(صفحه 461)
ـ مثل ما نحن فيه ـ فنقطع بعدم جريانه، ولا أقلّ من الشكّ، وهو يكفي في عدمجريانه؛ إذ لابد من إحراز مورد جريان الأصل العقلائي. كما لا يخفى.
واستدلّ المحقّق الخراساني قدسسره (1) على كون الأمر حقيقةً في خصوص الطلبالوجوبي بأدلّة متعدّدة:
منها: التبادر، وهو أمر وجداني لايمكن الاستدلال به له، ولذا أنكره بعضكالمحقّق العراقيّ قدسسره (2)، ولكنّ مراجعة الاستعمالات العرفيّة تؤيّد التبادر المذكورفي كلام صاحب الكفاية قدسسره ، بل هو دليل مهمّ في المقام، ولعلّه هو الدليلالمنحصر ههنا.
ومنها: قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِىآ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْيُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(3)، والاستدلال مبتنٍ على ما سيأتي إثباته من أنّ دلالةهيئة «افعل» على الوجوب، فتقريبه على هذا: أنّه تعالى هدّد وحذّر مخالفالأمر بأنّه يجب على مخالف الأمر الحذر من إصابة الفتنة أو العذاب الأليم؛ إذلا معنى لندب الحذر أو إباحته، فيدلّ ترتّب وجوب الحذر على مطلق مخالفةالأمر على أنّ الأمر حقيقة في الوجوب.
ويمكن أن يقال: إنّ في الآية قرينة على دلالة الأمر على الوجوب، وهيعبارة عن إضافة الأمر إلى اللّه تعالى، وهذا لايناسب المدّعى من أنّ الأمرمطلقاً مساوق للطلب الوجوبي، ولعلّه كان دليلاً لجعلها مؤيّداً في الكفاية.
وأورد عليه أيضاً المحقّق العراقي قدسسره (4)، وبيان الإيراد متوقّف على ذكر مقدّمة
- (2) نهاية الأفكار 1: 160 ـ 163.
- (4) نهاية الأفكار 1: 162.
(صفحه462)
سيأتي تفصيلها في بحث العامّ والخاصّ، وهي: أنّه لو ورد خطاب بوجوبإكرام كلّ عالم، وقد علم من الخارج بعدم وجوب إكرام زيد، لكنّه يشكّ في أنّهمصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم العامّ بنحو التخصيص، أوأنّه لا يكون مصداقاً للعالم حقيقةً كي يكون خروجه من باب التخصّص، فهلتجري ههنا أصالة العموم لإثبات عنوان الجاهل لزيد وخروجه عن الحكمبنحو التخصّص أم لا؟ والمحققّون قائلون بعدم جريان أصالة العموم والإطلاقفي مثل ذلك المورد، فإنّ الدليل على حجّيّتهما عبارة عن السيرة وبناء العرفوالعقلاء، والقدر المتيقّن من جريانهما إنّما هو في خصوص الشكّ في المراد، وأمّإذا كان الشكّ في كيفيّة الاستعمال كما في ما نحن فيه فلا تجري أصالة العموموالإطلاق، فإنّا نعلم بعدم وجوب إكرام زيد ـ مثلاً ـ ونشكّ في خروجه عنالحكم بنحو التخصيص أو التخصّص، فلا محلّ لجريان أصالة العموم.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّ لفظ الأمر في الآية بلحاظ ترتّب وجوب الحذرعلى مخالفته محمول على الأمر الوجوبي قطعاً؛ إذ لا معنى لترتّبه على الأمرالاستحبابي بعد جواز تركه شرعاً، فلا شبهة في مراده تعالى، وإنّما الشكّ في أنّالأمر الاستحبابي هل يطلق عليه الأمر حقيقةً وأنّه خارج عن الآية تخصيصـ مثل «زيد» المذكور في المثال إذا كان عالماً ـ أو يطلق عليه الأمر بالعنايةوالمجاز وأنّه خارج عنها تخصّصاً؛ لأنّ الأمر الاستحبابي لا يكون أمراً فليفيد جريان أصالة الإطلاق في الآية ههنا؛ إذ الشكّ خارج عن مراده تعالىومفاد الآية؟!
ومنها: قوله تعالى: «مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»(1) فإنّه ورد في مقام
(صفحه 463)
توبيخ إبليس بسبب تركه لما اُمر به من السجود لآدم حينما قال تعالىللملائكة: «اسْجُدُواْ لاِءَدَمَ فَسَجَدُوآاْ إِلاَّآ إِبْلِيسَ»(1)، ومعلوم أنّه لا توبيخ إلاّ فيترك الواجب، فالأمر حقيقة في الوجوب.
يرد عليه أيضاً الإشكالان المذكوران؛ لأنّ غاية ما يستفاد من ذلك أنّ أمراللّه تعالى حقيقة في الوجوب؛ إذ يمكن أن يقال: إنّ مطلق الأمر لا يكونكذلك.
على أنّ توبيخه تعالى قرينة على كون الأمر في الآية حقيقة في الوجوب،فلا شكّ في مراده تعالى؛ وإنّما الشكّ في أنّ خروج الأمر الاستحبابي عن الآيةهل يكون بنحو التخصيص أو التخصّص؟ ولا طريق لإثبات ذلك، ولا تجريأصالة العموم أو الإطلاق ههنا.
