(صفحه164)
المحكيّة؛ إذ الغرض من الجملة الخبريّة إلقاء الواقعيّة عن طريق اللفظ إلىالمخاطب وانتقاله إليها من هذا الطريق.
إذا عرفت هذا فنقول: لاشكّ في أنّ النسبة ليست موجودة في النوع الأوّلمن القضيّة الحمليّة بالحمل الأوّلي الذاتي؛ إذ لا تتحقّق المغايرة بين الموضوعوالمحمول، بل هما متّحدان من حيث الماهيّة والمفهوم والوجود، ولا مغايرةبينهما حتّى المغايرة بالإجمال والتفصيل مع كونها من أصدق القضايا، نحو:«الإنسان إنسانٌ» وهكذا في النوع الثاني منها، مثل: «الإنسان حيوان ناطق»وهذه القضيّة ليست قابلة للمناقشة، مع أنّه لا تتحقّق النسبة فيها أيضاً؛ إذ لمغايرة بين الإنسان والحيوان الناطق حتّى تتحقّق النسبة بينهما، وهكذا فيالنوع الأوّل من القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع الصناعي، مثل: «زيد إنسانٌ»؛لأنّ الغرض في هذه القضيّة ليس إلاّ إثبات فرديّة «زيد» للإنسان، وإذا كانالأمر كذلك لا نرى في الخارج واقعيّة باسم «زيد» وفي مقابلها واقعيّة اُخرىباسم الإنسان حتّى تكون بينهما النسبة.
وأمّا النوع الثاني منها مثل: «الجسم أبيض» فإذا رأينا في الخارج اتّصافالجسم بالبياض فلا نشكّ في تحقّق النسبة بينهما؛ إذ الجسم وجود جوهريوالبياض وجود عرضيّ يعرض له، وبينهما تتحقّق النسبة، ولكن في مقامالحكاية عن هذه الواقعيّة قد يقول المتكلّم: «الجسم له البياض» وقد يقول:«الجسم أبيض»، وبينهما بونٌ بعيد؛ إذ لا تتحقّق النسبة في الصورة الثانية،والأبيض عبارة عن ذات ثبت لها البياض، وهو في الخارج عين الجسمومتّحد معه، ولا يكون الجسم شيء والأبيض شيء آخر حتّى تتحقّق بينهمالنسبة، وأمّا في الصورة الاُولى فالظاهر أنّه تتحقّق النسبة فيها؛ إذ الجسم
(صفحه 165)
مُبتدأ والبياض خبره، وبينهما النسبة متحقّقةٌ، ولكنّ أهل الأدب في مقامالتركيب قالوا: إنّ للجار والمجرور متعلّق محذوف، ويعبّر عن هذا السنخ منالقضايا بالقضيّة المأوّلة، وأصل القضيّة عبارة عن «الجسم ثابتٌ له البياض»،وكلمة «ثابتٌ» خبرٌ للمبتدأ، وحينئذٍ لا فرق بينها وبين قضيّة «الجسمأبيضٌ» من حيث عدم النسبة فيهما؛ إذ «الجسم» ليس غير ثابت له البياض،بل يكون بينهما اتّحاد، وهو لا يوافق النسبة كما لا يخفى.
ولكنّ التحقيق: أنّه إن لم نلاحظ القضيّة من نظر النحويين فلا تكون النسبةالموجودة في هذا السنخ من القضايا مدلولة للقضيّة الحمليّة، بل هي مدلولةٌللحروف، ويشهد على ذلك إفادة نسبة هذه الجملة وإن كانت بصورة المركّبغير التام، مثل: «الجسم الذي له البياض»، هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ المحمول في هذه القضيّة عند المشهور عبارة عن جملة: «لهالبياض» فلابدّ من وجود النسبة أيضاً بين «الجسم» و«له البياض»؛ إذالبياض لا يكون خبراً حتّى تتحقّق النسبة بينهما، مع أنّه لم يقل به أحد.
والحاصل: أنّه في القضايا إمّا أنّه ليس للنسبة أثرٌ ولا خبر، أو كانت مدلولةللحروف ـ كما مرّ آنفاً ـ مع أنّ الظاهر من كلامهم عدم الفرق بين القضايالموجبة والسالبة من جهة الاشتراك في وجود النسبة فيها، ولكن كانت النسبةفي الاُولى إيجابيّة، وفي الثانية سلبيّة، كما في قولك: «زيد ليس بقائم»، فكيفتكون النسبة قابلةً للتصوّر ههنا؟! إذ لا يكون في الخارج قيام حتّى يقع طرفللنسبة، والسلب أمرٌ عدميّ، ولا يمكن أن يكون العدم طرفاً للنسبة، مع أنّتحقّق النسبة على أمرين وجوديّين كما هو واضح.
فلابدّ من توجيه كلامهم على خلاف ظاهره بأنّ مرادهم من النسبة
(صفحه166)
السلبيّة في القضايا السالبة عبارة عن سلب النسبة، وحينئذٍ ليست النسبة فيهموجودة، فلا أصل ولا أساس لما قال به المشهور من تركّب القضايا من ثلاثةأجزاء، وإن كان هذا منشأً لأكثر التعاريف والمباني في المنطق والاُصولوالعلوم الأدبيّة.
ومناط الحمل في القضايا ـ كما أشار إليه صاحب الكفاية قدسسره (1) في بابالمشتقّ ـ هو الاتّحاد والهوهويّة، وله مراتب ودرجات، وأعلى مراتبه: عبارةعن الاتّحاد في المفهوم والماهيّة والوجود، مثل: «الإنسان إنسانٌ».
وثانيتها: عبارة عن الاتّحاد في الماهيّة والوجود، مثل: «الإنسان حيوانناطق».
