(صفحه 331)
أو الشرطيّة، وإجمال الخطاب.
ولكنّ دقّة النظر تحكم بالفرق بين البابين من حيث ترتّب الثمرة، فإنّالعبادات تكون من الموضوعات الشرعيّة، ولذا يعبّر عنه بالموضوعاتالمستنبطة، وأمّا المعاملات فتكون من الموضوعات العرفيّة والعقلائيّة، ويشهدله أوّلاً: المراجعة في تعيينها إلى العرف، فإذا قال الشارع: «الدم نجس»و«الخمر حرام» فالمرجع في تشخيصها هو العرف، بأنّ كلّ ما يحكم العرفبأنّه دم أم خمر فهو كذلك، وهذا المعنى بعينه يجري في باب «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»وأمثال ذلك؛ إذ البيع فيه هو البيع العرفي.
وثانياً: أنّه لو كان المراد من البيع في الآية الشريفة البيع الشرعي فإنّهيوجب اللغويّة، فيكون معناها على هذا: «أحلّ البيع الذي أحلّه اللّه» وهو كمترى، فلابدّ من كون البيع فيها بيعاً عرفيّاً، بمعنى أنّ كلّ ما يكون بيعاً عندالعقلاء فقد أمضاه اللّه تعالى إلاّ ما خرج بالدليل كما سيأتي تفصيل الكلام فيه.
إذا عرفت هذا فنقول: الإنصاف أنّ الشكّ في المعاملات على ثلاثة أقسام:
الأوّل: فيما يصحّ للصحيحي والأعمّي معاً التمسّك بالإطلاق، وهو الشكّ فيالأمر الذي لا يوجب وجوده ولا عدمه الضرر في الصحّة العرفيّة، كالشكّ فياعتبار العربيّة في صيغة البيع، فيصحّ للأعمّي التمسّك بإطلاق «أَحَلَّ اللَّهُالْبَيْعَ»ونفي العربية، وهكذا للصحيحي، فإنّ وجودها وعدمها بنظر العرفسواء.
الثاني: فيما لا يصحّ لهما معاً التمسّك به، كالشكّ في ركنيّة شيء في البيع، فإنّمع عدم الشيء المشكوك الركنيّة لا يحرز عنوان المطلق حتّى يتمسّك به لنفيه.
الثالث: فيما يصحّ للأعمّي التمسّك به بخلاف الصحيحي، كالشكّ في أنّ ماليّة
(صفحه332)
الثمن ـ مثلاً ـ هل لها دخل في صحّة البيع العرفي أم لا؟ وإذا كان الثمن فاقدللماليّة هل هذا البيع صحيح عند العقلاء أم لا؟ مع أنّا نعلم بعدم دخالتها فيصدق أصل عنوان البيع، فههنا يتمسّك الأعمّي بإطلاق «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»،ويحكم بعدم شرطيّة الماليّة؛ لأنّ الموضوع فيها هو مطلق البيع، سواء كانصحيحاً عند العقلاء أو فاسداً، فيصدق عنوان المطلق، بخلاف الصحيحي، فإنّهيقول بأنّ الموضوع فيها هو البيع الصحيح عند العقلاء، فإذا شكّ في صحّتهعندهم لم يحرز عنوان المطلق، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقه عنده. فيكون هذا ثمرةالنزاع بين القولين.
بقيت هنا مسألتان:
الاُولى: أنّ البيع في الآية الشريفة لا يمكن أن يكون بيعاً شرعيّاً، فإنّشرعيّته مأخوذة من هذه الآية، فلا معنى لكون موضوعه فيها بيعاً شرعيّاً،فلابدّ من كونه فيها بيعاً عرفيّاً، وإذا كان الأمر كذلك فمعناها أنّ كلّ ما كانعند العقلاء بيعاً صحيحاً فقد أمضاه اللّه تعالى، وكأنّه تحقّقت الملازمة بينصحّة البيع عند العقلاء وصحّة البيع عند الشارع، وحينئذٍ يمكن أن يستشكلبأنّا نرى عدم تحقّق الملازمة في موارد متعدّدة، كالبيع الربوي والبيع الغرريوأمثال ذلك ممّا حكم الشارع ببطلانها، مع أنّه عند العقلاء يكون منالمعاملات المعمولة والشائعة، فكيف تدلُّ الآية بالملازمة بينهما؟!
وجوابه: أنّ الآية تكون بمنزلة قاعدة كلّيّة، وقد كانت لها مقيّدات متعدّدةلا توجب الخدشة في إطلاقها؛ لأنّ التقييد كالتخصيص تصرّفٌ في الإرادةالجدّيّة لا في الإرادة الاستعماليّة، ولذا لا يوجبان التجوّز في لفظ العامّ والمطلق،وكما أنّ لسائر المطلقات تحقّق المقيّدات، وفي موارد الشكّ يتمسّك بالإطلاق،
(صفحه 333)
وهكذا في باب المعاملات، مع أنّ في خصوص البيع الربوي خصوصيّة لتتحقّق في موارد اُخر، وهي أنّ التعبير بالإطلاق والتقييد فيما إذا كان القيدمتّصلاً لا يخلو عن مسامحة وعناية؛ إذ لا إطلاق في البين، بل الحكم كان مقيّدمن الابتداء، فالإطلاق والتقييد يتحقّقان فيما إذا كان القيد منفصلاً، وأمّا فيالآية الشريفة فقد ذكرت جملة: «حَرَّمَ الرِّبَواْ» عقيب جملة «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»وكأنّما قال سبحانه: «الربا ليس ببيع» من الابتداء، ويستفاد من مجموعالجملتين أنّه: أحلّ اللّه البيع الغير الربوي، أو أنّ الربا غير مشروع؛ لأنّه ليسببيع كما يفهمه العرف من مقابلة البيع والربا في الآية، فالجملة الثانية تشبهالاُولى بدليل الحاكم، فكأنّ الاُولى تقول: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ». والثانية تقول:«البيع الربوي ليس ببيع عند الشارع».
المسألة الثانية: أنّه قد مرّ أنّ نزاع الصحيحي والأعمّي في ألفاظ المعاملاتلا يجري إلاّ إذا كانت موضوعة للأسباب دون المسبّبات، وأمّا إن قلنا:بوضعها للمسبّبات ـ كما اختاره شيخنا الأعظم الأنصاري قدسسره (1) والظاهر أنّالحقّ معه ـ فمعنى الآية أنّ اللّه تعالى قد أمضى الملكيّة في مورد البيع، وحينئذٍإن شككنا في أنّه إذا كان صيغة البيع بالفارسيّة هل تؤثّر هذه الصيغة في تحقّقالملكيّة أم لا؟ فمع أنّ الشكّ في محدودة الأسباب وإطلاق الآية في محدودةالمسبّبات فكيف يكون هذا الإطلاق قابلاً للاستناد والتمسّك؟!
