(صفحه 115)
حقيقة عرفيّة سهلة التناول والمأخذ، فلا تكون بهذه الدقّة التي تغفل عنهأذهان الخاصّة فضلاً عن العامّة.
وجوابه: أنّ هذه الدقّة التي تراها بلحاظ اصطلاحات مأخوذة هنا،ولاشكّ في أنّ لبّ هذا المعنى من المرتكز الذهني العرفي، مع أنّه لا ربط لدركهموعدم دركهم لواقعيّة المطلب، وإلاّ يجري هذا الإشكال في المعاملات أيضاً.
ثمّ ذكر قدسسره تنظيراً لهذا المعنى وقال: ثمّ إنّه لا شُبهة في اتّحاد حيثيّة دلالة اللفظعلى معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثيّة دلالة سائرالدوال كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي،وفي اللفظ اعتباري، بمعنى: أنّ كون العلم موضوعاً على رأس الفرسخ واقعيّةخارجيّة، وليس باعتبار معتبر(1).
وأشكل عليه بعض الأعلام(2) بأنّ وضع اللفظ ليس من سنخ الوضعالحقيقي كوضع العلم، والوجه في ذلك أنّ وضع العَلَم يتقوّم بثلاثة أركان: أوّلاً:الموضوع وهو العلم، ثانياً: الموضوع عليه وهي ذات المكان، ثالثاً: الموضوع لهوهي الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ.
وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ، فإنّه يتقوّم بركنين: أوّلاً: الموضوعوهو اللفظ، ثانياً: الموضوع له وهي دلالته على معناه، ولا يحتاج إلى شيءثالث ليكون ذلك الثالث الموضوع عليه، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لميكن من الأغلاط الظاهرة، فلا أقلّ من أنّه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفةوالاستعمالات الشائعة، مع أنّ لازم ما أفاده قدسسره هو أن يكون المعنى هو
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 44.
(صفحه116)
الموضوع عليه.
وجوابه: أنّ وضع اللفظ ووضع العلم على رأس الفرسخ كلاهما مشتركانفي أنّ الموضوع له فيهما أمر اعتباري، ودلالتهما على كون هذا المكان رأسالفرسخ، وهذا المعنى لذلك اللفظ، فلا فرق بين المشبّه والمشبّه به من هذهالحيثيّة، فكما أنّ وضع اللفظ يكون من الاُمور الاعتباريّة، وهكذا الإشارةووضع العَلَم يكون كذلك بلا تفاوت وبلا إشكال، فهذا الفرق وهذا الإشكالكلاهما في غير محلّه.
والحقّ في المسألة ما أفاده المرحوم الأصفهاني قدسسره ، أي اعتباريّة الوضعبتمامه، مع ما بيّنا من التوضيح كما مرّ.
إذا عرفت هذا فلنشرع في مسألة تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيّني،ونقول ابتداءً: إنّ هذا التقسيم صحيح أو يكون الوضع على نهج واحد فقط؟لا يخفى أنّ القول بكليهما خال عن الإشكال.
ويمكن أن يقال: إنّ هذا التقسيم مجازي إذ لا دليل على أن يكون الوضععلى قسمين كما قلنا في جواب المحقّق الخراساني قدسسره . وإذا كانت كثرة الاستعمالفي المعنى المجازي بحدّ لا يحتاج معه إلى القرينة حين الاستعمال فيكون هذالمعنى أيضاً معنى حقيقيّاً للفظ، ولكنّه لا يكون معنىً موضوعاً له، ولا منافاةبينهما، فإنّ الوضع أخصّ من الحقيقة، فيكون الوضع التعيّني خارجاً عنحقيقة الوضع.
ويمكن أن يقال: إنّه إذا كانت كثرة الاستعمال في معنى مجازي بحدّ لايحتاجمعه إلى القرينة يعتبر نوع ارتباط واختصاص من طرف أهل هذه اللغة بيناللفظ والمعنى، مثل اعتبار معتبر خاصّ بينهما، فإنّا نرى بالوجدان في مسألة
(صفحه 117)
اعتبار الملكيّة والزوجيّة عدم اطّلاع كلّ العقلاء في كلّ فرد منهما، بل تكونالمسألة على أساس الملاك والضوابط، وإذا كانت الضوابط موجودة يعتبرهمالعقلاء، وإذا لم تكن موجودة فلا يعتبرهما العقلاء، وهكذا في ما نحن فيه، فإذكانت كثرة الاستعمال بحدّ لا يحتاج معه إلى القرينة يعتبر عقلاء أهل اللّغةالارتباط والاختصاص بين اللفظ والمعنى.
في تقسيم الوضع
لمّا كان الوضع فعلاً اختياريّاً للواضع بأيّ معنى من المعاني فسّر فيتوقّفتحقّقه على تصوّر اللفظ والمعنى، وعلى هذا يقع البحث في مقامين: الأوّل: فيالمعنى. الثاني: في اللفظ.في تقسيم الوضع
أمّا المقام الأوّل: فنبحث فيه من جهات: الاُولى: في معنى الأقسام الأربعة،والثانية: في إمكانها عقلاً، الثالثة: في وقوعها خارجاً ومصداقاً.
