(صفحه 185)
مقابل القبح أو في مقابل عدم الحسن؟ فإن كان المراد هو الأوّل لكان استعمالالغلط قبيحاً، وهو كماترى فإنّا لا نرى القبح في استعمال الغلط، غاية الأمر هوباطلٌ، والباطل ليس بقبيح.
وإن كان المراد هو الثاني فإنّا لا نرى حُسناً في الاستعمالات الحقيقيّة، بللعلّ استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي لا حُسن فيه، ولذا يكون مقصوده منالاستدلال غير معلوم.
وذهب المشهور إلى أنّ المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وملاكالصحّة عبارة عن إذن الواضع وترخيصه، سواء كان ممّا يقبله الطبع أم لا.
وخالفهم السكّاكي في قسم واحد من المجازات، وهو الاستعارة، وقال: إنّذلك حقيقة لغويّة، بمعنى أنّ استعمال لفظ «أسد» ـ مثلاً ـ في «الرجل الشجاع»بعلاقة المشابهة استعمال حقيقي لا مجازي، ولكنّ العقل والذهن تصرّف وجعلادّعاءً ما ليس بفرد فرداً، فكأنّه كان للأسد فردان: أحدهما: فرد حقيقي ـ وهوالحيوان المفترس ـ والآخر: فرد ادّعائي، وهو للرجل الشُجاع.
واستدلّ عليه بأنّه لولا هذا التصرّف لما صحّ التعجّب في قوله:
قامت تظلُّلِني ومن عجب
|
شمسٌ تظلُّلِني من شمس
|
إذ الشاعر ادّعى معشوقته فرداً من الشمس فتعجّب، وإلاّ لا يكون فيتظلّل الجسم تعجّبٌ، وهذا لا يوافق قول المشهور، وهو واضح(1).
ولابدّ من توجيه كلامه بوجهين:
الأوّل: أنّ كلمة «أسد» اسم جنس مثل كلمة «إنسان» وضع لمفهوم كلّيينطبق على جميع المصاديق، وإن استعمل لفظ «أسد» في مصداق خاصّ فهذ
- (1) مفاتيح العلوم: 156 ـ 158.
(صفحه186)
استعمال في غير ما وضع له، كما أنّ لفظ «الإنسان» إن استعمل في فرد خاصّبحيث يدلّ على معنى خاصّ فأيضاً استعمال في غير ما وضع له، ولذا قلنا فيقضيّة «زيدٌ إنسانٌ»: إنّ الحمل فيها حمل شائع صناعي، وملاكه الاتّحاد فيالوجود لا في الماهيّة، بمعنى أنّ «زيداً» فردٌ من الإنسان.
وإذا كان حال الكلّي مع مصداقه كذلك، فكيف حال استعمال لفظ «أسد»في الرجل الشجاع، مثل قولك: «زيدٌ أسدٌ» و«أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة»؟!ومن المعلوم أنّ هذا الاستعمال بطريق أولى استعمال في غير ما وضع له، فلابدّمن توجيه كلام السكّاكي بأنّ لفظ «أسد» ههنا استعمل في معناه الحقيقي،وهي ماهيّة كلّيّة، ولكن في مقام التطبيق ادّعى أنّ الرجل الشجاع أيضاً كانمن أفراد هذه الماهيّة، وهكذا في سائر الموارد.
الثاني: أنّ استعمال الأعلام الشخصيّة بعلاقة المشابهة في غير ما وضع لهيكون بادّعاء العينيّة، مثل لفظ «حاتم» الذي وضع لشخص خاصّ، وليس لهمعنى كلّي إذا استعمل في كلّ من اتّصف بصفة الجود بادّعاء العينيّة، بمعنى: أنّلفظ «حاتم» استعمل في معناه الحقيقي، ولكن ادّعي أنّ «زيداً» هو «حاتم»،وهكذا في قول الشاعر الّذي استدلّ به، فإنّ الشاعر ادّعى أنّ معشوقته عينالشمس، ولذا أطلق الشمس عليها.
وذكر الشيخ محمّد رضا الأصفهاني قدسسره في هذا المقام في كتاب وقاية الأذهانكلاماً قابلاً للتأييد، وتبعه تلميذه الإمام الخميني ـ دام ظلّه ـ(1)، ولكن لابدّ لنمن ذكر مقدّمة لتوضيح كلامه قدسسره وهي: أنّ الاُصوليّين اختلفوا في أنّ تخصيصالعامّ يستلزم المجازيّة فيه أم لا؟ والمتقدّمون منهم يقولون: بالاستلزام،
- (1) وقاية الأذهان: 101 ـ 135.
(صفحه 187)
والمتأخّرون ـ ومنهم المحقّق الخراساني قدسسره (1) ـ يقولون: بعدم الاستلزام، فإنّ لنإرادة استعماليّة وإرادة جدّيّة، ولا يخفى أنّهما قابلتان للتفكيك والتخالف، مثلأنّ المقنن في مقام وضع القانون كان من عادته جعل القانون بصورة الكلّي، ثمّخرّج بعض الموارد بعنوان التبصرة ونحوها، وليس معناه عدم استعمال ألفاظالقانون في معناها، بل حاكية عن أنّ الإرادة الجدّيّة ليست تابعة للإرادةالاستعماليّة.
ومثل قول المولى: «أكرم كلّ عالم»، ثمّ قوله بدليل منفصل: «لا تكرم زيدالعالم»، ومن الممكن عدم تعلّق مراده من أوّل الأمر بـ «إكرام زيد»، ولكنليس معناه عدم استعمال «أكرم كلّ عالم» في معناه، بل المراد أنّ الإرادةالاستعماليّة تتعلّق بكلّ الأفراد والمصاديق حتّى «زيد العالم». وأمّا الإرادةالجدّيّة فلا تتعلّق بإكرامه، فالتخصيص يختصّ في دائرة الإرادة الجدّيّة فقط.
