(صفحه 219)
ولكن بهذا التعبير أيضاً لا يندفع الإشكال؛ إذ لو كان مراده كون اللفظوالمعنى معاً محمولاً فقد مرّ آنفاً أنّه غير متصوّر، ولو كان مراده كون المعنىمحمولاً فمع أنّه مخدوش ـ كما ذكر ـ مخالف لصريح كلامه.
ويحتمل أن يكون مراده أنّ اللفظ بما هو مندكّ وفانٍ في المعنى وصورة له،فاللفظ بهذه الصورة يكون محمولاً على الموضوع، ولكنّه أيضاً لعب بالكلمات،ولا يوجب تعيين المحمول في القضيّة بدون إشكال؛ إذ لابدّ من كون اللفظ أوالمعنى أو كليهما محمولاً فيها، وكلّ ذلك مردودٌ كما لا يخفى، فالإشكال في محلّه.
والحاصل: أنّ ما ذكر في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه ليجري ههنا، ولا يدفع الإشكال. وأمّا ما ذكر فيه من التغاير بالإضافة إلىالمستعلم والعالم فهو جار في ما نحن فيه أيضاً؛ لأنّ صحّة الحمل عند العالمعلامة الحقيقة للمستعلم، وكذلك في جانب عدمه.
واستشكل في علاميّة صحّة الحمل المحقّق العراقي قدسسره (1) بأنّ مجرّد صحّةالحمل لا يكون من علائم الحقيقة، فإنّنا نرى صحّة الحمل في موارد مع أنّه لشبهة في كونه مجازاً، حيث لا يصحّ استعمال اللفظ الموضوع لأحد المفهومين فيالمفهوم الآخر على الحقيقة كقولك: «الإنسان حيوان ناطق»، حيث إنّهما معكونهما متّحدين ذاتاً ووجوداً لا يصحّ استعمال أحدهما في الآخر؛ نظراً إلى مبين المفهومين من التغاير، وكونه في أحدهما بسيطاً وفي الآخر مركبّاً؛ لأنّالمدار في الحقيقة وصحّة الاستعمال إنّما هو على وحدة المفهوم منها كما فيالإنسان والبشر، وصحّة الحمل ـ ولو بالحمل الذاتي فضلاً عن الشائعالصناعي الذي مداره الاتّحاد في الوجود ـ لا يقتضي وحدة المفهوم الموجبة
- (1) نهاية الأفكار 1: 67 ـ 68.
(صفحه220)
لصحّة استعمال أحد اللفظين في الآخر بنحو الحقيقة.
وفيه: أوّلاً: أنّ أصل علاميّة صحّة الحمل مخدوش كما مرّ آنفاً.
وثانياً: مع قطع النظر عن الإشكال وقبول أصل العلاميّة لا دليل لنا علىاستثناء مورد من موارد الحمل؛ لأنّ الموضوع وإن كان مركّباً في بعضالموارد، ولكنّ ذلك التركّب يستفاد من المعنى البسيط بحسب التحليل العقلي،فينتج المعنى الحقيقي بأنّ كلّ ما يرجع جنسه إلى الحيوان وفصله إلى الناطقفهو المعنى الحقيقي للإنسان، مع أنّه لابدّ في مقام الحمل من تجريد الموضوععن قيد التركّب، وإلاّ لم يصحّ الحمل أصلاً.
ومنها ـ الاطّراد:
وقد ذكروا الاطّراد علامة للحقيقة، وعدمه علامة للمجاز، وعرّفوهبتعاريف مختلفة، منها: ما ذكره المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) وحاصله: ليس الغرضتكرار استعمال لفظ في المعنى وعدمه، فإنّه إذا صحّ الاستعمال فيه مرّة واحدةيصحّ فيه مرّات عديدة، من دون فرق في ذلك بين الاستعمال الحقيقي والمجازي،بل مورد هاتين العلامتين ما إذا اُطلق لفظ باعتبار معنى كلّي على فرد، ولكنّهيشكّ أنّ ذلك الكلّي مطّرد أم لا، فإذا وجد صحّة الإطلاق مطّرداً باعتبار ذلكالكلّي كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة، وإن لم يكن مطّرداً كشف عن كونهمن المعاني المجازيّة.
مثلاً: إطلاق لفظ «رجل» على «زيد» باعتبار كونه واجداً لخصوصيّةالرجوليّة صحيح ومطّرد، وهكذا إطلاقه على كلّ من كان واجداً لها منالمصاديق، وهذا يكشف عن كونه معنى حقيقيّاً له. وأمّا إطلاق لفظ «الأسد»
- (1) نهاية الدراية 1: 84 .
(صفحه 221)
على كلّ فرد من أفراد الشجاع فلا يطّرد ولا يصحّ مطلقاً، بل يصحّ إطلاقهباعتبار هذا المفهوم الكلّي على الإنسان الشجاع، ولا يصحّ إطلاقه على كلّرجل يشبهه، كما إذا كان شبيهاً له في البخر، وهكذا يكشف عن كونه منالمعاني المجازيّة.
ولكن استشكل في علاميّة الاطّراد أيضاً بأنّ الاطّراد ليس لازماً مساويللوضع حتّى يكون أمارة عليه، بل هو لازم أعمّ من الوضع، فليس دليلعليه؛ لعدم دلالة العامّ على الخاصّ، ووجه أعمّيّته هو وجود الاطّراد في المجازأيضاً، حيث إنّ علاقة المشابهة في أظهر الأوصاف، كشجاعة الأسد ـ مثلاً توجب جواز استعمال لفظ «الأسد» في جميع موارد وجود هذه العلاقة،فالاطّراد بلحاظ كلّ واحدة من العلائق الموجودة حاصل، مع أنّ استعمالاللّفظ في المعاني بلحاظ تلك العلائق مجاز.
