(صفحه160)
فكلمة «من» في جملة: «سر من البصرة إلى الكوفة» من أيّهما؟ لاشكّ في أنّإيجاديّته مخالف للوجدان، ولا معنى لحكائيّته بعدُ. هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ السير في هذه الجملة يكون مأموراً به، ولابدّ في المأمور به منكونه أمراً كلّيّاً، ولا يمكن أن يكون جزئيّاً خارجيّاً؛ إذ السير قبل تحقّقه ليسبجزئي خارجي، وبعد تحقّقه في الخارج يكون الأمر به لغواً، فكيف يكونالموضوع له واقعيّة خارجيّة وخصوصيّة خاصّة بعد القطع بأنّ استعمال كلمة«من» في هذه الجملة لا يكون مجازاً؟!
وأجابوا عنه بوجوه:
الأوّل: أنّ المعاني الحرفيّة واقعيّات اندكاكيّة في أطرافها ومتعلّقاتها ولاستقلال لها، فتكون الحروف من حيث الكلّيّة والجزئيّة تابعة لمتعلّقاتها،فيكون معنى «من» في جملة: «سر من البصرة إلى الكوفة» كلّيّاً تبعاً للسير.
الثاني: ما يستفاد من كلام اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) وهو: أنّ منحن فيه يكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ولازم ذلك تعدّدالمعاني والموضوع له واستقلال كلّ منهما، والفرق بينهما من جهتين، وهما أنّالوضع في المشترك اللفظي متعدّد بخلاف ما نحن فيه، وأنّ المعاني فيه محدودةبخلاف ما نحن فيه؛ إذ المعاني ههنا متعدّدة بتعدّد أفراد العامّ، فلا مانع منالقول: بأنّ كلمة «من» في هذه الجملة استعملت في معان متعدّدة.
إن قلت: إنّ استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد محالٌ.
قلنا: أوّلاً: لا نُسلّم استحالته كما سيأتي مفصّلاً، وثانياً: لو سلّمنا الاستحالةفهي في موارد كانت للّفظ معان مستقلّة، مثل: كلمة «عين» لا في موارد كانت
- (1) تهذيب الاُصول 1: 31 ـ 32.
(صفحه 161)
للّفظ معان تبعيّة كما في ما نحن فيه.
ولكنّ التحقيق في الجواب: أنّه لابدّ من توضيح نكتة ههنا، وبها يندفعالإشكال ولا نحتاج إلى الجوابين المذكورين، وهي: أنّ صاحب الكفاية قدسسره لميبيّن معنى الجزئيّة التي ذكرها في جملة: «سرت من البصرة إلى الكوفة»، وكذمعنى الكلّيّة التي ذكرها في جملة: «سر من البصرة إلى الكوفة»، ولابدّ منتوجيهه بأنّ السير الذي تحقّق في الماضي وكان المتكلّم في مقام الإخبار عنهكانت له خصوصيّات متعدّدة، من قبيل تحقّقه في زمان معيّن وطريق معيّنومع وسيلة مشخّصة، وهكذا، فيكون هذا المعنى جزئيّاً خارجيّاً. وأمّا في مقامالأمر في قولنا: «سر من البصرة إلى الكوفة» يكون السير المأمور به كلّيّاً؛ إذالمولى لم يقيّد تحقّقه بزمان كذا وطريق كذا و... فتحصل موافقة الأمر بامتثالكلّ مصداق من المصاديق، ولا معنى للكلّية والجزئيّة سوى ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول: لاشكّ ولا شبهة في أنّه لا دلالة للجمل الخبريّة علىزمان السير وطريقه وسائر خصوصيّاته، ولا تحكي عنها أبداً، والالتزام بأنّدلالة هذه الجمل ناقصة باطلٌ إجماعاً ومخالف للوجدان، فيكون كلمة «من»في جملة: «سرت من البصرة إلى الكوفة» حاكية عن الواقعيّة المتعلّقة بالسيروالبصرة، وهي تمام معناها، ولا دخل للزمان وسائر الخصوصيّات فيه، ولفرق في هذا المعنى بينها وبين جملة: «سر من البصرة إلى الكوفة» وكلتاهمتفيدان واقعيّة واحدة، كالأسامي إذا استعملت في الجمل الإنشائيّة لا فرقبينها وبين ما إذا استعملت في الجمل الخبريّة، فكيف يكون معنى كلمة «من»في الاُولى جزئيّاً وفي الثانية كلّيّاً؟!