وأمّا البحث في الجهة الاُولى فقد مرّ أنّ الوضع عبارة عن اختصاصوملازمة بين اللفظ والمعنى، بحيث لا نرتاب في أصالتهما ههنا، مثل: أصالةالزوج والزوجة في باب النكاح، والبائع والمشتري أو الثمن والمثمن في بابالبيع، فإنّك ترى استقلالهما وأصالتهما من حيث اللحاظ والتصوّر بالبداهة فيوضع الأعلام الشخصيّة، فيكون كلاهما في مقام الوضع مستقلاًّ. وأمّا في مقامالاستعمال فيكون اللفظ فانياً وتابعاً للمعنى، وكان حال واضع اللفظ كحالصانع المرآة ومستعمله كمستعملها، فكما أنّ صانع المرآة في مقام صنعهيلاحظها استقلالاً من حيث الكم والكيف والوضع وفي مرحلة استعمالهتلاحظ آليّاً، وكذلك وضع اللفظ واستعمالاته من هذه الجهة، فالمعنى حينيلاحظه الواضع في مقام الوضع قد يكون في نفسه كلّيّاً وقد يكون جزئيّاً.
(صفحه118)
هذا في مقام اللحاظ والتصوّر، وأمّا في مقام الوضع فقد يكون الوضعمطابقاً للمعنى المتصوّر، أي المتصوّر كلّي واللفظ أيضاً وضع لذلك المعنىالكلّي، أو أنّ المتصوّر جزئيّ واللفظ أيضاً وضع لذلك المعنى الجزئي. فالأوّليسمّى الوضع العامّ والموضوع له العامّ، والثاني: الوضع الخاصّ والموضوع لهالخاصّ.
نكتة:
إذا كان المتصوّر معنى كلّيّاً فلا يلزم تصوّره بالكنه والحقيقة، بل يكفيتصوّره إجمالاً؛ إذ لا ربط للوضع بالتصوّر والعلم بحقيقة المعنى، كما أنّا لا نعلمفي مقام وضع الأعلام الشخصيّة لخصوصيّاتها الفرديّة.
هذا، وقد يكون بين المعنى المتصوّر والموضوع له اختلاف، وهذا علىقسمين؛ إذ قد يكون المعنى المتصوّر كلّيّاً والموضوع له عبارة عن مصاديقهوأفراده، ويسمّى هذا بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، وقد يكون المعنىالمتصوّر جزئيّاً والموضوع له المعنى بوصف الكلّيّة، ويُسمّى هذا بالوضعالخاصّ والموضوع له العامّ. هذا تمام الكلام في الجهة الاُولى.
وأمّا الكلام في الجهة الثانية فلا إشكال ولا كلام في إمكان وقوع القسمينالأوّلين، وإلاّ يلزم المناقشة في أصل الوضع، وإنّما الكلام في القسمين الأخيرينمنها.
والمحقّق الخراساني قدسسره (1) فصّل بينهما وقال: إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا أنيكون معنى عامّاً فيوضع اللفظ له تارةً ولأفراده ومصاديقه اُخرى، وإمّا أنيكون معنى خاصّاً لا يكاد يصحّ إلاّ وضع اللفظ له دون العامّ، فتكون الأقسام
- (1) كفاية الاُصول 1: 10 ـ 13.
(صفحه 119)
ثلاثة، وذلك لأنّ العامّ يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هوكذلك فإنّه من وجوهها، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه. بخلاف الخاصّفإنّه بما هو خاصّ لا يكون وجهاً للعامّ ولا لسائر الأفراد، فلا تكون معرفتهوتصوّره معرفةً له ولا لها أصلاً ولو بوجه.
وبعبارة اُخرى: الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً. نعم، ربّما يوجبتصوّره تصوّر العامّ بنفسه فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع عامّاً كما كانالموضوع له عامّاً.
والحاصل: أنّ الوضع إذا كان عامّاً والموضوع له خاصّاً فيمكن وقوعهثبوتاً، وأمّا إذا كان الأمر بالعكس فلا يمكن وقوعه ثبوتاً.
ولكن أشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) وبعض الأعاظم:بأنّهما مشتركان في الامتناع على وجه والإمكان على وجه آخر، فإن كانالمراد من لزوم لحاظ الموضوع له في الأقسام هو لحاظه بما هو حاك عنهومرآةً له، فهما سيّان في الامتناع؛ إذ العنوان العامّ ـ كالإنسان مثلاً ـ لا يحكيإلاّ عن الحيثيّة الإنسانيّة دون ما يقارنها من العوارض والخصوصيّات؛لخروجها عن حريم المعنى اللابشرطي، والحكاية فرع الدخول في الموضوعله.
وإن كان المراد من شرطيّة لحاظه هو وجود أمر يوجب الانتقال إليهفالانتقال من تصوّر العامّ إلى تصوّر مصاديقه أو بالعكس بمكان من الإمكان،فإنّا إذا تصوّرنا «زيد» نتصوّر الإنسان قهراً، ولكنّه لا يكون تفصيلاً، بليكون إجمالاً كما لا يخفى.
- (1) تهذيب الاُصول 1: 15 ـ 16.