(صفحه206)
في وضع المركّبات
الأمر السادس
وضع المركّبات
لا يخفى أنّ هذا النزاع إنّما يأتي فيما إذا كان للمركّب وضع غير وضعالمفردات التي هي الهيئة التركيبيّة، مثلاً: في قولنا: «زيدٌ قائمٌ» قد وضعت كلمة«زيد» لمعنى خاصّ، وكلمة «قائمُ» هيئة ومادّة لمعنى آخر، والهيئة القائمة بهملمعنى ثالث، فلا إشكال في كلّ واحد من تلك الأوضاع الثلاثة، وإنّما الكلاموالإشكال في وضع مجموع المركّب من هذه المواد على حدة.
وامّا وضع هيئة الجملة فلا كلام في وضعها للنسبة أو الهوهويّة كما مرّ،ومنشأ هذا النزاع قول بعض النحويّين بأنّه كما أنّ للمفرد وضعاً كذلكللمركّب وضع، وإن احتمل بعض أنّ مراد القائل بالوضع وضع هيئة المركّبلا هو بنفسه، فيكون النزاع لفظيّاً، ولكنّ صريح كلام بعض آخر منهم يأبىعن هذا الاحتمال، وهو أنّ مفاد مجموع المركّب هو معنى هيئة الجملة الخبريّة.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الصحيح هو أنّه لا وضع للمركّب بما هو مركّب،واستدلّ له بدليلين:
الأوّل: أنّ الواضع لمّا رأى تحقّق الحقائق الكلّيّة والجزئيّة في العالم وأنّه ليمكن الإشارة العمليّة إليها، أو ممكن ولكنّها توجب العسر والحرج، ولذا وضع
(صفحه 207)
لكلّ واحد منها لفظاً حتّى يحكي عنها، فيكون غرضه من الوضع إفادة المعانيالواقعيّة، فلو لم تكن الواقعيّة لم يتحقّق الوضع أصلاً.
ويمكن أن يقال: إنّ لنا عناوين وألفاظاً مع أنّها ليست لها واقعيّة وحقيقة،ولكنّها تحكي عن المعاني، فلا تكون دائرة الوضع محدودةً بالواقعيّات، مثلاً:عنوان «شريك الباري» و«اجتماع النقيضين»، وأمثال ذلك بعد إقامة البرهانعلى استحالة كلّ واحد من هذه العناوين لا واقعيّة لها، ولكنّها تدلّ علىالمعاني.
وجوابه: أوّلاً: بأنّ كلمة «الباري» وضعت لذات واجب الوجود، وهكذكلمة «الشريك» وضعت لمطلق الشركة، وأمّا تلفيق المضاف والمضاف إليهفيكون من عمل القائل بداعي جعلهما موضوعاً لحمل كلمة «محال» عليه، لوضعه لها، وهكذا في جملة «اجتماع النقيضين محالٌ».
إن قلت: لو سلّمنا هذا المعنى في المركّبات فكيف التوفيق في المفردات التيلا واقعيّة لها، وتدلّ على المعاني، مثل كلمة «ممتنعٌ» و«محالٌ»؟
قلنا: إنّ الواضع لايكون له وضع لهيئة كلمة الممتنع ومادّتها ملفّقين، بللمادّتها وضع ولهيئتها وضع آخر، وكلّ منهما يحكي عن المعنى، وتلفيق الهيئةوالمادّة يكون من عمل القائل، وليس التلفيق في لسان الواضع.
وثانياً: أنّ المقصود من الواقعيّة ليس التحقّق والعينيّة الخارجيّة، بل المرادمنها ما يقبل الإيجاب والسلب والإثبات والنفي، بل لو كان ممّا اتّفق الكلّ علىعدمه ـ مثل اجتماع النقيضين ـ كان له واقعيّة باعتبار وقوعه موضوعاً لكلمة«محال»، ولأنّه لو لم تكُنْ محاليّة اجتماع النقيضين لا يمكن إثبات واقعيّة منالواقعيّات، فيكون لاجتماع النقيضين وشريك الباري معنى، ولكنّه ممتنعٌومحال.
(صفحه208)
ولو سلّمنا الوضع فيهما فهو لمحاليّة مفادهما، لا أنّه ليس لهما معنى أصلاً،وهكذا في كلمة «ممتنع» أيضاً كان له معنى ومفاد، ولكنّه لا يعقل أن يتحقّق فيالخارج.
وحينئذٍ نقول: لا حاجة لنا إلى وضع المركّبات، فإنّ لكلّ جزء من أجزاءالجمل وضعاً، مثلاً في جملة «زيدٌ قائمٌ» يكون وضع لكلمة «زيد» ووضعانلكلمة «قائم» من حيث المادّة والهيئة، ووضع للهيئة القائمة بالجملة، ومنالواضح أنّ هذه الأوضاع الأربعة وافية لإفادة الغرض المتعلّق بالمركّب،ولايبقى هنا غرض آخر حتّى لا تكون تلك الأوضاع وافيةً لإفادته حتّىنحتاج إلى وضع المركّب بما هو على حدة لإفادة ذلك الغرض، فلا يوجدغرض بصورة «شريك الباري» ومفاد كلمة «ممتنع».