وبالجملة، إنّما الحروف على قسمين: قسم منها يسمّى بـ «الحكائيّة» وهي
(صفحه162)
تحكي عن الواقعيّة، سواء كانت في ضمن الجمل الخبريّة أو الإنشائيّة، وقسمٌمنها يسمّى بـ «الإيجاديّة» وهي حروف توجد بها معان لم تتحقّق قبلها.
وأمّا كيفيّة الوضع في القسم الأوّل فهي لا تكون بصورة الوضع العامّوالموضوع له الخاصّ، بأن تكون هنا حين الوضع ماهيّة كلّيّة، فيضع اللفظلمصاديقها بعد لحاظها، فقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ هذا المعنى محالٌ، بل الواضعيلاحظ عنواناً ثمّ يضع اللفظ للمعنونات؛ إذ لا يمكن له لحاظ المعنونات جميعاً،فلابدّ من لحاظ عنوانها نحو عنوان «النسبة الابتدائيّة» ولا دخل له في حقيقةالمعنونات، وهذا يشبه بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.
وأمّا كيفيّته في القسم الثاني فهو قريبٌ من هذا المعنى، فإنّ الواضع حينوضع حرف «و» للقسم يلاحظ مفهوم القسم ثمّ يضع اللفظ لإيجاد القسم،ومعلوم أنّ الجزئيّة مساوقة للوجود، فيكون الموضوع له لحرف «و» عبارةعن مصاديق القسم، وكما أنّ حرف «من» لو استعمل بوحدته لا يكون لهمعنى أصلاً، كذلك حرف «و» وهذه الخصوصيّة ـ أي الخصوصيّة التعلّقيّة محفوظة في كلا القسمين من الحروف، ولا يخفى أنّ عنوان «إيجاد القسم» ليسبقسم، كما أنّ عنوان «النسبة الابتدائيّة» ليس بنسبة.في القضاي
في القضاي
والمشهور أنّ القضايا الحمليّة على قسمين: قسم منها يُسمّى بـ «الحملالأوّلي الذاتي» وقسم منها يُسمّى بـ «الحمل الشائع الصناعي» والأوّل علىقسمين: فإنّ الموضوع والمحمول قد يكونا متّحدي المفهوم والماهيّة، كما فيقولك: «الإنسان إنسانٌ» و«الإنسان بشرٌ» بناءً على الترادف، فيكون ما يفهممن أحدهما عين مايفهم من الآخر، وقد يكونا متّحدي الماهيّة ومختلفي
(صفحه 163)
المفهوم، كما في قولك: «الإنسان حيوان ناطق» إذ ليس ما يفهم من أحدهمعين ما يفهم من الآخر، ومعلوم أنّ لازم الاتّحاد في الماهيّة والمفهوم الاتّحاد فيالوجود كما هو واضح، وهذا هو الملاك في القضيّة الحمليّة بالحمل الأوّليالذاتي.