وأجاب عنه صاحب الكفاية(1)، وحاصل جوابه: أنّ الاطّراد في المجازاتإنّما يكون بلحاظ أشخاص العلائق، بحيث يكون شخص المستعمل فيه دخيلفي صحّة الاستعمال وحُسنه، لا بملاحظة أنواعها كما هو شأن الاطّراد فيالحقائق، فاستعمال لفظ «الأسد» في الرجل الشجاع بعلاقة المشابهة بينهما وإنكان مطّرداً، إلاّ أنّ اطّراده إنّما هو بملاحظة شخص هذه العلاقة، أعني علاقةالمشابهة بينه وبين الرجل الشجاع بخصوصه، ولذا لا يحسن استعماله فيالعصفور الشجاع مع وجود الشجاعة فيه، وهذا بخلاف الاطّراد في الحقائق،فإنّه يكون بملاحظة أنواع العلائق من دون خصوصيّة لمورد الاستعمال،فيكون الاطّراد علامة للحقيقة، وعدمه بالنسبة إلى نوع العلاقة علامة
- (1) كفاية الاُصول 1: 28 ـ 29.
(صفحه222)
للمجاز.
وأجاب عنه أيضاً المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) بقوله: الكلام في عدم اطّرادالمعاني المجازيّة المتداولة بين أهل المحاورة، وإن كان المعنى المجازي المناسبللحقيقي واقعاً أخصّ ممّا هو المتداول لتخلّفه في بعض الموارد، فإذا اطّرداستعمال لفظ في معنى بحدّه فهو علامة الوضع؛ إذ ليس في المعاني المتداولةبحدّها ما هو كذلك إلاّ في الحقائق.
ولكنّ التحقيق: أنّه لا يساعد هذا التفسير من الاطّراد، فإنّه أوّلاً: يرجع إلىصحّة الحمل بعد القول بأنّ زيداً رجلٌ.
وثانياً: أنّ إطلاق الرجل على «زيد» و«عمرو» و«خالد» لخصوصيّةالرجوليّة لا يستلزم أن يكون هذا المعنى المردّد معنى حقيقيّاً للرجل ويكونهذا الإطلاق صحيحاً؛ لأنّه يمكن أن يكون إطلاق الرجل على جميع الأفرادبنحو المجاز، بل لا يمكن إحراز صحّة الإطلاق وعدمه إلاّ بالعلم بالمعنىالحقيقي والمجازي؛ إذ العلم بصحّة الإطلاق وعدمه في مورد الاطّراد وعدمهمتوقّف على العلم بهما، وهذا دورٌ.
وإذا قيل: إنّ هذا الإطلاق عند العرف صحيح.
قلنا: إنّ هذا يرجع إلى المغايرة بين العالم والمستعلم، وهو خارج عن محلّالبحث، فهذا البيان على الظاهر ليس بتامّ.
وأمّا التفسير الآخر فلاُستاذنا المرحوم السيّد البروجردي قدسسره وملخّص مأفاده بعد قبوله علاميّة الاطّراد وعدمه للحقيقة والمجاز: أنّ الاطّراد هو حسنالاستعمال بنحو الإطلاق، بخلاف عدم الاطّراد.
- (1) نهاية الدراية 1: 85 .
(صفحه 223)
بيان ذلك: أنّ الاستعمالات الحقيقيّة لها شرط واحد، وهو كون المقام مقامالإخبار بوقوع الرؤية ـ مثلاً ـ على الرجل الرامي، كما في قولنا: رأيت رجليرمي، وصحّة هذا الإطلاق لا يختصّ بزمان خاصّ أو مكان خاصّ؛ لأنّالإطلاق حقيقيٌّ وانطباقه لا ينحصر بمورد دُون مورد. وأمّا الاستعمالاتالمجازيّة فيحتاج إحرازها إلى اُمور ثلاثة: الأوّل: كون المقام مقام الإخباربتعلّق الرؤية به وأنّه يرمي.
الثاني: حسن ادّعاء كونه أسداً، بأن يكون بالغاً أعلى درجات الشجاعة.
الثالث: كون المقام مقام إظهار شجاعته، كما في قولنا: رأيت أسداً يرمي؛لأنّ استعمال لفظ «الأسد» في الرجل الشجاع إذا كان المقصود ـ مثلاً ـ تحريكهإلى الجهاد حسنٌ، بخلاف إطلاقه فيه في مقام دعوته إلى الأكل، مثلاً: بأن يقالله: «يا أسد تفضّل إلى أكل الطعام»، بل يكون إطلاق «الأسد» عليه قبيحاً فيهذا المقام.
ثمّ قال: إنّ جعل عدم الاطّراد علامة للمجاز وإن فرض أنّه ليس بلحاظنوع العلاقة بل بلحاظ الصنف منها، لكن قولكم: «فالمجاز أيضاً على هذمطّردٌ» واضح الفساد، بعد ما ذكرناه من أنّ صرف تحقّق صنف العلاقةومصحّح الادّعاء لا يكفي في الاستعمال ما لم يكن المقام مقام إظهار هذالادّعاء.
وفيه: أوّلاً: أنّه لا يحسن إطلاق الحقائق بنحو الإطلاق، فلابدّ لها أيضاً منالمناسبة، كقولنا بعد العلم باسم زوجة أحد: السلام عليك يا زوج فلانة، فإنّهمع حقيقته قبيحٌ، حتّى في باب الأدعية لابدّ لنا من رعاية المناسبة في القول؛لأنّه لا يقال في مقام طلب المغفرة ـ مثلاً ـ : يا قهّار، اغفر لي، بل يقال: