(صفحه296)
وقال: «إنّ المنسبق إلى الأذهان من ألفاظ العبادات هو الصحيح، ومعلوم أنّهمن علائم الحقيقة، بل لعلّه كان علامة وحيدة لها».
ثمّ استشكل عليه بأنّه كيف تصحّ دعوى تبادر الصحيح من ألفاظالعبادات مع ما تقدّم في مقام تصوير الجامع على هذا القول من أنّ الجامع لطريق للعلم به؟! إلاّ أنّه قابل للإشارة إليه من طريق الآثار كالناهي عنالفحشاء وما هو معراج المؤمن وأمثال ذلك، فالجمع بين تبادر الصحيح منهوبين عدم العلم بالجامع بعينه جمع بين المتناقضين لمنافاة التبادر مع إجمالالمعنى.
وقال قدسسره في مقام الجواب عنه: إنّ المنافاة بينهما إنّما تتحقّق فيما إذا كان المجملمجملاً من جميع الجهات، وأمّا إذا كان مجملاً من جهة ومبيّناً من جهة اُخرىـ مثل منشأيّتها للآثار كالمعراجيّة وغيرها ـ فيكفي ذلك في صحّة دعوىالتبادر. نعم، يتوجّه هذا الإشكال إلى الأعمّي، فإنّه لو ادّعى التبادر علىمدّعاه بعد كون الجوامع المتصوّرة عندهم جميعاً مخدوشة، فيستشكل عليهبأنّ الجامع إذا لم يكن مبيّناً لا بالذات ولا بالآثار كيف يتبادر إلى الأذهان؟!هذا محصّل كلامه قدسسره .
ولكن أشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) وإشكاله يبتني علىمقدّمتين:
الاُولى: في أنّ الماهيّات في وعاء تقرّرها متقدّمة على الوجود، ولا يكونوعاء تقررها في عرض تحقّق الوجود، بل هي بعنوان الموصوف متقدّمة منحيث الرتبة على الوجود، ويشهد له قولهم: بأنّ الماهيّة من حيث هي ليست
- (1) تهذيب الاُصول 1: 82 ـ 84 .
(صفحه 297)
إلاّ هي، لا موجودة ولا معدومة، يعني: لا ارتباط بينها وبين الوجود والعدمفي وعاء تقرّرها، بل الوجود والعدم يعرضان لها بعنوان الوصف. ولذا يقال:الماهيّة قد تكون موجودة وقد تكون معدومة، أو يقال: الماهيّة موجودة، وليقال: الوجود ماهيّة، فالماهيّة متقدّمة على الوجود كتقدّم الجسم علىالأعراض، فكما أنّ لوازم الماهيّة متأخّرة عنها نحو تأخّر الزوجيّة عنالأربعة، فكذلك الوجود متأخّر عنها، بل تأخّره أظهر منه؛ لأنّه قابلللانفكاك عنها بخلاف لوازمها، وهكذا هي متقدّمة على لوازم الوجودبمرتبتين؛ لتوسّط الوجود بينها وبين لوازم الوجود، كما هو المعلوم.
المقدّمة الثانية: في أنّ الانتقال من شيء إلى شيء آخر يحتاج إلى العلّةوالدليل، فلا يمكن الانتقال إلى ماهيّة الإنسان من الحجر. نعم، يصحّ الانتقالمن ماهيّة الأربعة إلى لازمها ـ أي الزوجيّة ـ لشدّة الاُنس والارتباط بينهما،وأمّا الانتقال من العلّة إلى المعلول أو بالعكس في برهان الإنّ واللِمّ فهومربوط بالوجود، فإنّا نستكشف وجود المعلول من وجود العلّة أو بالعكس؛إذ المشكوك هو الوجود لا الماهيّة، فالانتقال إلى الماهيّة يحتاج إلى الدليل، وليخفى أنّ التبادر مربوط بعالم الماهيّة، فإنّ ألفاظ العبادات كأسماء الأجناسوضعت للماهيات، فلا دخل لها في عالم الوجود، فنستكشف بواسطة التبادرـ كمراجعة الكتب اللغويّة ـ أنّ الألفاظ لأيّ ماهيّة وضعت.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه لا شكّ في أنّ النهي عن الفحشاء، والمعراجيّةوأمثالهما من لوازم الوجود الخارجي، لا من آثار الماهيّة، فكيف يمكنالانتقال من آثار الوجود الخارجي إلى الماهيّة مع تأخّرها عن الماهيّةالموضوع لها بمرتبتين؟! فلا معنى للانتقال من العرض المفارق ـ أي الوجود ـ
(صفحه298)
إلى المعروض ـ أي الماهيّة ـ فضلاً عن لوازم العرض، فلا يعقل تبادر الماهيّةالمجهولة بالذات وبالآثار من لفظ الصلاة ـ مثلاً ـ .
ومن هنا يعرف حال صحّة السلب عن الفاسد أيضاً؛ إذ القول بأنّ الصلاةالفاسدة ليست بماهيّة الصلاة متوقّف على العلم بالماهيّة بوجه من الوجوه،وإذا كانت الماهيّة مجهولة بالذات وبالآثار لتأخّرها بمرتبتين عن الماهيّة ـ كممرّ آنفاً ـ فلا يعقل سلب المجهول بما هو مجهول عن شيء، بل هو مستحيلكما لا يخفى.
ثمّ قال: يمكن تصحيح دعوى التبادر وصحّة السلب إمكاناً لا وقوعاً؛ إذليس كلّ ممكن بواقع، وهو متوقّف على بيان مقدّمتين:
إحداهما: أنّ الغرض من الوضع ـ كما مرّ ـ عبارة عن التفهيم والتفهّمبسهولة، فإنّ الإنسان بعد لحاظه أنّ إيفاء المقاصد من طريق الإشارةبالأعضاء مشكل بل مستحيل في بعض الموارد جعل الألفاظ علامة للمعانيلسهولة التفهيم والتفهّم بها، وهذا أمر جعلي اعتباري.
ثانيهما: أنّ الواضع في مقام وضع اللفظ لمعنى كلّي لا ضرورة له أن يكونعالماً بالموضوع له بجنسه وفصله وسائر الجهات، كما أنّ الواضع للأعلامالشخصيّة ـ مثل الأب ـ لا يكون عالماً بخصوصيّات جنس المولود وفصلهوخُلقه وحتّى خلقه أحياناً مع ذلك يضع لفظ «عليّ» ـ مثلاً ـ لمولوده.
وكذلك في وضع أسماء الأجناس، بلا فرق بينهما من هذه الحيثيّة؛ إذ لإشكال في قول الواضع ـ مثل يعرب بن قحطان ـ في مقام وضع كلمة الإنسانلوجود كذا: وضعت لفظ «الإنسان» لنفسي وأمثالي، مع أنّه لا دليل لنا علىعلمه بجنسه وفصله، إلاّ أنّ واضع ألفاظ العبادات على تقدير ثبوت الحقيقة
(صفحه 299)
الشرعيّة هو الشارع، ولاشكّ في أنّه عالم بماهيّة الموضوع له بتمامها وكمالها،ولكن لا دخل لعلمه بالوضع أصلاً.
ثمّ استفاد من هاتين المقدّمتين في ما نحن فيه، وقال: كما أنّ في الوضع ليلزم أن يكون الواضع واقفاً وعالماً بالموضوع له كذلك في التبادر لا يلزم أنيكون المعنى المتبادر معلوماً بجنسه وفصله حتّى يتبادر إلى الأذهان؛ إذ لا شكّفي أنّ العوام ينسبق إلى أذهانهم من كلمة «الإنسان» معنى مخصوص، مع أنّهملم يفهموا من الجنس أو الفصل شيئاً، فيمكن أن يكون الموضوع له لكلمةالصلاة ـ مثلاً ـ أيضاً غير معلوم بتمام جهاته للمتشرّعة، ولكن يتبادر منها إلىأذهانهم معنى مخصوص ينافي معنى الصوم والزكاة وأمثال ذلك، فلا يضرّ كونمعنى الصلاة مبهماً في ظرف التَبادر، وبذلك تندفع الاستحالة المذكورةويُصحّح دعوى تبادر الصحيح بحسب الإمكان العقلي، إلاّ أنّه لا دليل علىوقوعه في الخارج كذلك؛ لأنّ الصحيحي يدّعي تبادر معنى الصحيح من اللفظوصحّة السلب عن الفاسد، والأعمّي يدّعي تبادر الأعمّ منه، وعدم صحّةالسلب عن الفاسد، ولكنّ الإنصاف والوجدان يحكم بخلافهما، فكلّ منهميحتاج إلى دليل آخر. انتهى.
الكلام في أدلّة القول بالصحيح
ومن الأدلّة التي استدلّ بها على كون ألفاظ العبادات أسام للصحيحطائفتان من الروايات:في أدلّة القول بالصحيح
الاُولى: الأخبار المثبتة لبعض الآثار والخواصّ للمسمّيات، مثل كون«الصلاة معراج المؤمن»، و«الصوم جنّة من النار» إلى غير ذلك.
الثانية: الأخبار النافية للماهيّة والحقيقة في صورة فقدان بعض الأجزاء
(صفحه300)
الغير الركنيّة وبعض الشرائط، مثل: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1) و«لا صلاةإلاّ بطهور»(2)، ونحوهما.
وأمّا تقريب الاستدلال بالطائفة الاُولى حسب ما يستفاد من كلام صاحبالكفاية: أنّه جعل ماهيّة الصلاة ـ مثلاً ـ موضوعاً، وآثار وجودها الخارجيـ كالمعراجيّة ـ محمولاً في القضيّة، مع أنّا نرى ترتّب أمثال هذا العنوان علىخصوص الصلاة الصحيحة فقط لا الأعمّ، فلابدّ إمّا من الالتزام بإضمار كلمة«صحيحة» فيها والقول بأنّ حقيقة القضيّة أنّ الصلاة الصحيحة معراج المؤمن،وإمّا من الالتزام بأنّ ماهيّة الصلاة ومسمّـاها مساوق للصلاة الصحيحة،فالموضوع في الواقع هو الصلاة الصحيحة، والمحمول لوازمها، والأوّل خلافالظاهر، والثاني هو الحقّ، فيستفاد منها أنّ الموضوع له لكلمة «الصلاة» هيالصلاة الصحيحة.
ولكنّ هذا الاستدلال ليس بتامّ؛ لأنّ المعراجيّة وأمثال ذلك وإن كان مناللوازم والآثار للأفراد الصحيحة ـ والمراد من الصلاة في القضيّة المذكورة هوخصوص الصلاة الصحيحة ـ إلاّ أنّ استعمالها فيها بنحو الحقيقة غير معلومهنا، بل لقائل أن يقول: إنّها استعملت فيها بنحو المجاز بقرينة العلم بكونالمحمول في هذه الموارد من لوازم الوجود الخارجي، فإنّ الاستعمال أعمّ منالحقيقة على المشهور.
نعم، لو قلنا بأنّ الأصل في الاستعمال هي الحقيقة في مورد الشكّ ـ كما قالبه السيّد المرتضى قدسسره ـ فيتمّ الاستدلال، ولم يقل به المحقّق الخراساني قدسسره . هذا هو
- (1) المستدرك 4: 158، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
- (2) الوسائل 1: 365، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.