وثالثتها: عبارة عن الاتّحاد في الوجود فقط، وهي أدنى مرتبة الاتّحادوالهوهويّة، مثل: «زيدٌ إنسانٌ». ومعلوم أنّ هذه القضيّة صحيحة إذا كانالحمل بمناط الاتّحاد في الوجود، وأمّا إذا كان بمناط الاتّحاد في الماهيّة فهيقضيّة كاذبة؛ إذ ليس بينهما اتّحاد في هذه المرحلة.
وأمّا النوع الثاني من القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع الصناعي إذا كانتالحكاية بصورة «الجسم أبيض» و«زيد قائمٌ» فلا شبهة في الاتّحاد بينالموضوع والمحمول في مرحلة الوجود، إنّما الإشكال في سنخ الأخير منها،مثل: «الجسم له البياض»، و«زيد في الدار»، فإنّ كلمة «في» تدلّ على الظرفيّة،وهي واقعيّة ثالثة لا يمكن اتّحادها مع الموضوع أو المحمول، فلا تكون جملة:«في الدار» قابلة للحمل على الموضوع، كما أنّ البياض لا يكون قابلاً للحملعلى الجسم، فلابدّ لها من المتعلّق، مثل كلمة «كائنٌ» أو «ثابتٌ» أو «مستقرٌّ»،
- (1) كفاية الاُصول 1: 84 .
(صفحه 167)
ومعلُومٌ أنّ بين «زيد» وكائنٌ في الدار اتّحاد وهوهويّة، ولذا عبّروا عن هذهالقضايا بالقضايا المأوّلة، بمعنى أنّ المحمول فيها ليس قابلاً للحمل بدونالتأويل.في الإنشاء والإخبار
هذا، والملاك في القضايا السالبة عبارة عن نفي الاتّحاد والهوهويّة، ولكنليس المراد من سلب الاتّحاد سلبه عن جميع المراحل ـ أي مرحلة المفهوموالماهيّة والوجود ـ بل لابدّ فيه من مراعاة نوع الاتّحاد المقصود في القضيّةالموجبة، فإذا قيل: «زيدٌ قائمٌ» في الموجبة و«زيدٌ ليس بقائمٍ» في السالبة يعلمأنّ المراد من الاتّحاد وسلبه فيهما يكون في عالم الوجود فقط، كما أنّه إذا قيل فيالموجبة: «الإنسان حيوان ناطق» وفي السالبة: «الإنسان ليس بحيوان ناهق»نستكشف أنّ المراد من الاتّحاد وسلبه فيهما يكون في مرحلة الماهيّة فقط،فيظهر منه أنّه إذا قيل بلحاظ الاتّحاد في المفهوم: «الإنسان ليس بحيوان ناطق»كانت هذه قضيّة صحيحة، كما أنّه إذا قيل بلحاظ الاتّحاد في المفهوم «الإنسانحيوان ناطق» كانت هذه قضيّة كاذبة. هذا تمام الكلام في باب القضايا.
الإنشاء والإخبار
قال المحقّق الخراساني قدسسره (1) ـ بعد ما اختار أنّ المعنى الحرفي والاسميمتّحدان بالذات من حيث الوضع والموضوع له والمستعمل فيه، ومختلفان منحيث اللحاظ الآلي والاستقلالي في مقام الاستعمال ـ : ثمّ لا يبعد أن يكونالاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل فيحكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء يستعمل في قصد تحقّقه وثبوته وإن
(صفحه168)
اتّفقا فيما استعملا فيه، بمعنى أنّهما أيضاً متّحدان من حيث الوضع والموضوع لهوالمستعمل فيه، ومختلفان في الداعي، فإنّه في الإنشاء قصد إيجاد المعنى، وفيالخبر قصد الحكاية عنه وإن كان في كلامه نوع من المسامحة، وظاهره يدلّعلى خلاف مقصوده.
توضيح ذلك يتوقّف على مقدّمة، وهي: أنّ الجملات التي يستعملها المتكلّمفي مقام الإفادة على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يستعمل في مقام الإخبار فقط،مثل جملة «زيدٌ قائمٌ» فإنّها جملة خبريّة محضة، واستعمالها في مقام الإنشاءباطلٌ قطعاً.
وثانيها: ما يستعمل في مقام الإنشاء فقط، ولا يتحقّق بها إلاّ الإنشاء، مثلصيغة «افعل» وهي أمرٌ إنشائيٌ، سواء استعمل في مقام الأمر الوجوبي أوالاستحبابي أو في مقام توهّم الحذر؛ إذ الجواز أيضاً أمرٌ إنشائيٌّ.
وثالثها: ما قد يستعمل في مقام الإنشاء، وقد يستعمل في مقام الإخبار،مثل جملة «بعت داري» ونحوها.
ولا يخفى أنّ المراد من الاختلاف في الخبر والإنشاء في كلامه قدسسره هو القسمالثالث منها، وقال: إنّ لجملة «بعت كذا» معنى واحداً، لا دخل للإنشاءوالإخبار في حقيقته، ولكن إن استعملت في مقام إنشاء البيع تجد عنوانالإنشائيّة، وإن استعملت في مقام الإخبار عمّا سبق تجد عنوان الخبريّة، وليسلها معنيان مختلفان في الحقيقة.
ولكن يرد عليه: بأنّه قدسسره استفاد من الأدلّة الامتناع والاستحالة في بحثالحروف؛ إذ الخصوصيّة التي قال بها الجمهور في الموضوع له الحروف لا محلّلها خارجاً ولا ذهناً، ثمّ اختار المبنى المذكور، وأمّا في بحث الخبر والإنشاء