أشكل بعض بأنّ بعد ملاحظة الأسباب والمسبّبات يستفاد أنّ المسبّب قدلا يكون له إلاّ سبب واحد، وقد يكون له أسباب متعدّدة، لكن الأسباب قدتكون كلّها في رديف واحد من حيث التأثير في المسبّب وعدمه. وقد يكون
(صفحه334)
بعضها متيقّن التأثير وبعضها مشكوك التأثير، فإن كان السبب والمسبّب منقبيل القسم الأوّل فلا شكّ في أنّ إمضاء المسبّب بقوله: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»يستلزم إمضاء السبب أيضاً، وكذلك في القسم الثاني، فإنّ إمضاء المسبّبيستلزم إمضاء جميع الأسباب؛ لأنّها في رديف واحد، إلاّ أنّ هذين القسمينقلّما يتحقّقان، وأمّا إذا كان من قبيل القسم الثالث وشكّ في شرطيّة العربيّة فيعقد البيع ـ مثلاً ـ ونعلم أنّ إجراءه باللغة العربيّة موثّرة في السببيّة ونشكّ فيتأثير اللّغة الفارسيّة فيها، فلا محلّ للتمسك بإطلاق «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» لنفيشرطيّة العربيّة، وهذا إشكال مهمّ ويترتّب عليه في الفقه ثمرات متعدّدة، وهذالقسم محلّ ابتلاء وشائع بين الناس، فكيف يندفع الإشكال هنا؟
وقال المحقّق النائيني قدسسره (1) في مقام جوابه: إنّ نسبة صيغ العقود إلىالمعاملات ليست نسبة الأسباب إلى مسبّباتها حتّى يكونا موجودينخارجيّين يترتّب أحدهما على الآخر ترتّباً قهريّاً، بل نسبتها إليها نسبة الآلةإلى ذيها؛ بداهة أنّ قول: «بعت» أو «أنكحت» ليس بنفسه موجداً للملكيّة أوالزوجيّة في الخارج نظير الإلقاء الموجود للإحراق، فإذا لم يكن من قبيلالأسباب والمسبّبات فليس هناك موجودان خارجيّان حتّى لا يكون إمضاءأحدهما إمضاء للآخر، بل كان كلّ واحد منهما موجوداً بوجود واحد، وحينئذٍلا فرق بين أن يكون إطلاق «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» ناظراً و شاملاً للآلة أو ذيها،فيكون إمضاء أحدهما ملازماً لإمضاء الآخر، فيتمسّك بالإطلاق في صورةالشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّة شيء ونفيها به.
ولكنّ الجواب مخدوش من جهتين:
- (1) فوائد الاُصول 1: 81 ـ 82 .
(صفحه 335)
الاُولى: أنّ القائل بالسببيّة لا يقول: بأنّ السبب عبارة عن نفس كلمة«بعت» و«اشتريت» ولو كان القائل في حال النوم أو في مقام الإخبار، بلالسبب عنده عبارة عن قولهما في مقام الإنشاء مع قصد التمليك والتملّك، فنسبةهذا التوهّم إليه بعيد من المحقّق النائيني قدسسره .
الثانية: أنّا لا نعلم أنّ مقصوده من اتّحاد الآلة وذيها ما هو؟ فكيف يعقلالاتّحاد الوجودي بين السكّين والقتل أو القلم والكتابة مع أنّ الاُولى تكونمن مقولة الجوهر والثانية من مقولة الفعل؟! مع أنّ في باب المعاملات شاهدأقوى على أنّ بين الآلة وذيها يتحقّق كمال المغايرة، وهو أنّ الآلة عبارة عناللفظ ولها واقعيّة غير قابلة للإنكار، وأمّا ذوها فعبارة عن الملكيّة وأمثالذلك، وهي من الاُمور الاعتباريّة، ولا يعقل الاتّحاد بينهما أصلاً.
ولو سلّمنا أنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات نسبة الآلة إلى ذيها فلمناص عن تعدّد الوجود، وإذا كان الأمر كذلك فيعود الإشكال ههنا أيضاً؛لأنّه يدور مدار تعدّد الوجود، فإذا كانت الآلة وذوها متعدّدة والآية الشريفةناظرة إلى ذيها فهو دليل على عدم إمضاء المعاطاة والبيع بالفارسيّة وأمثالذلك من الأسباب أو الآلات المشكوكة، إلاّ في صورة وحدة السبب أو تعدّدهوكونها في رديف واحد من حيث التأثّر وعدمه.
وأمّا التحقيق في الجواب فيحتاج إلى مقدّمتين: إحداهما: أنّ المسبّبات التيوضعت الألفاظ والعناوين لها عبارة عن المسبّبات العرفيّة لا الشرعيّة، ولكنّالشكّ في السببيّة الشرعيّة بعد إحراز السببيّة العرفيّة، فإنّا نعلم أنّ المعاطاةوالبيع بالفارسيّة وأمثال ذلك لها سببّية عند العرف، ونشكّ في إمضاء الشارعلسببيّتها وعدمه.