وهكذا قال العلاّمة الأصفهاني قدسسره في باب المجاز، وملخّص كلامه: أنّ اللفظفي جميع المجازات لا يستعمل إلاّ فيما وضع له، ولكنّ ما هو المراد استعمالاً غيرما هو المراد جدّاً، بمعنى أنّ في مقام تطبيق ما هو الموضوع له على غيره إمّيدّعى كونه مصداقاً له ـ كما في الكلّيّات ـ وإمّا يدّعى كونه عينه ـ كما فيالأعلام ـ ثمّ استدلّ بأنّ حقيقة المجاز ليست إلاّ التلاعب بالمعاني، بحيث تحفظبها لطائف الكلام وجمال الأقوال في الخُطب والأشعار التي لا يكون فيالاستعمالات الحقيقيّة منها خبرٌ ولا أثر، كما في قوله تعالى: «وَ قُلْنَ حَـشَ لِلَّهِمَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ»(2)؛ إذ لا يكون حُسن المجاز بالتلاعب
- (1) كفاية الاُصول 1: 335 ـ 339.
(صفحه188)
بالألفاظ وإعارة لفظ الملك عارية عن معناه لوجود يوسف، وجعلهما متّحدانفي الاسم، بل أنّ «الملك» استعمل في معناه الحقيقي، وادّعي أنّ يوسف منمصاديقه، مع أنّ جملة «حاش للّه» لا يناسب لفظ «الملك»، بل يناسب معناه.
وكما في قوله:«وَ سْـءَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا»(1)، فإنّه لا حسن للمجاز إنكان المراد من القرية أهلها؛ إذ لا دليل لحذفه ههنا، بل القرية استعملت فيمعناها الحقيقي، كأنّهم قالوا: تشهد على عدم سرقتنا الجمادات، مثل قولالفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
|
والبيت يعرفه والحلّ والحرم(2)
|
فإنّ جعل هذا الشعر وأمثاله من المجاز بالحذف ـ مع أنّه لا يناسبالبلاغة ـ مخالف لدليل وجود المجازات في الكلام، وهكذا إطلاق العين علىالربيئة ليس إلاّ بادّعاء كونها عيناً باصرة بتمام وجوده لكمال مراقبته وإعمالما هو أثر خاصّ لها، وهذا المعنى يوجب الحسن في الكلام واللطائف فيالأقوال، وأصل وجُود العلائق ليس إلاّ مجوّزاً ومُصحّحاً للاستعمال.
ولا يخفى أنّ المجاز قد يكون في الكلمة مثل: استعمال لفظ «أسد» في الرجلالشجاع، وقد يكون في الإسناد مثل: «أنبت الربيع البقل»، فإنّ إسناد الإنباتـ مع أنّه من أفعاله ـ تعالى إلى الربيع مجازيّ، وقد يكون في المركّب، وهو إرادةالمعنى المجازي من الجملة، مثل قولك للمتحيّر: «أراك تقدّم رجلاً وتؤخّراُخرى»؛ لأنّ ألفاظها استعملت في معانيها الحقيقيّة، وليس للمركّب وضع علىحدة، ويدّعى أنّ هذا الشخص المتردّد والمتحيّر حاله وأمره يتجلّى في هذ
- (2) الإرشاد للمفيد 2: 151.
(صفحه 189)
المثل كأنّه هو، فتكون الإرادة الاستعماليّة ههنا أيضاً متعلّقة بالمعنى الحقيقي،وأمّا الإرادة فتتعلّق بالمعنى المجازي، وليس على مبنى المشهور توجيه للمجازالمركّب.
هذا، والفرق بين قول السكّاكي وهذا القول: أوّلاً: أنّ كلامه منحصرٌ ببابالاستعارة فقط، بخلاف هذا القول فإنّه لا يختصّ بباب دون باب، بل يشملجميع المجازات.
وثانياً: أنّ الإشكالين المذكورين في كلام السكّاكي في أسماء الأجناسوالأعلام الشخصيّة، ثمّ توجيه كلامه بالوجهين المذكورين غير وارد على هذالقول، ولا يحتاج إلى التوجيه والتأويل أصلاً.
وثالثاً: أنّ ادّعاء العينيّة أو الفرديّة في باب الاستعارة على مذهب السكّاكييقع قبل الاستعمال، ثمّ يستعمل اللفظ في المصداق الادّعائي، وعلى ما قال بهالعلاّمة الأصفهاني قدسسره يقع بعد استعمال اللّفظ حين تطبيق طبيعة الموضوع لهعلى المصداق.
ولا يخفى أنّ هذا المعنى مؤيّدٌ بلفظ المجاز؛ إذ الحقيقة عبارة عن الأمرالثابت، والمجاز ما اُخذ فيه عنوان المرور، كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «الدنيا دارالمجاز، والآخرة دار القرار»(1)، فإنّا نمرّ على هذا المعنى من ممرّ المعنى الحقيقي إلىالمعنى المجازي. هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ الدلالة اللفظيّة الوضعيّة على ثلاثة أقسام: المطابقيّة والتضمنيّةوالالتزاميّة، والمعنى المجازي لا يدخل في أحدها؛ إذ المعنى المجازي معنى غيرما وضع له اللّفظ وغير مدلول له.
- (1) نهج البلاغة: الخطبة 203.