(صفحه 153)
الوجود للإنسان ممكنٌ، وللّه تعالى ضروريٌ ولشريك الباري مستحيلٌ؛ لأنّحرف اللام في جميع ذلك يستعمل في معنى واحد، وهو تخصيص مدخولهبخصوصيّة مّا في عالم المعنى على نسق واحد بلا عناية في شيء منها، مع أنّه فيالأوّل يوجب الارتباط؛ إذ الإنسان عارض الوجود ومغاير له، وأمّا في الثانيوالثالث فلا معنى له بعد عينيّة الوجود مع اللّه تعالى في الثاني واستحالةالارتباط في الثالث، فصحّة استعمال الحروف في هذه الموارد تكشف كشفيقينيّاً عن أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط في الخارج.
وهذا الإشكال أيضاً مدفوع بأنّ الوجود للإنسان ممكنٌ، فصورة القضيّةوحقيقتها بعد الدقّة العقليّة عبارة عن أنّ الوجود الإمكاني للإنسان، وهذا لشبهة فيه.
وحقيقة القضيّة الثانية أنّ الوجود الضروري للّه تعالى، ومعلوم أنّالارتباط موجودٌ ههنا؛ إذ العينيّة تتحقّق بين اللّه تعالى والوجود، لا بينه تعالىوضروري الوجود.
وهكذا في القضيّة الثالثة فإنّ حقيقتها أنّ الوجود الممتنع لشريك الباري،وبينهما نسبة محقّقة واقعيّة بحسب الأدلّة التوحيديّة؛ إذ لابدّ في مقام المقايسةبينهما من المقايسة بين امتناع الوجود وشريك الباري، لا بين الوجود وشريكالباري، وفي المثال الثاني بين اللّه تعالى وضرورة الوجود، لا بينه تعالىوالوجود. فهذا الإشكال أيضاً في غير محلّه.
القول الخامس: ما اختاره بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات(1)وهو: أنّ المعاني الحرفيّة تباين المعاني الاسميّة بتمام الذات.
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 75 ـ 82.
(صفحه154)
بيان ذلك: أنّ الحروف على قسمين: أحدهما: ما يدخل على المركّباتالناقصة والمعاني الإفرادية «من» و«إلى» و«على» ونحوها، وثانيهما: ما يدخلعلى المركّبات التامّة ومفاد الجملة، مثل: حروف النداء والتشبيه والتمنّيوالترجّي ونحو ذلك.
أمّا القسم الأوّل فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسميّة في عالم المفهوموالمعنى، وتقييدها بقيود خارجة عن حقائقها، ومع هذا لا نظر لها إلى النسبوالروابط الخارجيّة، ولا إلى الأعراض النسبيّة الإضافيّة؛ إذ التخصيصوالتضييق إنّما هو في نفس المعنى، سواء كان موجوداً في الخارج أم لا.
توضيح ذلك: أنّ المفاهيم الاسميّة بكلّيّتها وجزئيّتها وعمومها وخصوصهقابلةٌ للتقسيمات إلى ما لا نهاية، باعتبار الحصص أو الحالات التي تتضمّنها،ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات، سواء كان الإطلاقبالقياس إلى الحصص المنوّعة مثل: إطلاق الحيوان بالإضافة إلى أنواعهالمندرجة تحته، أو بالقياس إلى الحصص المصنَّفة أو المشخّصة، مثل: إطلاقالإنسان بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده، أو بالقياس إلى حالات شخص واحد،من حيث كيفه وكمّه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة في طول الزمانومرور الأيّام.
ومن البديهي أنّ غرض المتكلّم في مقام التفهيم والإفادة كما يتعلّق بتفهيمالمعنى على إطلاقه وسعته، كذلك قد يتعلّق بتفهيم حصّة خاصّة منه، فيحتاجحينئذٍ إلى مبرز لها في الخارج، وبما أنّه لا يكاد يمكن أن يكون لكلّ واحد منالحصص والحالات مبرزاً مخصوصاً؛ لعدم تناهي الحصص والحالات، بل عدمتناهي حصص معنى واحد وحالاته، فضلاً عن المعاني الكثيرة، فلا محالة
(صفحه 155)
يحتاج الواضع الحكيم إلى وضع ما يدلّ عليها ويوجب إفادتها عند قصدالمتكلّم تفهيمها، وليس ذلك إلاّ الحروف والأدوات وما شابهها من الهيئاتالدالّة على النسب الناقصة، كهيئات المشتقّات وهيئة الإضافة والتوصيف،فكلّ متكلّم متعهّدٌ في نفسه بأنّه متى قصد تفهيم حصّة خاصّة من معنى بأنيجعل مبرزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه على نحو القضيّة الحقيقيّة، لا بمعنى أنّهجعل بإزاء كلّ حصّة أو حالة حرفاً مخصوصاً أو ما يحذو حذوه، بنحو الوضعالخاصّ والموضوع له الخاصّ؛ لأنّه غير ممكن ـ كما عرفت ـ لعدم تناهيالحصص.
فكلمة «في» في جملة: «الصلاة في المسجد حكمها كذا» تدلّ على أنّ المتكلّمأراد تفهيم حصّة خاصّة من الصلاة، وكان في مقام بيان حكم هذه الحصّة لالطبيعة السارية إلى كلّ فرد، وأمّا كلمتا «الصلاة» و «المسجد» فهممستعملتان في معناهما المطلق واللابشرط، بدون الدلالة على التضييقوالتخصيص أصلاً. ومن هنا كان تعريف الحرف بـ «ما دَلّ على معنى قائمبالغير» من أجود التعريفات وأحسنها.