وبعبارة اُخرى: أنّ وضع المركّب على حدة إمّا أن يكون لغرض آخر غيرالغرض المترتّب على وضع المفردات، وهو مفقود وجداناً؛ إذ الغرض حاصلمنه، فيلزم تحصيل الحاصل، وهو محالٌ. وإمّا بلا غرض فيلزم اللغويّة، وهيقبيحةٌ.
ولذا لما التفت إلى هذا المعنى بعض النحويّين قال في مقام التوجيه: إنّ مفادمجموع المركّب هو مفاد الجملة الخبريّة، وأنّ النسبة أو الهوهويّة مدلول لهما،نظير الألفاظ المترادفة التي تدلّ على معنى واحد.
ولكنّ هذا التوجيه باطلٌ لوجهين:
الأوّل: لأنّ أصل الترادف محلّ للإشكال؛ لأنّ عدّة من المحقّقين قائلة: بأنّلكلّ لفظ من الألفاظ المترادفة خصوصيّة لم تكن هي في غيره، وهو قريبٌ؛لأنّ الذوق الارتكازي يحكم بأنّ مورد استعمال أحدها غير مورد استعمالالآخر.
(صفحه 209)
الثاني: لو سلّمناه ولكن الغرض منه تسهيل الأمر للمستعملين في التعبيرعن المعنى الموضوع له، بلحاظ كثرة ابتلاء الناس بهذا المعنى، ولذا اقتضتالمصلحة أن يحكي أكثر من لفظ واحد عن هذا المعنى، ولا يخفى أنّ هذالغرض ليس موجوداً في ما نحن فيه، فإنّ هيئة المركّب ومجموع المركّب أمرانمتلازمان غير قابلين للتفكيك، فيلزم اللّغوية.
مضافاً إلى أنّ هذا الوضع يستلزم إفادة المعنى الواحد مرّتين والانتقال إليهبانتقالين؛ لأنّ تعدّد الوضع يقتضي تعدّد الإفادة والانتقال، بحيث كان انتقالالثاني في عرض انتقال الأوّل؛ لتحقّق كلّ من الدالّين في عرض تحقّق الآخر،وهذا مخالف للوُجدان.
وأمّا الدليل الثاني فهو ما قال به ابن مالك، وهو: أنّه لو كان لمجموع مركّب«زيدٌ قائمٌ» وضع على حده، فلا محالة لا يكون وضعاً نوعيّاً؛ إذ كلّ واحد منالمركّب كان مبايناً للآخر، ولذا لا يتصوّر أن يكون الوضع نوعيّاً، فيكونالوضع فيه شخصيّاً ولكنّه مردودٌ لوجهين:
الأوّل: أنّ المركّب لا يعدُّ ولا يحصى باعتبار الزمان والأشخاص، واللّغات،فلا يمكن الوضع فيه.
الثاني: بأنّ وضع المركّب يوجب تعطيل الخطابة وابتكار الكلام وتشكيلالجملات الذوقيّة، فإنّ المتكلّم لابدّ له أن يلاحظ كلّ جملة بأنّ لها وضعاً أم لا،فانقدح من ذلك أنّ أصل الوضع فيه مردودٌ، كما لا يخفى على المتفطّن.
(صفحه210)
في علامات الحقيقة والمجاز
الأمر السابع
علامات الحقيقة والمجاز
وقد ذكروا للحقيقة علائم:
منها ـ التبادر:
لا يخفى أنّ المتقدّمين من الاُصوليّين عدّوا إحدى العلامات تنصيص أهلاللّغة، ولكنّ المتأخّرين منهم لم يتعرّضوا له، ولعلّه لعدم حجّيّته عند الأكثر،وأمّا التبادر فلابدَّ لنا من البحث فيه في جهات:
الاُولى ـ في معنى التبادر: وهو خطور المعنى في الذهن بمجرّد سماع اللفظمن غير قرينة وتقرّره فيه، لا سبقة حصول المعنى في الذهن بالنسبة إلى معنىآخر وإتيان الآخر بعده.
الجهة الثانية ـ في مورد التبادر: واعلم أنّه لا ينحصر في الاستعمالات الدائرةبين الحقيقة والمجاز أو الصحّة والبطلان، بل يعرف منه المعنى الحقيقي ولو لميكن استعمال، فإذا كان أحد جاهلاً باستفادة معنى اللفظ منه ـ كما لو شكّ فيكون الماء موضوعاً للجسم السيّال البارد بالطبع ـ فيكون التبادر طريقلإثباته، فيقول لأهل اللّغة العربيّة في مقام الاستعلام: «جئني بماء» ويلاحظ ميتبادر عنده، فهو الموضوع له، فتكون موارد الاستفادة من التبادر وسيعة.