ منإرادة المعاني العامّة من الصفات؛ لئلاّ يلزم شيء من المحذورين فيه تعالى.
والإنصاف أنّ هذا الجواب عن صاحب الفصول ليس بصحيح، فإنّه اعتبرفي قيام المبدأ بالذات الجامع بين الحلولي والصدوري، ولمّا كان هذا السنخ منالقيام ممتنعاً فيه سبحانه وتعالى التزم صاحب الفصول بالنقل أو التجوّز بمعنىإرادة معنى من العلم والقدرة، مثلاً: يكون عين ذاته عزّ وجلّ ولا يكون زائدعليها، فيصحّ قولنا: «اللّه تعالى علمٌ»، بل هذا التعبير أولى من قولنا: «اللّهتعالى عالم».
وقال صاحب الكفاية قدسسره (2): والتحقيق: أنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان مناُولي الألباب في أنّه يعتبر في صدق المشتقّ على الذات وجريه عليها من
- (1) كفاية الاُصول 1: 88 .
- (2) المصدر السابق: 86 ـ 88 .
(صفحه438)
التلبّس بالمبدأ بنحو خاصّ على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواردتارة، واختلاف الهيئات اُخرى، من القيام صدوراً ـ كالإعطاء والضرب ـ أوحلولاً ـ كالمرض ـ أو وقوعاً عليه ـ كالضرب بالنسبة إلى المضروب ـ أو فيهـ كمجلس ومسجد ـ أو انتزاع المبدأ عن الذات مفهوماً مع اتّحاد معها خارجكما في صفاته تعالى، أو مع عدم تحقّق إلاّ للمنتزع عنه كما في الإضافات ـ نحوالاُبوّة ـ والاعتبارات ـ نحو الملكيّة ـ التي لا تحقّق لها ولا يكون بحذائها فيالخارج شيء، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايراً له مفهوموقائماً به عيناً، لكنّه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك اثنينيّة وكان ما بحذائهغير الذات، بل بنحو الاتّحاد والعينيّة وكان ما بحذائه عين الذات، وعدم اطّلاعالعرف على مثل هذا التلبّس من الاُمور الخفيّة لا يضرّ بصدقها عليه تعالىعلى نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ولو بتأمّلٍ وتعمّلٍمن العقل، والعرف إنّما يكون مرجعاً في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها علىمصاديقها. هذا ملخّص كلامه قدسسره .
وما يستفاد من كلام الإمام قدسسره (1) وبعض الأعلام على ما في كتابالمحاضرات(2) أنّه لا يعتبر في جري المشتقّ على الذات تلبّسها بالمبدأ حتّىنحتاج إلى توسعة دائرة التلبّس وشمول الموارد التي لا يساعدها العرف،وينتهي الأمر إلى إنكار مرجعيّة العرف، بل المعتبر فيه واجديّة الذات للمبدفي قبال فقدانها له، وهي تختلف باختلاف الموارد، فتارة يكون الشيء واجدلما هو مغاير له وجوداً ومفهوماً، كما هو الحال في غالب المشتقّات.
- (1) تهذيب الاُصول 1: 128.
- (2) محاضرات في الفقه 1: 291 ـ 292.
(صفحه 439)
واُخرى يكون واجداً لما هو متّحد معه خارجاً وعينه مصداقاً وإن كانيغايره مفهوماً، كواجديّة ذاته تعالى لصفاته الذاتيّة.
وثالثاً يكون واجداً لما يتّحد معه مفهوماً ومصداقاً وهو واجديّة الشيءلنفسه، وهذا نحو الواجديّة، بل هي أتمّ وأشدّ من واجديّة الشيء لغيره،فالواجديّة خصوصيّة متحقّقة في المشتقّ، ويشهد له التبادر والوجدان.
وأمّا كيفيّة الواجديّة من كونها بنحو العينيّة أو بنحو زيادة المبدأ علىالذات فلا دخل لها في مفهوم المشتقّ، فالعالم يعني الواجد للعلم، سواء كانتالواجديّة بنحو العينيّة ـ كما في الباري ـ أم بنحو زيادة المبدأ على الذات ـ كمفي المخلوقين ـ فإنّهما خارجتان عن مفهوم العالم، فلا فرق بين إطلاق العالم علىزيد ـ مثلاً ـ وعلى الباري من حيث كونه إطلاقاً حقيقيّاً، فلا نحتاج إلىالالتزام بالنقل والتجوّز. وهذا المعنى قريب إلى الذهن بعد الدقّة والتأمّل،والعرف أيضاً يساعده.
الأمر الخامس: لا يعتبر في صدق المشتقّ التلبّس الحقيقيّ
الظاهر أنّه لا شكّ في أنّ إطلاق كلمة «جارٍ» على الماء كـ «الماء جارٍ»إطلاق حقيقي، ولا بحث فيه، ولا شكّ أيضاً في أنّ إطلاق كلمة «جارٍ» علىالميزاب ـ كما في الميزاب جارٍ ـ إطلاق مجازي، وإنّما البحث في أنّ لفظ «جارٍ»بما أنّه مشتقّ هل هو استعمل فيه في معناه الحقيقي حتّى يكون مجازاً فيالإسناد، أم استعمل في غير معناه الحقيقي حتّى يكون مجازاً في الكلمة؟
وما يستفاد من كلام صاحب الفصول(1) أنّه يعتبر في صدق المشتقّ حقيقةً
(صفحه440)
الإسناد الحقيقي، فلازمه أن يكون قولنا: «الميزاب جارٍ» مجازاً في الكلمة،ولكنّ المحقّقين قائلون بأنّ كلمة «جارٍ» استعملت في معناها الحقيقي، إلاّ أنّتطبيقها على الميزاب وإسناده إليه مجازي، فكلمة «جارٍ» في قولنا: «الماءجارٍ»، وفي قولنا: «الميزاب جارٍ» استعملت في معناها الحقيقي بلا فرق بينهما،إلاّ أنّ الإسناد في الأوّل حقيقي، وفي الثاني مجازيٌ.
فالتحقيق: أنّ الحقّ مع المحقّقين، وما قال به صاحب الفصول كان من بابالخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة. هذا تمام الكلام في بحث المشتقّ.