وأمّا القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع الصناعي فهي أيضاً على قسمين: فإنّالملاك فيها الاتّحاد في الوجود والمغايرة في الماهيّة والمفهوم، ولكنّ حمل المحمولعلى الموضوع قد يكون بلا واسطة، بل يكون الموضوع مصداقاً حقيقيّللمحمول، كما في قولك: «زيدٌ إنسان» إذ لاشكّ في مغايرتهما من حيث المفهوموالماهيّة، فإنّ ماهيّة «زيد» عبارة عن الحيوان الناطق المقيّد بخصوصيّاتفرديّة، وهذه غير ماهيّة الإنسان، ويبقى بينهما الاتّحاد في الوجود فقط، ومعهذا قد يكون حمله عليه مع الواسطة، كما في قولك: «الجسم أبيضٌ» لأنّ حملالأبيض عليه يحتاج إلى الواسطة؛ إذ الجسم صار معروضاً للبياض، والبياضأبيضٌ فالجسم أبيضٌ.
وأمّا المعروف في الألسنة من أنّ القضايا الحمليّة مركّبة من ثلاثة أجزاءـ أي الموضوع والمحمول والنسبة ـ فهذا التركّب يتحقّق في جميع مراحلالقضايا، يعني: في مرحلة التلفّظ والقضيّة الملفوظة، وفي مرحلة المفهوموالقضيّة المعقولة وما يعقله المخاطب من القضيّة الملفوظة، وفي مرحلة الواقعيّةوالقضيّة المحكيّة.
وتوضيحه يتوقّف على مقدّمتين: الاُولى: أنّ النسبة ـ كما مرّ ـ تكون منالاُمور الواقعيّة المتقوّمة بطرفيها، فلابدّ من التغاير في طرفي النسبة، وبدونه لمعنى للنسبة كما هو واضح.
والثانية: أنّ الأصل في مراحل القضايا هي المرحلة الواقعيّة والقضيّة
(صفحه164)
المحكيّة؛ إذ الغرض من الجملة الخبريّة إلقاء الواقعيّة عن طريق اللفظ إلىالمخاطب وانتقاله إليها من هذا الطريق.
إذا عرفت هذا فنقول: لاشكّ في أنّ النسبة ليست موجودة في النوع الأوّلمن القضيّة الحمليّة بالحمل الأوّلي الذاتي؛ إذ لا تتحقّق المغايرة بين الموضوعوالمحمول، بل هما متّحدان من حيث الماهيّة والمفهوم والوجود، ولا مغايرةبينهما حتّى المغايرة بالإجمال والتفصيل مع كونها من أصدق القضايا، نحو:«الإنسان إنسانٌ» وهكذا في النوع الثاني منها، مثل: «الإنسان حيوان ناطق»وهذه القضيّة ليست قابلة للمناقشة، مع أنّه لا تتحقّق النسبة فيها أيضاً؛ إذ لمغايرة بين الإنسان والحيوان الناطق حتّى تتحقّق النسبة بينهما، وهكذا فيالنوع الأوّل من القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع الصناعي، مثل: «زيد إنسانٌ»؛لأنّ الغرض في هذه القضيّة ليس إلاّ إثبات فرديّة «زيد» للإنسان، وإذا كانالأمر كذلك لا نرى في الخارج واقعيّة باسم «زيد» وفي مقابلها واقعيّة اُخرىباسم الإنسان حتّى تكون بينهما النسبة.
وأمّا النوع الثاني منها مثل: «الجسم أبيض» فإذا رأينا في الخارج اتّصافالجسم بالبياض فلا نشكّ في تحقّق النسبة بينهما؛ إذ الجسم وجود جوهريوالبياض وجود عرضيّ يعرض له، وبينهما تتحقّق النسبة، ولكن في مقامالحكاية عن هذه الواقعيّة قد يقول المتكلّم: «الجسم له البياض» وقد يقول:«الجسم أبيض»، وبينهما بونٌ بعيد؛ إذ لا تتحقّق النسبة في الصورة الثانية،والأبيض عبارة عن ذات ثبت لها البياض، وهو في الخارج عين الجسمومتّحد معه، ولا يكون الجسم شيء والأبيض شيء آخر حتّى تتحقّق بينهمالنسبة، وأمّا في الصورة الاُولى فالظاهر أنّه تتحقّق النسبة فيها؛ إذ الجسم