ثمّ قال في آخر كلامه: إنّ المعاني الحرفيّة عبارة عن تضييقات نفس المعانيالاسميّة في عالم المفهوميّة وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها بلا نظر إلىأنّها موجودة في الخارج أو معدومة، ممكنة أو ممتنعة، ومن هنا قلنا: إنّاستعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد، والذي دعاني إلىاختيار ذلك القول أسباب أربعة: السبب الأوّل: بطلان سائر الأقوال، السببالثاني: أنّ المعنى الذي ذكرناه مشترك فيه جميع موارد استعمال الحروف منالواجب والممكن والممتنع على نسق واحد. السبب الثالث: أنّ ما سلكناه في
(صفحه156)
باب الوضع من أنّ حقيقة الوضع: هي التعهّد والتباني، ينتج الالتزام بذلكالقول لا محالة، السبب الرابع: موافقة ذلك للوجدان ومطابقته لما ارتكز فيالأذهان. هذا ملخص كلامه قدسسره .
ولكنّ التحقيق: أنّ هذا القول لا يمكن المساعدة عليه كما عرفت من كلماتنإجمالاً، وأمّا الأسباب الأربعة المذكورة فلا توجب التمسّك بهذا القول، فإنّكعرفت الجواب عن ثلاثة منها ولا نطيل الكلام ههنا.
وأمّا السبب الرابع فلابدّ من الجواب عنه، وهو: أنّه لا معنى لتضييق المعانيالاسميّة بالحروف في الجملات الخبريّة؛ إذ المتكلّم فيها يحكي عن الواقع كما هوبلا نقصٍ وزيادة، مثل جملة: «زيدٌ في المدرسة»، فهي تحكي عن الواقعةالمتحقّقة في الخارج بدون إضافة المتكلّم تضييقاً لها.
نعم، سلّمناه في الجملات الإنشائيّة، وأنّ المولى يرى حصّة خاصّة منالصلاة معراج المؤمن ـ مثلاً ـ فلذا يقول: «صلّ في المسجد»، ولا شكّ في أنّللحصّة الخاصّة واقعيّة وحقيقة توجب انطباق الماهيّة المطلقة للصلاة عليها،وكما أنّ الصلاة لا تتحقّق إلاّ بإيجادها خارجاً كذلك الصلاة في المسجد لتتحقّق إلاّ بإيجادها في المسجد، واعلم أنّ الحروف مبيّنة ومشخّصة لهذهالخصوصيّة الواقعيّة، ولا ربط للتقيّد بعالم المفهوم ومقام الدلالة والإثبات، مثلأن يقول المولى: «الصلاة في المسجد تكون مطلوبة لي» بصورة الجملة الخبريّة،وكذا الحروف في الجملات الإنشائيّة حاكية عن حصّة خاصّة، هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّه ليس للتضييق معنى واحد، بل هو على أنواع مختلفة؛ إذ التضييقالابتدائي غير التضييق الانتهائي، وهكذا، ولا نعلم أنّ مراده أيّ نوع منها.
وثالثاً: أنّ التضييق فعل المتكلّم، ومعنى وضع الحروف له وضعها لعمل
(صفحه 157)
المتكلّم، ويرجع هذا إلى ما قال به المحقّق النائيني قدسسره من أنّ معاني الحروفمعان إيجاديّة، وهو كما ترى.
أقول: إنّه لابدّ لنا بعد ملاحظة الأقوال في المسألة من لحاظ أنّ الوضع فيباب الحروف واحد أم لا؟ وأنّ مفاد حرف واحد منها في الجملة الخبريّةمغاير لمفاده في الجملة الإنشائيّة أم لا؟ وقبل الخوض في البحث نلاحظالجملة المعروفة في الألسنة لحاظاً دقّيّاً، وهي عبارة عن جملة: «سرت منالبصرة إلى الكوفة» ونبحث فيها في مراحل:
الاُولى: في بيان الواقعيّة التي تحكي هذه الجملة الخبريّة عنها، فلا يخفى أنّالذاهب إذا ذهب من «البصرة» وبلغ «الكوفة» كانت أربعة واقعيّات محقّقة بلإشكال، وهي واقعيّة السائر، والسير، والبصرة، والكوفة، ولكن مع هذا ليشكّ الوجدان السليم في تحقّق الواقعيّتين الاُخريين باسم الابتدائيّةوالانتهائيّة، بحيث إن انعكس السير تغيّرت الواقعيّتان وإن لم تتغيّر الواقعيّاتالأربعة المذكورة. هذا ممّا لا شبهة فيه.
إن قلت: إنّ الممكن في الخارج إمّا جوهرٌ وإمّا عرضٌ، وكلّ منهما زوجتركيبيٌّ، يعني مركّبٌ من ماهيّة ووجود، ولا ثالث لهما.
قلنا: لا دليل على الانحصار فيهما؛ ضرورة أنّا نرى بالوجدان الواقعيّتينالمذكورتين وراء الواقعيّات الأربعة الموجودة، ولكنّهما واقعيّتان ضعيفتان حتّىمن وجود العرض، فإنّه يحتاج في وجوده الخارجي إلى الموضوع، ولكنّهماحتياج صرف فانيتان في البصرة والكوفة والسير، ولا تحقّق لهما بدونهما،وهما مندكّان فيها، بداهة أنّ عنوان الابتدائيّة والانتهائيّة لا يكون قابلللرؤية، مع أنّ لهما واقعيّة حقيقيّة.