ومنها: قوله صلىاللهعليهوآله : «لولا أنّ أشقّ على اُمتي لأمرتهم بالسواك»(2)؛ إذ الكلفةوالمشقّة لا تكون إلاّ في التحريم والوجوب، وأمّا إطلاق التكليف علىالاستحباب والكراهة والإباحة فلايخلو عن مسامحة، فهذا التعبير دليل علىأنّ الأمر في الآية حقيقة في الوجوب، مع أنّه صلىاللهعليهوآله أمر مراراً بالسواك على وجهالاستحباب، فلابدّ من كون هذا الأمر للوجوب، وإلاّ لزم لغويّة الأمر المترتّبعلى المشقّة.
ولكن يرد فيه أيضاً الإشكالان المذكوران؛ إذ يمكن أن يقال: إنّ أمره صلىاللهعليهوآله حقيقة في الوجوب، وأمّا مطلق الأمر فلايكون كذلك.
على أنّ مراده صلىاللهعليهوآله في الرواية معلوم، ولا طريق لإثبات أنّ خروج الأمر
- (2) الوسائل 2: 17، الباب 3 من أبواب السواك، الحديث 4.
(صفحه464)
الاستحبابي عنها بنحو التخصّص أو التخصيص، ولا تجري في المقام أصالةالعموم أو الإطلاق.
ومنها: ما يقول به المحقّق العراقي قدسسره (1) من أنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمةتدلّ على أنّ لمادّة الأمر ظهور في الطلب الوجوبي، وتقريبه من وجهين،وحاصل أحدهما: أنّ المولى إذا أمر عبده بأن قال: «جئني بحيوانٍ» ونعلم أنّهله أنواع متعدّدة ومتباينة، ولا يصدق أحد النوعين على فرد من أفراد النوعآخر؛ إذ الإنسان والحمار ـ مثلاً ـ نوعان متباينان، ولا يصدق الإنسان علىفرد من أفراد الحمار وبالعكس، مع أنّهما مشتركان في الجنس بمقتضى الإطلاقوتماميّة مقدّمات الحكمة، أي كون المولى في مقام البيان، وعدم تحقّق القرينةللتقييد بأحد النوعين، وعدم قدر متيقّن في مقام التخاطب على قول أنّ متعلّقغرض المولى هو الإتيان بأيّ نوع من الأنواع، ولا دخل لنوع خاصّ فيه.وهكذا في ما نحن فيه بأنّ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص أوجواز المخالفة، أو عدم التماميّة يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد بخلاف الطلبالوجوبي، فكان مقتضى الإطلاق بعد كون الآمر في مقام البيان هو كون طلبهطلباً وجوبيّاً لا استحبابيّاً؛ إذ الوجوب عبارة عن مطلق الطلب بلا زيادة،والاستحباب عبارة عن الطلب المقيّد بالنقصان.
وجوابه: أوّلاً بالنقض، وثانياً بالحلّ.
وأمّا الجواب النقضي: فإنّه لا فرق على القاعدة بين أن يقول المولى: «أنآمرك بكذا»، و«أنا أطلب منك كذا»، بل جريان الإطلاق في الجملة الثانيةأجلى من الجملة الاُولى، ولا أقلّ من اتّحاد الجملتين من حيث الملاك، مع أنّ
- (1) نهاية الأفكار 1: 163.
(صفحه 465)
الظاهر منه قدسسره عدم جريان الإطلاق في الجملة الثانية.
وأمّا الجواب الحلّي فيُقال: إنّ هذا الكلام غير معقول من أصله؛ لأنّ تقسيمالطلب إلى الطلب الوجوبي والاستحبابي يأبى من أن يكون القسم عين المقسممن دون زيادة، بل لابدّ في المقسم من تحقّقه في القسمين بعنوان الجنس، وفيالقسم لابدّ منه ومن أمر زائد بعنوان الفصل المميّز، فلا يعقل أن يكون الطلبالوجوبي عبارة عن مطلق الطلب بلا زيادة، ولذا قال المحقّقون في مقام الفرقبين اللابشرط المقسمي واللابشرط القسمي، بأنّ اللابشرط المقسمي عبارةعن ذات الماهيّة فلذا يجتمع مع ألف شرط، واللابشرط القسمي ماهواللابشرطيّة من قيده، فهذا الدليل أيضاً ليس بصحيح، فالدليل المنفردوالواحد للمسألة هو التبادر فقط.
إذا عرفت هذا فلابدّ لنا من ذكر ما به يمتاز الوجوب من الاستحباب، فإنّهمفيدٌ لهذا البحث، والبحث الآتي في هيئة «افعل» ولموارد اُخر، ولكن قبلالخوض في البحث نذكر ما يظهر من الفلاسفة بعنوان المقدّمة: من أنّ امتيازالشيئين على ثلاثة أنواع: إمّا بتمام الذات أو بجزء منها أو بأمر خارج عنها.
أمّا الأوّل فهو فيما إذا لم يشتركا أصلاً أو اشتركا في أمر خارج عن ذاتهما،كامتياز كلّ من الجوهر والعرض وأنواعهما من الآخر، فالجوهر وأنواعهممتازة بتمام الذات من العرض وأنواعه، واشتراكهما في عناوين مثل الممكنوالشيء خارج عن ذاتهما.
وأمّا الثاني فهو فيما إذا اشتركا في بعض الأجزاء وامتيزا في بعض آخركامتياز النوعين من جنس واحد نحو الإنسان والفرس، فإنّهما مشتركان فيالحيوانيّة وممتازان بالناطقيّة والصاهليّة.
وأمّا الثالث فهو فيما إذا اشتركا في تمام الذات كامتياز زيد عن بكر، فإنّهما